علم النفس البيئي: هل للأزمة المرورية الخانقة وتزايد انبعاث عوادم السيارات تأثير على نفسية المواطن؟

16/04/2018

وطن للأنباء- نورس كرزم  (أخصائي في علوم الدماغ والأعصاب)

نُلاحظ في السنوات الأخيرة ازدياد استخدام المواطنين في الضفة الغربية عموماً، وفي رام الله تحديداً، للسيارات الخاصة بشكل مبالغ به؛ ولعل أول نتيجة ملموسة لهكذا سلوك هو الأزمة المرورية الخانقة التي تعاني منها مدينة رام الله كنموذج قد ينطبق أيضاً على باقي مدن الضفة الغربية.  يتفق الخبراء على أن استخدام السيارات الخاصة يساهم بشكل ملحوظ في تردي جودة الهواء عموماً، لما يسببه من انبعاث للغازات السامة.  وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ليست جديدة، إلا أنه قلّما تمت معالجتها عبر ربطها بنفسية المواطن ووصحته النفسية والعقلية.  يمكننا القول بأن المواطن العادي قد لا يستطيع التقليل من انبعاث الغازات والمواد الخطرة الناتجة عن المصانع والشركات في منطقته، إلا أنه بالإمكان التحكم في استخدام السيارات الخاصة، وهي مسألة غاية في الأهمية كما يتضح من مراجعة الأدبيات في مجال علم النفس البيئي.  ومن هنا، سأحاول في هذا التقرير المقتضب أن أسلط الضوء على هذه القضية مستعيناً ببعض نظريات علم النفس البيئي، وهو علم حديثٌ نسبياً يُعنى بالعلاقة الوطيدة ما بين سيكولوجية الفرد والبيئة المحيطة به.

العلاقة ما بين استخدام السيارات الخاصة، البيئة ونفسية الفرد:
يعتقد الخبراء البيئيون عموماً بأن استخدام المواصلات عموماً (العامة والخاصة منها) يؤدي إلى استهلاك حوالي 64% من النفط على مستوى العالم، والمثير أن هذه النسبة في تزايد رغم السياسات العالمية البيئية التي تهدف إلى الترشيد والتوعية في هذا الجانب.  ولعل أكثر ما يشغل بال المختصين في هذا السياق هو استخدام السيارات الخاصة، كونها تساهم في زيادة الانبعاثات الغازية السامة (International Energy Agency, 2015).  يُعتقد أنه –في غياب السياسات الدولية والحكومية الجادة للتقليل من استخدام السيارات الخاصة- سيتضاعف عدد السيارات الخاصة في العالم بحلول عام 2050 (International Energy Agency, 2015).  وهنا، تُحذر منظمة الصحة العالمية من التداعيات المؤكدة التي قد تلحق بصحة المواطن في حال استمر الوضع على هذا المنوال (World Health Organization, 2016). 

على المستوى الفردي، يعاني المواطن الذي اعتاد قيادة السيارات الخاصة من قلة الحركة الفيزيائية، أما على المستوى البيئي، فإن استخدام السيارات الخاصة –مقارنة بوسائل النقل العامة- يزيد من انبعاث غازات ثاني أوكسيد الكربون وأوكسيد النيتروجين (Shapiro et al., 2002).  وفي هذا السياق، يشير عدد من الباحثين النفسيين البيئيين إلى أن زيادة منسوب التلوث الهوائي يؤثر سلباً على الصحة العقلية والنفسية للمواطن.  فعلى سبيل المثال، يرتبط التلوث الهوائي بزيادة احتمالية الإصابة بما يُدعى "التقلبات المزاجية الموسمية" (Seasonal Affective Disorders)، إضافة إلى "اضطرابات التوتر والهلع" (Anxiety Disorders and Panic Attacks).  وفي دراسة حديثة نُشرت في دورية BMJ Open، أشار الباحثون إلى أن التلوث الهوائي –وإن بنسب قليلة- يرتبط بالصحة النفسية والعقلية للمواطنين عموماً ولفئة الأطفال بالأخص.  إذن، أضحى معروفاً بين الباحثين في هذا المجال أن لأكسيد النيتروجين علاقة وطيدة بالاضطرابات العصبية والقدرات التعلّمية للأطفال، حيث ينتشر هذا الغاز بسهولة في مجرى دم الإنسان، ومنه إلى الدماغ (Oudin et al., 2015). 
ومن جانب آخر، يرتبط استخدام السيارات الخاصة بالأزمة المرورية الخانقة التي تُعاني منها المدن، ولعل مدينة رام الله نموذج واضحٌ على ذلك.  يشير عدد من الباحثين أيضاً إلى أن الأزمة المرورية في المدن تؤثر سلباً على الوظائف النفسية للفرد، فهي تخلّ بالمنظومة النفسية وتزيد من احتمالية التعرض للاكتئاب والتوتر على أنواعه، كما أنها قد تؤدي في بعض الحالات إلى زيادة خطر التعرض لاضطرابات النوم (Sygna et al., 2014). إذن، وكما يتبين لنا مما سبق، فلاستخدام السيارات الخاصة أثارٌ نفس-بيئية جلية على أكثر من صعيد، مما يستدعي منا –كأفراد- ومن الجهات الحكومية والأهلية جهداً ضرورياً للترشيد والحد من هذه الظاهرة المتنامية.

الأزمة المرورية في رام الله: الواقع وآفاق التغيير
يقول المواطن عاصف محاجنة (27 عاماً): "أنا أقود سيارتي الخاصة منذ خمس سنوات، وكلما تواجدتُ في وسط المدينة في رام الله متوجهاً إلى مكان عملي، أعاني من ضيق في التنفس ومن مزاج غريب وأنا أنتظر حركة السيارات بسبب الأزمة".  أما المواطنة شيماء قملة (35 عاماً) فتذكر أنها أضحت تستمع إلى الموسيقى أثناء انتظارها أزمة المرور في رام الله، ما يعينها على التقليل من التوتر الذي تشعر به حينها.  يتضح لنا، من شهادات المواطنين السابقة وسواها، بأن أزمة المرور الخانقة في مدينة رام الله أصبحت تشكل مشكلة نفسية-مزاجية-صحية حقيقية، خصوصاً مع تنامي أعداد السيارات الخاصة في المدينة. ويُمكننا هنا سرد بعض العوامل المساهمة في تنامي هذه الظاهرة. 

بدايةً، لا شك بأن البنية التحتية والطرق في مدينة رام الله تعاني من بعض جوانب القصور، وهي قضية تقع مهمة حلها؛ على عاتق البلدية والمنظمات المحلية.  إضافة إلى ذلك، يعاني قطاع المواصلات العامة أيضاً من عدة مشاكل، ما يحيل المواطن إلى الاعتماد على قيادة السيارات الخاصة، كبديل سريع وسهل من وجهة نظره.  ومن جانبٍ آخر، نعاني في مجتمعنا الفلسطيني عموماً من نقص التوعية في هذه المجالات، إذ أن حيازة سيارة خاصة يرتبط في أذهان المواطنين بالمكانة الاجتماعية والاستقلالية الفردية، على النقيض مما هو معمول به في الدول المتقدمة، إذ أن التوجه العالمي الحالي يتجه إلى الاعتماد على وسائل المواصلات العامة إضافة إلى استخدام وسائل النقل غير الملوثة للبيئة من قبيل الدراجات الهوائية (وهو ما قد لا يكون سهل التطبيق في سياقنا حالياً).
نحتاج بالتأكيد إلى مزيد من الدراسات الميدانية التي تعالج العلاقة ما بين استخدام المواصلات الخاصة والبنية النفسية للمواطن في سياقنا الفلسطيني، إلا أننا –وبالاستناد إلى الدراسات الغربية- يمكننا القول بأن هذه العلاقة قائمة من وجهة نظر علمية، ولذا يجب الانتباه لها، لأن الفرد الفلسطيني مثقلٌ أصلاً بأعباء وهموم سياسية، اجتماعية ومجتمعية، ما يزيد الوضع البيئي المذكور سوءا وتردياً.

الخلاصة:
تشير الدراسات إلى وجود علاقة وطيدة ما بين استخدام السيارات الخاصة والبنية النفسية والعقلية للفرد، سواء بسبب ازدياد الأزمة المرورية، أم بسبب تزايد انبعاث الغازات السامة بشكل واضح.  ولا شك بأن مدينة رام الله –على وجه الخصوص- تعاني من تبعات تزايد استخدام السيارات الخاصة والأزمات المرورية المزعجة، وهذا بالتحديد يستدعي منا العمل الجاد لمحاولة فرملة هكذا توجه سلبي.  ويستدعي هذا أيضا تضافراً في الجهود الجامعة للأخصائيين البيئيين، النفسيين، والاجتماعيين بالإضافة إلى الجهات الحكومية والبلدية والهندسية، كي يتسنى للمواطن الفلسطيني، أضعف الإيمان، أن يخفف من وطأة العوامل التي قد تؤدي إلى زيادة احتمالية تعرضه للمشاكل النفسية والعقلية المرتبطة بالمحيط البيئي.

 

المراجع:
International Energy Agency (2015).  Paris: France

World Health Organisation (2016).  Ambient air pollution: A global assessment of exposure and burden of disease.

Shapiro et al. (2002).  Conserving energy and preserving the environment: The role of public transportation.  American Public Transportation Association, 9 (2002)

Oudin et al. (2016). Traffic-Related Air Pollution and Dementia Incidence in Northern Sweden: A Longitudinal Study. Environmental Health Perspectives, 124(3), 306–312. http://doi.org/10.1289/ehp.1408322

Sygna et al. (2014).  Road Traffic noise, sleep and mental health. Environmental Research.  Volume 131, May 2014, Pages 17-24

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية