قراءة تحليلية لأزمة الرواتب الحالية .. بقلم:مؤيد عفانة

16/01/2015

وطن للأنباء: ما تزال الموازنة العامة للسلطة الوطنية الفلسطينية تعاني من خلل هيكلي مزمن؛ يتمثل في جانبيّ الموازنة العامة (النفقات والإيرادات)، فالطابع العام للموازنة العامة يتمثل في اعتماد السلطة الفلسطينية على نفقات عامة تفوق إمكانيات الاقتصاد ضمن الموارد المالية المتاحة، ففي الوقت الذي تعتبر فيه النفقات العامة التزام للسلطة الفلسطينية لا يمكن تجنبه وبالأخص فاتورة الرواتب والتي تستحوذ على حصة الأسد من إجمالي النفقات الجارية، فإنه في المقابل نجد أنّ معظم الإيرادات العامة هي خارج سيطرة السلطة الوطنية، بل وتعتمد على الأوضاع السياسية السائدة، وهذه الإيرادات يأتي معظمها من مصدرين غير مؤكدين وهما تحويلات أموال المقاصّة من إسرائيل والمساعدات الدولية. وقد ترتب على هذا الخلل الهيكلي عجز مزمن في الموازنة العامة، مما وضع السلطة الفلسطينية -وما زال- تحت وطأة أزمة مالية مستمرة؛ وقد ظهرت بعض مظاهر هذه الأزمة مراتٍ عدّة في احتجاز إسرائيل لأموال المقاصّة، وأخرها الخاصة بشهر كانون أول الماضي، مما منع السلطة الفلسطينية من الوفاء بأكثر التزاماتها أولويّة وهي رواتب موظفي القطاع العام، والتي تعتبر المحرك الأساس لعجلة الاقتصاد المحلي، ولا يبدو في الأفق أي ضمان لعدم تكرار الأزمة – في حال حلّها - في الشهر القادم أو الذي يليه ... .

وعلى الرغم من كون السلطة الوطنية الفلسطينية سعت إلى تحقيق الاستدامة المالية حيث ورد في خطة التنمية الوطنية الفلسطينية 2011- 2013 سعي السلطة إلى الاعتماد على الإيرادات المحلية، والحد من الاعتماد على المساعدات الخارجية لتغطية الإنفاق الجاري وسد الدين العام المتراكم، والحيلولة دون وجود عجز مالي في الموازنات المستقبلية، إلا أنّ السلطة الفلسطينية ما زالت تعاني مشكلة مستعصية وهي ضعف مستوى الاستدامة المالية مما يُشكّل عليها تحدياً في أي وقت تقرر فيه إسرائيل حجز العوائد الضريبية "المقاصة" التي تجبيها لصالح السلطة الفلسطينية والمقدرة بحوالي (6.545) مليار شيكل خلال العام 2014، أي حوالي 70% من صافي الإيرادات العامة.
وعلى النقيض من سعي السلطة الحدّ من الاعتماد على المساعدات الخارجية، فان الموازنة العامة 2014، زادت من الاعتماد على التمويل الخارجي لسد عجز الموازنة العامة وللنفقات التطويرية، حيث بلغت قيمة عجز الموازنة العامة 2014 (5.865) مليار شيكل، تم اعتماد قيمتها كتمويل خارجي بقيمة (4.785) مليار شيكل لعجز الموازنة، و(1.080) مليار شيكل للنفقات التطويرية، وبلغت نسبة التمويل الخارجي حوالي (39%) من مجمل الموازنة العامة، والتي بلغت قيمتها في العام 2014 (15.176) مليار شيكل .

وتشير البيانات المالية إلى أنّ موازنة 2014 توقعت ارتفاع في التمويل الخارجي بنسبة 22.67% عمّا تحقق في العام 2013، دون توضيح على أي أساس تم اعتماد تلك التقديرات أو ما هي الضمانات لها.
ومن خلال قراءة سريعة لأرقام وزارة المالية الفلسطينية المحدّثة حتى نهاية شهر تشرين ثاني-نوفمبر الماضي أي بعد انقضاء 11 شهرا من عمر الموازنة العامة 2014، نجد ان قيمة المساعدات والمنح الخارجية لدعم الموازنة اقل بكثير من المخطط، حيث بلغت  قيمة تلك المنح والمساعدات الخارجية (3.397) مليار شيكل، في حين كان المخطط له للعام 2014 (4.785) مليار شيكل، أي (71%) فقط من المخطط، في حين بلغت قيمة المساعدات والمنح الخارجية المخصصة للدعم التطويري فقط (450.3) مليون شيكل، في حين كان المخطط (1.080) مليار شيكل، أي (42%) فقط من المخطط، وبانحراف سلبي قيمته (629.7) مليون شيكل عن المخطط.
وعلى صعيد النفقات، لوحظ ارتفاع كبير في استخدام السلع والخدمات مقارنة بالمخطط، حيث تم إنفاق (2.953) مليار شيكل، في حين كان المخصص (1.937) مليار شيكل لكامل العام، ورغم حديث الحكومة المتكرر عن وقف التعيينات إلا للضرورة، ما زال هناك تضخم وزيادة كبيرة في بند الرواتب والأجور، حيث بلغت الزيادة (75.2) مليون شيكل على فاتورة شهر تشرين ثاني (647.2) مليون شيكل، مقارنة مع شهر كانون ثاني (572) مليون شيكل، وبنسبة زيادة بلغت حوالي 13.14%.

كما لوحظ ارتفاع كبير في صافي الإقراض مقارنة بالمخطط، حيث بلغت قيمة صافي الإقراض (955.8) مليون شيكل في حين كان المبلغ المخصص في موازنة 2014 (600) مليون شيكل لكامل العام، أي بانحراف قدره (355.8) مليون شيكل. وهذا البند يمثّل استنزافا للموازنة العامة، خاصة وأنها تقوم بدفع أموال عِوَضَاَ عن البلديات مقابل رسوم الكهرباء وخدمات أخرى من أمول المقاصّة، رغم قيام معظم البلديات بالجباية المسبقة من المواطنين، وخاصة لرسوم الكهرباء!!

إن استمرار اعتماد السلطة الوطنية الفلسطينية على المساعدات والمنح الخارجية لسد عجز الموازنة، خلق مشكلة ترتب عليها تراكم في المتأخرات، والتي تتصاعد في كل شهر وبلغت مع نهاية شهر تشرين ثاني/نوفمبر (2.7296) مليار شيكل، ولا توجد رؤية واضحة عن كيفية سداد السلطة الوطنية الفلسطينية لتلك المتأخرات في حال عدم وصول المساعدات والمنح الخارجية، وخاصة مع انتهاء العام المالي 2014!!

وما زالت مشكلة الدّين العام قائمة لدى السلطة الوطنية الفلسطينية، وعلى الرغم من تحقيق وزارة المالية لنجاح محدود في تخفيض الديّن العام خلال النصف الأول من العام، إلا إنه ارتفع عمّا كان عليه في نهاية العام 2013، من (8.2648) مليار شيكل إلى (8.7481) مليار شيكل، في نهاية تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي.
إنّ الأزمة المالية التي طفت على السطح خلال الفترة الحالية وتمثّلت في أزمة الرواتب، تعتبر مظهر من مظاهر الأزمة المالية الأكبر للسلطة الوطنية الفلسطينية، وهي أزمة قديمة حديثة تتمثل في وضع مالي صعب يَحول دون تحقيق استدامة مالية فعلية، أو القدرة على الوفاء بالتزاماتها وخاصة الرواتب، هذا الوضع المالي يتمثل في عدّة مؤشرات منها : العجز المزمن في الموازنة العامة مما يؤثر على إمكانية الوفاء بالالتزامات، تراكم المتأخرات للقطاع الخاص، المديونية المرتفعة مقارنة بالناتج العام، وغيرها.. والوضع المالي الراهن يتطلب من السلطة الوطنية الفلسطينية اتخاذ إجراءات وحلول جذرية وتدريجية للحد من صعوبة هذا الوضع وخلق نوع من الاستقرار المالي، وفي هذا المجال توجد ضرورة لخلق نهج تشاركي بين وزارة المالية والأكاديميين والباحثين ومؤسسات المجتمع المدني للمساهمة في الخروج من الأزمة المالية، لأن بقاء الوضع على ما هو عليه الآن يمثّل التكلفة الأكبر مستقبلا، وهو الخيار الأخطر على المدى البعيد، فمن الممكن حل أزمة الرواتب الراهنة بطرق عدة مثل الاقتراض من البنوك، أو من خلال استجابة إسرائيل للضغوط الدولية للإفراج عن أموال المقاصّة، أو دفع نصف راتب ..، ولكن ما الضمان أن لا يتكرر ذات السيناريو الشهر القادم أو بعد شهر أو بعد عام؟! والى متى سيبقى التزام السلطة الوطنية بدفع الرواتب وغيرها من التزاماتها وبرامجها التطويرية رهينة مزاج قادة إسرائيل بحجز أو الإفراج عن أموال المقاصّة؟!!