مدينة القدس و سفارة الأميركيين !

18/12/2017

كتبت: ثريا عاصي

احتل المستعمرون الإسرائيليون فلسطين على دفعتين، الأولى انتهت سنة 1948 بما أتفق على اعتباره "نكبة قومية"، والثانية تجسدت في حزيران 1967 بالنكسة التي تبين في ما بعد أنها أكثر من نكسة، ولكن هذا موضوع آخر! فما أنا بصدده هو مقاربة مسألة نقل «السفارة الأميركية» في إسرائيل إلى مدينة القدس، التي احتلها الإسرائيليون كما لمحنا على مرحلتين. فلقد استولوا على غرب القدس في سنة 1948 ثم على القدس الشرقية في سنة 1967.

أما الولايات المتحدة الأميركية التي يمكننا القول انها حالياً، راعية الدول العربية جميعها باستثناء تلك التي تحاول الولايات المتحدة الأميركية هدمها وإعادة هيكلتها وتنظيمها بحيث تلائم مصالحها، فإنها لا تعترض على احتلال فلسطين وعلى إقامة دولة إسرائيل على أرضها ومن المعروف أيضاً أنها تنسق مع هذه الأخيرة سياساتها على صيعد منطقة الشرق الأوسط كلها، بل والعالم أيضاً، بالتالي إن الفصل بين دولة اسرائيل من جهة وبين الولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية بالإضافة أيضاً إلى الاتحاد الأوروبي ليس واقعياً في هذا العالم، المعولم، بصرف النظر عن الخلافات الثانوية أو الشكلية التي تنشأ مؤقتاً بين هذه الكتل المتداخلة والمتشابكة بعضها ببعض.

ينبني عليه أن هذه الكتل الدولية لا تتخذ مبدئياً مواقف قد ينتج منها عرقلة دائمة أو تأخير مؤثر في مجرى تنفيذ المشروع الاستعماري الإسرائيلي في منطقة الهلال الخصيب، على الرغم من أن تعريف هذا المشروع يوكّد ميـِّزته الرئيسية كونه يـَعدُ سكان هذه المنطقة بالظلم والاغتصاب والسياسة العنصرية. بكلام أكثر وضوحاً وصراحة تدعم وتشارك الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي في مشروع استعماري في فلسطين والهلال الخصيب يحاكي في جوهره مشاريع إستعمارية مماثلة طبّقتها هذه الدول في القرن التاسع عشر بواسطة حروب إبادة، في افريقيا وأميركا والهند الصينية!

من البديهي أن الولايات المتحدة الأميركية لن تعترف غير مجبرة، بأن فلسطين أو جزءاً منها يحتله المستعمرون الإسرائيليون بصورة غير شرعية، كما وأعتقد في هذا السياق وبغض النظر عن التصريحات والبيانات، ان دول الاتحاد الأوروبي ليس لديها موضوعياً سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة الأميركية. لماذا إذاً تحول تصريح الرئيس الأميركي إلى حدث؟ هل وجود السفارة الأميركية في مدينة القدس من عدمه يبدل شيئاً في الواقع المعيشي لأناس يعانون من سياسة المستعمرين الإسرائيليين التي ترتكز على القمع والإرهاب من أجل إجبار الناس على الرحيل والتخلي عن ممتلكاتهم للمستوطنين، ليس في مدينة القدس وحدها وإنما في كل مكان في فلسطين أيضاً؟

لماذا خرجت الآن، بسبب تصريح الرئيس الأميركي الذي لا يتضمن جديداً الدعوات إلى المقاومة؟ هل كان الوضع المعيشي مقبولاً قبل التصريح المذكور، فكانت المقاومة متوقفة؟ طبعاً لا ... لا شك في أن التصريح الذي كان لا لزوم له في ظاهر الأمر، لا للمستعمِرين الإسرائيليين ولا للمستعمَرين الفلسطينيين ولجيرانهم أيضاً ! الإجابة عندي هي طبعاً أن الوضع المعيشي ليس مقبولاً البتة، يكفي أن نتذكر مشهد العمال الفلسلطينيين الذي يحتشدون في الثالثة أو الرابعة صباحاً عند حاجز إسرائيلي من أجل الذهاب إلى العمل في المستعمرات. وبالتالي فإن المقاومة هي مسألة وجود وبقاء على هذه الأرض ! من البديهي أنه لا يعود لي أمر الدخول في تفاصيل هذه المسألة .

فما أود قوله هو ان مداورة الإسباب التي جعلت الرئيس الأميركي يعلن عن عزمه نقل سفارة بلاده، أوصلتني إلى عدة فرضيات:
الفرضية الأولى هي أن الغاية هي إثارة الفلسطينيين واستفزازهم من أجل جرّهم إلى التعبير عن احتجاجهم وغضبهم بواسطة أفعال ارتجالية ضعيفة، قصيرة النفس، تجري على حدود المشروع الاستعماري الاستيطاني، فيواجهها حراس هذا المشروع بشراسة وحشية شاملة لا تعفو عن صبي أو عن طفلة. لا جدال في أن القصد من ذلك هو استنفاد الطاقة على المقاومة في وقت قصير، والبرهان على عدم جدوى المقاومة بالمطلق، كون المواجهة هي مع جنود إسرائيليين يتصرفون كالوحوش الكاسرة، أضف إلى إظهار ميزان القوى غير المتكافئ. بكلام آخر من المحتمل أن يكون الهدف هو إفهام الفلسطينيين بأن الحل لقضيتهم، التي يتظاهر الإسرائيليون بأنهم يعترفون بوجودها، لن يتأتى عن طريق المقاومة ولكن كما يزعم الإسرائيليون أنفسهم، طبعاً، عن طريق التعاون والتنسيق اللذين تسمح بهما الصداقة التي تربط بين القطبين العربيين الرئيسين مصر والسعودية.

والفرصة الثانية هي توريط الدول العربية أكثر فأكثر في تصفية القضية الفلسطينية وتوكيلهم بدور شهود الزور. فجميع هؤلاء الحكام يدينون بالولاء للولايات المتحدة الأميركية. يـُحكى أن العمل جار في المملكة السعودية على قدم وساق في سيرورة تحديثية لن تترك مجالاً إلا وستخضعه لمعايير جديدة في سياق «ثورة» ربيعية ناعمة جداً، عُهد بتحقيقها إلى شركات أجنبية!
والدليل على هذا كله أن هذه الدول العربية لا تستطيع الإقدام على قطع علاقاتها الديبلوماسية التي تربطها بإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، إلى درجة أنها تخشى أن يقطع الأخيرون علاقاتهم بهذه الدول التي مسخت وشوهت إلى أبعد مما كان بإلإمكان تصوره في سنوات 1970.

هذا يـُظهر للفلسطينيين أمرين، أولاً انهم معزولون، وان ما يسمى الأمة العربية لم يعد لها وجود قطعياً، فبالأمس غزي العراق فوقفت دول العرب، إما إلى جانب الغزاة وإما على الحياد، ثم غزيت ليبيا ثم سورية ثم اليمن ! ينبني عليه أن الدولة في هذا الزمان عديمة النفع، او بحسب المصطلح المعروف، فاشلة!

الفرضية الثالثة : البرهان على شلل الشارع العربي. لم تستطع الجماهير العربية المحافظة على بلدانها. إما لأن الحكام يخافون من الناس وإما لأن الجهل المنتشر بشكل واسع يجعل الغوغاء أسياداً وقادة إليهم ترجع الأمور. الخائفون لا ينصرون!
من المحتمل جداً ألا يكون الملك الشاب يعلم هذا كله، ولكن الإسرائيليين والاميركيين وحلفاء الملك الشاب في بلدان العرب يعرفون بالتأكيد بواطن الأمور . مهما يكن فلا منأى في الختام عن القول إن دولة المستعمرين لا تدوم . ولكن الصراع ضدها طويل يزيده صعوبة تكرار «المقاومات» و«الانتفاضات» للتجارب الفاشلة نفسها. إن مقاومة المستعمر تتطلب قيادة تمسك جيداً بالبوصلة، وتتقن جيداً قراءة خريطة الطريق بالإضافة إلى الصدق والأمانة ومحبة الآخرين !