في العلاقة بين الانتفاضات العربية والانتفاضات الفلسطينية

16/04/2018

وطن للأنباء_كتب: عوض عبد الفتاح

منذ البدء كانت فلسطين قضية عربية. ومنذ البدء كان سبب الهزيمه امام الغرب الاستعماري التأخر العربي، والفوات الحضاري مقابل تفوق الغزاه، وفي سياق التواصل التاريخي، والجغرافي، والحضاري بين أقطار الوطن العربي سُجل نجاح نجاح الحركه الصهيونيه في احتلال واستعمار فلسطين ، كهزيمه عربيه ، وليس فلسطينيه فحسب .

تحررت الاوطان العربيه من الاستعمار الغربي، وبقيت فلسطين مستعمره  ، تقاوم ومعها العرب في مرحلة أولى لم تدم طويلا  .  وحدها واصلت المقاومه ، كما هو حاصل الان . وهي مرحلة ، ينشغل فيها البعض من العرب في التآمر المباشر والصريح على فلسطين ، وبعضٌ اخر قلب وجهة مدافعه نحو الداخل ، وانشغل في إبادة المواطنين، وتدمير الدول، مقاوما التغيير . 

على خلفية هزيمة عام 1948، انتفض ضباط شباب ، مفعمون بالحسّ الوطني والقومي ، وأطاحوا بانظمه فاشله ومرتبطه بالاستعمار ، اي من كان مسئولا عن الهزيمه، وعن تكريس التأخر العربي .

انقسم الوطن العربي الى معسكرين ، الاول معسكر قومي مناهض للاستعمار، والثاني معسكر رجعي مرتبط مع الغرب وتحت حمايته .

تزعم المعسكر القومي، الذي علقت الشعوب العربيه كل آمالها عليه ، الضابط الشاب، جمال عبد الناصر  ، الذي رجع الى القاهرة  من  فلسطين، بعد الهزيمه ،  مخذولا ، ولكنه مصرا على التغيير ، فكان له ما أراد . وغدا رئيسا لمصر ، مفجرا حالة ثوريه في الوطن  العربي ، خاصة بِعد ان خاض معركة التأميم والاستقلال ضد العدوان الثلاثي عام 1956، بالترافق مع إصلاحات اجتماعيه وتعليمية بعيدة المدى . كانت مسيرة هذا الضابط الشاب ، وغيره من الشباب القومي  في كل من الجزائر ، وسوريا والعراق واليمن، وغيرها ، مشبعة بالإرث الاصلاحي والنهضوي والكفاحي ، الذي تراكم عبر جهود واجتهادات  مصلحين ومثقفين مناضلين (اسلاميون  وبساريون  وقوميون)، وحركات مقاومه ، على مدار العقود ، بل على مدار القرنين الماضيين . كما كانت التجربه العربيه ، قبل الاسلام ، وكذلك التجربه العربيه الأسلاميه ، الممتدة منذ ثورة النبي العربي ، محمد بن عبدالله ، جزءا عضويا من تكوينهم الفكري . اما التجربه الحداثية الغربيه التي تأثروا بها ، فلم يستوعبوا كل عناصرها، سوى في تنظيم الجيش وطرق الادارة وفِي مجالات اخرى . اما النظام السياسي الحديث ، القائم على فصل السلطات ، والتداول السلمي على الحكم ، وعلى التعددية ، وحرية التعبير والتنظيم ، والتمثيل البرلماني ، فقد ظل بدعة غربيه لا تلائم مجتمعاتهم في نظرهم . ولكن حصاد هذه التجربه  ، ورغم الإنجازات والتحولات التي قادوها ، في المجال التعليمي والثقافي ، هو الفشل في اقامة دول ، ناهيك عن الفشل الذريع في تحقيق الوحده العربيه التي كانت شعارا لكل القوميين .

اما دول الخليج ، فقد ظلت محميات غربيه ، بلا استقلال ، محبوسة في اقتصاد ريعي غير منتج ، دول تملكها عائلات وقبائل .

وبالتالي ، لم تتمكن النخب العربيه على كافة الوانها الايدلوجيه والفكريه ، من بناء دوله عربيه قطريه واحده تكون نموذجا للدوله الحديثة العصريه ، تكون مختلفة عن الانظمه الملكية ، او ما اصطلح على تسميته بالمعسكر العربي الرجعي. والمفارقة ان الانظمه الجمهورية  فاقت الانظمه الملكية في مجال القمع وسحق المجتمع المدني ، الذي حال دون تشكل حياه سياسيه نابضه ، وبدائل حقيقيه للحكم القائم . وازداد القمع ، والتوغل، والاعتداء على حقوق وحرية المواطنين ، طرديا ، مع تفاقم أزمة الحكم ، واخفاقه على مستوى الداخل ، اي على مستوى تحقيق الأمن والامان للمواطنين ، وعلى صعيد العجز عن تحرير الارض العربيه ، وتحرير فلسطين .

لقد أدى هذا العجز الى ارتفاع أصوات النقد الصادره  عن مثقفين  ، ونشطاء جريئين  ، وعن حركات سياسيه تقدميه، ضد انظمه الحكم واجهزتها القمعيه . ويعزى هذا المستوى من القمع الذي مارسته الانظمه القوميه ، الجمهورية ، الى الصوره التي كونتها عن ذاتها ، صورة مقدسه ، نابعة من وهم تبوء الصداره في الدفاع عن قضية التحرير او المواجهة مع العدو الصهيوني . وبدل اعترافها بالعجز والفشل ، وفساد انظمتها ، راحت تعوض  عن ذلك ، بتشديد الملاحقة ، والقتل ، وتجويف المجتمع والحياه السياسه للحفاظ على السلطه بأي ثمن .

وباستثناء ، مصر جمال عبد الناصر ، فقد تحولت الجمهوريات العربيه  ، الى عزبةٍ  لعائله ، بعد ان ورّث الرؤساء العرب ابنائهم ، كما هو الحال في دول الخليج . فعلى الرغم مما على الرجل (عبد الناصر) وما له ، فهو لم يمتلك قصرا ، او ثروة ، وهو الوحيد الذي تجرأ بعد عدوان حرب عام ١٩٦٧ ، الكارثيه ، بالاعلان عن مسئوليته عن هذه الهزيمه ، وأعلن استقالته ، ولم يضع المسئوليه فقط على المؤامره الخارجيه ، مع انه بالفعل كانت مؤامره عليه . في حين ان حكاما  اخرين ،

يصرون على التمسك بالحكم ، رغم انه تحت قيادتهم لم تبق دول ، ليس بسبب مؤامره ، بل بسبب عواقب  بطشهم بشعوبهم .

ولكن ما يجب الاشاره اليه، هو انه بعد وفاة جمال عبد الناصر ، تبين ان الإنجازات التي تحققت في فترته ، لم تبنى على أسس راسخه في الحكم والمجتمع ، والدليل ان أنور السادات، المرتد عن الثوره ،  تمكن من الانقلاب على كل ذلك في لحظة قصيره ، دون مقاومة حقيقيه .
    
الثورات العربيه تتوقف عند أبواب فلسطين

وعلى وقع هذا  الفشل المدوي للانظمة العربية تفجر غضب الشعوب العربيه التي تحررت  من كابوس الخوف والترهيب. وارتسمت مشاهد آسرة في شوارع وميادين العواصم والمدن  ، للعقول والقلوب ، ومستنهضة للامال والاحلام التي تكسرت اكثر من مره ، في طول الوطن العربي وعرضه . جماهير، بصدورها العاريه ،  تخلع الطغاة ، وتدق أبواب طغاة اخرين ، وتُبشر بمرحلة جديده . ان المآلات  الراهنه، المأساويه ، لهذه الثورات ، لا تعني نهاية المطاف ، بل مقدمة لموجات قادمه من الحراك والفعل الثوري.

هذه المشاهد ليست جديده كليا في الوطن العربي ، فالتفاعل كان دائما  حاضرا ، وان بمستويات متفاوتة. وقد لا يسارع الكثيرون  الى التذكر بأن مشاهد مشابهة ، اي انتفاضات شعبيه عارمه، حدثت في احد الأقطار العربيه ، سبقت العالم العربي. انها الانتفاضة الفلسطينيه الشعبيه الاولى ، غير المسلحه ، عام 1987، التي استمرت لخمس سنوات ، متتالية . وقد سحرت هذه الانتفاضه الفلسطينيه  ، العالم اجمع ، وكذلك جماهير الوطن العربي. وتحولت كلمة انتفاضه الى كلمه عالميه . وجاءت هذه الانتفاضه الفلسطينيه الشعبيه المبهرة  في ظل  تعمق المشروع الكولونيالي الصهيوني في الارض الفلسطينيه ، وبعد ان شعر الفلسطينيون انهم تَرَكُوا لوحدهم .

لقد تفاعلت جماهير الوطن العربي مع الانتفاضه الفلسطينيه ، ولكن ضعف  القوى الوطنيه والقوميه واليسارية العربيه ، وتحالف بعضها مع الانظمه القائمه  ، التي أنهكها القمع ، وكذلك جمودها الفكري والتنظيمي ، كل ذلك حال دون تشكل حالة ثوريه عربيه مسانده لهذه الانتفاضه ، ولربطها بضرورات التحول الديمقراطي داخل بلدانها .

لقد وصلت الثورات العربيه الأخيره الى معظم الأقطار العربيه ، ولكنها لم تصل الى فلسطين . ودارت أسئله ونقاشات كثيره بخصوص أسباب ذلك . فقد كان  يفترض الكثيرون ان تكون هذه الثورات مقدمه ليس لوطن عربي جديد ، ديمقراطي وحر وموحد ، فحسب ، بل ايضا مقدمه لاطلاق مسار تحرري فلسطيني جديد ، يستعيد مركزية قضية فلسطين كقضية عربيه ، في مواجهة الهيمنه الخارجيه ، وتحديدا الامريكيه والصهيونيه . وشجع على هذا الاستشراف ، ما قامت به الجماهير المصريه حين اقتحمت سفارة كيان الأبرتهايد في القاهرة .

وتبين ان الواقع الكولونيالي المركب، الذي ُدمجت فيه السلطه الفلسطينيه ، كرادع وقامع للمقاومة ، اضافة الى الانقسام الكارثي  ، شكل حاجزا منيعا امام عدوى الثورات العربيه . يضاف الى ذلك ، عجز وضعف وتآكل هوية فصائل المعارضه الفلسطينيه ، المنضويه داخل منظمة التحرير التي باتت ملحقة بسلطة أوسلو ، التي لم تكن متحمسة للثورات العربيه ، بل كانت تشعر انها تهدد مشروعها .

لذلك ، تمكنت سلطة أوسلو، ولاحقا  سلطة حماس في غزه   من وأد  الحراك الشبابي وهو في المهد  الذي انطلق ، في شهر   ٢٠١١، في رام الله ، وفِي قطاع غزه ، وذلك قبل ان تتحول الثورات الى حروب اهليه وحروب بالوكاله . وبذلك، تم دفن مبادرة شبابيه خلاقه ، نحو فتح افق فلسطيني جديد ، لإنهاء الانقسام وتحريك الناس ضد المشروع الكولونيالي .

وتلا احباط هذه المحاوله الشبابية الفلسطينية ، مرحلة عسكرة الثورات ،ونجاح الثورات المضاده ، مما اثار الاحباط واليأس ، في صفوف الشباب العربي ، وراكم صعوبات تجديد الحراك الشباب  الفلسطيني . وقد تراجعت امال الشباب الفلسطيني على الثورات العربيه ، بعد ما لحق بها ، من تخريب .

لقد بات الانسان العربي مشغولا في النجاة بحياته ، تحت وطأة انظمة مجرمة ، تنال من بيته وأبنائه ، ولقمة عيشه . مع ذلك ، ورغم انتشار اليأس بين شرائح  واسعه من المجتمعات العربيه ، وخاصة الشباب ، الا ان هناك ، وفي مختلف أنحاء الوطن العربي، من يواصل التمسك بالنشاط الثوري ، وبالاصرار على متابعة العمل من  أجل تجديد ومراجعة المرحلة ، ومتابعة الطريق نحو الحريه والتحرر .

شعب فلسطين يجدد المعركه من سجنه 

انه لأمر مذهل ، ان يُجدد شعب فلسطين معركته التحرريه ، رغم كل ما يحيطنا من دمار ، وحصار ، وعدوان .

انه لامر يثير الاعتزاز والشعور بالثقة الكبيره  ان هذا الشعب لا يستسلم لليأس والتيئيس . ربما ينسى البعض، ان شعب فلسطين ،  رغم ما يولده بطش الانظمه العربيه بشعوبها ، وكذلك المشروع الاستعماري ، والانقسام الفلسطيني، من مشاعر المرارة والخذلان ، خاض شعب فلسطين، في السنوات الأخيره ،  معارك بطوليه ، واقدم على تضحيات كبرى ، سواء على المستوى الجماعي او على المستوى الفردي . ففي عام ٢٠١٢ وفِي عام ٢٠١٤، خاضت المقاومه في غزه حربا دفاعيه بطوليه في وجه عدوان صهيوني دموي ، دون ان ترفع الرايه  البيضاء .

اما على مستوى المقاومه الشعبيه المدنيه ، فقد انخرط فلسطينو مدينة القدس وضواحيها ، منذ   عام ٢٠٠٨ في انتفاضات شعبيه لافته ، تتجدد  بين الحين والآخر  ، وصلت ذروتها في انتفاضة البوابات الاكترونيه الصيف الماضي  ، التي أعادت  مشاهد الثورات العربيه في الميادين الى الاذهان  . وفِي هذه الفتره ، وبالتفاعل مع هذه الانتفاضات ، خاض فلسطينو ال ٤٨ ، نضالات ومواجهات مع قوات القمع الاسرائيليه مؤكدين على وحدة الشعب والقضيه  . يضاف الى ذلك الحراك الثقافي والأكاديمي ، الذي يصبُّ في مسار توطيد وتعزيز الوعي بالسرديه الفلسطينيه ، وبكون قضية فلسطين ، قضية تحرر وطني من نظام ابارتهايد كولونيالي .
   
ان مسيرة العوده الكبرى ، التي تفتقت فكرتها ، عن جيل الشباب ، هي استمرار وتطوير لمسار شعبي كفاحي مارسه الشعب الفلسطيني منذ بداية الغزوه الصهيونيه لفلسطين ، ولكنها تشكل نقلة نوعيه في الممارسه والفكر السياسي الفلسطيني ، من حيث ترسخ القناعه لدى كل الفصائل خاصة حركة حماس ، المسلحه ، بالأهمية الاستراتيجيه لشكل النضال الشعبي المدني ، الى جانب الأشكال الاخرى من النضال .

والسؤال الان، اذا كانت مسيرة العوده تُبشر بإعادة توحيد فلسطين أرضا وشعبا ، في الوعي الشعبي العام ، وتنهي فكرة التقسيم ، من خوض المعركة تحت شعار يوحد الكل  الفلسطيني – مطلب حق العوده - ، واذا كانت هذه المسيره تُبشر بفتح الأبواب نحو استعادة عروبة فلسطين ، ايضا في الوعي الشعبي العربي ، الا ينبغي ، التفكير ، والبدء ،بتشكيل هيئه شعبيه  عربيه من المحيط الى الخليج ، يسعى اليها فلسطينيون ، من ذوي الاتجاهات التحرريه ، بالمفهوم الشامل ، اي تحرر وطني وديمقراطي ، لاعادة القضيه الفلسطينيه بقوة الى الاجنده الشعبيه في  أقطار الوطن العربي ، وتضغط على الانظمه والحكومات ، لردعها على الأقل عن التوغل في التطبيع مع نظام الاستعمار الصهيوني . كيف يكون حركة تضامن عالميه مع النضال الفلسطيني منظمه وفاعله ، ولا تكون حركه مشابهه مع في الوطن العربي !

ندرك ان المسألة  ليست سهله، بل قد يذهب البعض الى القول ، ان هذا المطلب غير واقعي، بسبب انشغال المواطن العربي في معركة وجوده ، وفِي مواجهة كوارث القمع والتدمير ، خاصة في سوريا ، واليمن ، والعراق، ومصر وليبيا .

ولكن يمكن البدء ، في أقطار عربيه اخرى ، حيث  لم تصل الحالة الداخليه فيها الى مستوى الحروب الداخليه ، او التي نجت من الحروب الأهليه .

لقد كان مأمولا ، في بدايات الثورات العربيه ، ان تتشكل حركة شعبيه عربيه موحده ديمقراطيه (امميه عربيه)، تمثل كل الثورات ، لتوجهها ، وتساندها ، وألا تترك للانظمه العربيه الرجعيه ، ولدول اقليميه حرية العبث فيها  ،التي  ليست الديمقراطيه في قاموسها . ولكن هذا لم يحصل ، وقد يأتي الوقت الذي تنشأ الحاجه اليها، لان مخاض التغيير في الوطن العربي لن يتوقف ، اذ ان كل الأسباب التي فجرت الزلزال العربي لا تزال قائمه ؛ القمع ، الفقر، البطاله  ، الخضوع للخارج .  ان ما أحيته  الثورات العربيه من  مفاهيم الثوره والتغيير ، والمجتمع المدني ، وتداول السلطه سلميا ، وقيم الحريه ، والتحرر ، والعداله الاجتماعيه ، يجب ان يكون في صلب برنامج اي هيئه عربيه موحده ، وفيها فلسطين . هذه الهيئه يجب ان تكون ذات اتجاه تحرري شامل ، تحرر المواطن من الاستبداد ، والفقر والعوز ، وتحرر الوطن من الهيمنه الامبرياليه ، والاستعمار الصهيوني . لقد بات على العربي الفلسطيني ، ان يذوت واجب التماثل الفعلي والاندماج في هموم المواطن العربي ، والانحياز الكامل والفعلي  الى جانب طموحه ، في ان  يعيش بأمن وأمان ، متحررا من سطوة الدوله البوليسية ، ومن كل أشكال القهر .

هذا باعتقادي، هو مسار الفعل الفلسطيني، المطلوب، بعد كل وصلنا اليه .