حيث الطبيعة لا تنصفها الصور..."عبيدة جمال" ورحلاتٌ في الأرض مع رفاق السفر

17/05/2018

وطن للأنباء- حوار: هديل عطا الله

من عجائب الأيام السعيدة أن تمضي ليلتك مع رفاق مغامرين في كوخ أو بيت خشبي وسط طبيعةٍ ساحرة تلتقطون صوراً للشواطئ الجليدية والغابات؛ وتقفون على حافة جبال شاهقة في الأرياف التركية والألمانية وأعالي الجبال السويسرية؛ ولا يُحكى أبداً عن مشهد الغروب حين ينقلب المكان إلى جنة؛ فيما الغيوم تتمايل في الأسفل.

مصور الطبيعة عبيدة جمال هو واحد من أصحاب القلوب الشجاعة الذين حالفهم الحظ بعيش هذا الإحساس الرهيب؛ بعد أن اتجه في السنوات الأخيرة إلى الانضمام لرحلات شبابية تتجول في أصقاع الأرض.
النص الذي بين يديكم فيه حديث بطعم مختلف مع مراسلة "آفاق البيئة والتنمية"؛ متضمناً قواعد التخطيط السليم لهذه الأسفار التي تأخذ طابع الجنون المُفرح.

وكأن رائحة السمك التي ملأت جزر لوفوتين في القطب الشمالي لا زالت عالقة بأنفاسه؛ حين ذهب ليصور أصغر شلالات أيسلندا وعندها أخذ "حماماً مجانياً" حين اضطر إلى الوقوف تحت الشلال مباشرة حتى يحصل على أفضل لقطة.

وفي إيطاليا للحظة خطر على بال عبيدة أن المشهد ما هو إلا "فوتوشوب"؛ وفي حقيقة الأمر إنه من بديع الأرض؛ وكلما شاهد جبال الدولوميت انتابه شعور الصدمة بسبب ضخامة حجمها الذي يفوق التصور، ولا عجب أن يقول العبارة التالية  بدهشة غير مسبوقة: "في وقت الغروب والشروق كل شي ء يكون مظلماً إلا الجبال تنعكس عليها الأشعة الذهبية.. سبحانك ربي".

فيما يبدو هذا الشاب الذي يقيم في "جت المثلث" بالقرب من مدينة حيفا؛ منبهراً بـ الغابة السوداء المليئة بالمعالم الساحرة؛ لافتا انتباهه انتشار المقاعد في الأرجاء كي ينال الجوالة قسطاً من الراحة.

وما زالت مشاعر المغامرة تحلق به في أعالي قمم النرويج حين سمع صوت الأمواج تضرب سفح الجبل ونسمات الريح تداعب قبعته الصوفية؛ فيما يديه تحكمان الإمساك بكوب شاي ساخن فيه الكثير من السكر ليبدأ مع الرفاق تسبيح خالق هذا الجمال الآسر؛ تتبعه أحاديث ممتعة عن مخططات قادمة.

شمال البلاد يستحق الزيارة

إن سألتموه ماذا يعني له السفر سيتضح أنه أكثر من مجرد سفر "تدبّر في خلق الله وراحة نفسية لا توصف؛ أناس جدد وحضارات وتقاليد؛ وطبيعة تعيد ترتيب الأفكار"؛ ولذا هو لا يكف عن حمد الله على نعمة العينين لمشاهدة إبداع الله في كونه.
يعيش في رحلاته التي يخطط لها لحظات تساوي الإقامة في فنادق من "خمسة نجوم"؛ ولأن يتناول عند مسنة تقطن في قرية تركية نائية ذات إطلالة خلابة؛ لم تمتد إليها أيادي أهل المدن؛ خبزة لبنة و"حبة بندورة" ثم يطير على أرجوحة معلقة على جذع شجرة في الأعالي فهي تعادل سعادة  لا يشعر بها المُنَعمين.

وتتدفق ابتسامة عبيدة من أعماق روحه كلما تذكر ارتفاع معدل الإدرينالين في جسمه حين استقلّ القطارات الهوائية إلى الأعلى فأعلى فأعلى ثم توقف أمام بحيرة في وسط منطقة لا يمكنه وصف جمالها.

ولن ينسى ما بقي على قيد الحياة "الحجة آمنة" تلك العجوز التي تسكن في أعالي جبال منطقة "ماتشكا" التركية، حين أكرمته بكأس شاي فجلس بين الخراف والضباب غير مصدقاً نفسه؛ هذه المرأة لم تكف عن تكرار أن " فلسطين وتركيا شعب واحد".
وفي بداية تعارفه على سكان "الطبيعة" يحرص عبيدة على عدم إخراج الكاميرا؛ بل يلقي التحية أولاً لتبدأ دردشة عفوية بين الطرفين؛ مؤكداً أن الناس في أوروبا والدول الاسكندنافية يستقبلون الضيوف برحابة صدر؛ لا سيما إن علموا أن من بينهم فلسطيني.
ستمر سنوات طويلة ولكن هذا الشاب لن ينسى مشهد "كم ختيارة" كن ينقلن الحطب الثقيل في أجواء حارة؛ ولمسافة أكثر من كيلومتر؛ يقطعن هذا المشوار في اليوم الواحد أكثر من عشر مرات؛ ومع ذلك الضحكة لا تفارق وجوههن".

ومن الواضح أنه لم يبالغ حين وصف الريف التركي قائلاً: "الناس هناك أنقياء الروح يعيشون على البساطة؛ يعملون في التحطيب والزراعة والفلاحة؛ وكل ما يشغل بالهم أغنامهم؛ في مناطق من هذا النوع ما من شر ولا كذب ولا خبث ولا نفاق ولا كره".
ويتحدث بشكل خاص عن طبيعة فلسطين؛ قائلاً أنها تزخر بالتنوع؛ فيها مناطق صحراوية وأخرى تملؤها الغابات والاشجار والمياه؛ يقول لــــــــ "آفاق البيئة والتنمية" : " كنت أقضي معظم الشتاء في شمال البلاد على الحدود الفلسطينية السورية (الجولان)؛ هناك حيث الشلالات والأنهار واللون الأخضر؛ ومن يستطع الذهاب فعليه ألا يحرم نفسه من فرصة لا تقدر بثمن؛ ففي الشتاء تكتسي الأشجار باللون الأبيض؛ الروح تحتاج أن تطمئن بالبعد عن كل الجدالات التافهة ".

ويعرف المغامرون من طراز عبيدة أن الرحلات الجبلية والتصوير الليلي تصنع انساناً مثابراً لا يهتم لتعب اللحظة؛  بل يركز على نتاجه في النهاية.

ذلك أن المخاطرة جزءٌ أصيل في هواية تقوم على الاستكشاف؛ يتذكر إحدى مغامراته: "ذات ليلةٍ أردت تصوير مجرة درب التبانة والنجوم في صحراء النقب؛ وفي المنطقة التي ذهبتُ إليها تكثر الحيوانات الضارية؛ وعلى رأسها الضباع".
ويضيف: "رافقني صديق تركته بجوار الخيمة التي نصبناها؛ ابتعدت بعض الشيء لأتمكن من تصوير الأشجار الصحراوية؛ إلى أن سمعتُ اصواتاً ولمحت عيوناً تلمع؛ وحينها أيقنتُ أني واقعٌ في ورطة".

لقد أصبحت حياته مهددة بسبب "وَاوَي".. لكن ماذا فعل عبيدة حينها؟؛ لا يحاول ادعاء الشجاعة وإنما يعترف قائلاً: " اتصلت بصديقي وطلبت منه أن يأتي سريعاً بـــ "الجِيب"؛ وصل بسرعة البرق وحملنا الخيمة دون أن نغلقها؛ وحين انتقلنا لشارع رئيسي وضبّنا أغراضنا وانتقلنا لنقطةٍ آمنة".

- "شو بصير اذا اجالك ذيب أو دب بالليل؟.. سؤال شائع بماذا تجيب عنه؟؛ يقول: "المناطق التي يكثر بها الدببة بعيدة جداً؛ في الأرياف التركية كنت أسمع كثيراً أصوات ذئاب وكلاب برية في الليالي التي خيّمت بها في وسط الغابات؛ دعيني أقول أن البقاء في الخيمة هو أفضل حل؛ والاهتمام بإبقاء الطعام مغلق تماما كي لا تصل رائحته إلى الحيوانات البرية".

التخطيط الجيد ومطبّات الطقس

ومن جهة ثانية يؤكد أن الجيل الحالي لديه شغف كبير للسفر إلى خارج البلاد بهدف استكشاف مناطق الطبيعة والاختلاط بثقافات مختلفة؛ وتشهد هذه الرحلات إقبالاً لا بأس به من الشباب الفلسطيني؛ وهذا ما يُلاحظ في مواقع التواصل الاجتماعي؛ مشيداً بهذه الظاهرة على أن تكون نية السفر سليمة لاكتشاف إبداع الخالق في كونه والاحتكاك بثقافات أخرى.
ويعدد بعض الاعتبارات التي يجب أخذها بالحسبان عند التخطيط الجيد لرحلات من هذا النوع؛ من بينها الاهتمام بأجواء المنطقة المراد زيارتها من حيث حالة الطقس والشوارع؛ وتحديد وسيلة التنقل المناسبة؛ بالسيارة أم بالباص أم بالسفينة؛ ونوعية الطعام الموجود هناك؛ وبطبيعة الحال معرفة المناطق التي يجب زيارتها.

حين قرر المصور عبيدة؛ الذهاب إلى القطب الشمالي اشتري معدات تصوير خاصة للتكيف مع الأجواء القطبية شديدة البرودة والرياح القوية؛ كما أخذ احتياطه من الملابس الثقيلة والأحذية المناسبة وما شابه.
ومن المواقف التي لا ينساها في تلك الرحلة: "كانت استراحة قصيرة خلال صعودي أحد جبال القطب الشمالي؛ ومع الأسف لم استطع اكمال الصعود لأن حقيبة التصوير طارت من الجبل بسبب الريح؛ كان نهاراً عجيباً أثلجت الدنيا و"صار وضعي بالويل".. يضحك من أعماقه حينها.

وفي الوقت نفسه يبدو حزيناً إزاء ما حدث معه في المرة الأخيرة حين ذهب إلى أيسلندا: "وقفت على حافة جبل لتصوير زاوية مختلفة جداً؛ فسقطت كاميرتي من أعلى الجبل إلى النهر المتجمد في الأسفل؛ الكاميرا بالنسبة لي هي كل شيء؛ عيني التي أرى بها؛  لكن حمدتُ الله على ذلك؛ فهذا ما أمرنا به سبحانه وتعالى وعلمنا اياه رسولنا الكريم".
"هي تجربة رائعة برغم كل ما فيها من متاعب" ذات يوم حمل عبيدة على ظهره أكثر من ١٥ كيلو من معدات التصوير وبدأ بالسير في مسار تسلق لمدة تتراوح بين 4-5 ساعات كي يصل مع رفاقه "المتشردين"- وفقاً لوصفه-  إلى بحيرة تقع قبالة أحد أشهر جبال سويسرا؛ يعلق بالقول: "الأمر ليس سهلاً بتاتاً؛ ولكن حين خيّمنا عند البحيرة؛ تيقنّا أن كل ذرة تعب مررت بها أنا وأصدقائي استحقت هذا العناء".

أماكن لم تصلها العينان

كان الهدف الأول من سفر عبيدة إلى القطب الشمال هو أن يرى الشفق القطبي أو ما يعرف بــ أضواء الأورورا؛ فقد قطع  آلاف الكيلومترات بالسيارة من النرويج للسويد؛ من أجل أن يشاهد هذا "المشهد المعجز" بوضوح..لقد تنفس بعمق أمام هذا المنعطف من الحديث.

دمعة الخشوع ما زالت عالقة في عينه؛ محاولاً وصف تلك اللوحة: "مع ملايين نجوم في هذا الهدوء الأخاذ أصبحت أفكر بهذه الطريقة: لا بد وأن هناك أشياء أجمل ستأتي لو مش اليوم بكرة؛ ولو مش بكرة بعد سنة؛ ولو مش بعد سنة بالآخرة؛ رح يكون هناك جنة ملانة نجوم مميزة.. مَلانة جمال.. مَلانة راحة".

ويقر أن سوء الحظ حالفه في أول زيارة إلى القطب الشمالي رغم دقة خطته؛ فالأجواء القطبية متقلبة جدًا؛ إلى درجة أنه مرت أيام متتالية مكث فيها داخل كوخ متجنباً الأجواء العاصفة والثلوج القوية؛ مؤكداً أنه في الأجواء القطبية لا يمكن التنبؤ بحالة الطقس؛ أحيانا تكون مشمسة تماماً وفي نفس النهار يختلف الطقس لتتساقط الثلوج بشكل كبير.

النهج الذي يتبعه ضيفنا في تصوير "لاند سكيب" أنه لا ينتظر قدوم اللحظات الملائمة للتصوير بل يكون على أهبة الاستعداد في كل الظروف؛ لأن الطبيعة تتغير؛ "ففي لحظات قصيرة يمكن أن نظفر بصورة قد لا تتكرر؛ هذه الجهوزية تتطلب تعباً كبيراً؛ التصوير أكثر من مجرد "نقرة"؛ والأهم من هذا كله: العزيمة العزيمة العزيمة؛ وبدونها لن أخلق بصمتي الخاصة؛ وأطمح لعمل أفضل في كل مرة".
حاز عبيدة سابقاً على جائزة دولية من "ناشيونال جيوغرافيك"؛ يستطرد في الإيضاح: "تصوير الطبيعة مختلف تماما عن أنواع التصوير الأخرى؛ كونه يطلعك على عالم جديد كليا وزوايا لم تشهدها من قبل؛ هذا النوع من التصوير يرغمك على الوصول إلى أماكن لم تصلها العينان من قبل؛ ولا داعي لأن أؤكد أن الجمال الذي تراه عيناك لا يُقارن أبداً بالصورة التي يحظى بها أي مصور فوتوغرافي".
عبيدة الذي لا ينفك عن متابعة المصور العالمي "ميشيل شانبلم"؛ ينصح بشدة أي شخص يرغب في الانضمام لرحلات من هذا القبيل بالابتعاد عن التكنولوجيا و"السوشيال ميديا"؛ فهذا الأمر من أكثر ما يفسد السفر.
ويؤكد على أهمية اختيار صاحب السفر المناسب؛ لا سيما أنه عاش تجربة صعبة مؤخراً مع رفيق سفر لم يعرفه من قبل خيّم معه؛ ومع أنها تجربة لا تعد ناجحة إلا أنه تعلم منها الكثير؛ لافتاً أنه اعتاد على رفيق سفره الدائم يوسف بوناشي- كويتي الجنسية- ؛ فقد خاض معه تجارب رائعة ذات نكهة لا تتكرر.

ووفق رأيه فإن رفيق السفر من المهم أن يتحلى بالنشاط والأخلاق الجيدة؛ والتعامل مع اللحظات الصعبة والقرارات الحاسمة خلال السفر؛ وعلاوةً على ذلك أن يكون مغامرا.

وعن متطلبات التخييم في الجبال؛ يوجزها في نقاط أساسية: خيمة وغطاء للنوم للوقاية من البرد القارس حتى لا يضطر المغامر للمبيت في السيارة كما حدث معه في المرة الأولى؛ كما أن توفر الماء أمر أساسي في التخييم؛ والهاتف هو آخر ما يمكن التفكير فيه؛ رغم أنه مهم لتوثيق اللحظات؛ وأن يكون الرحالة على مقربة من قرية معينة تحسباً لأي طارئ يستدعي طلب المساعدة.
ويرى أن فصل الشتاء هو الأمثل للقيام بالرحلات؛ فالأجواء الماطرة والمثلجة تمنح شعوراً بالحماس والطاقة؛  لا سيما  أن اللون الأبيض مميز ويجب تسخيره بما يليق ببهائه في الصور.

ويحكي لنا عن صورة مميزة في رحلته الأخيرة: "كان لا بد أن أدخل عنصراً بشرياً في الصورة؛  طلبت من الصديق محمد أبو شقرة- المحترف في تنظيم الرحلات-  ليذهب الى صخرة داخل البحر للوقوف أعلاها؛ وكنت أعلم أنه قادر على ذلك مع صعوبة الوصول لها؛ فالصخور  زلقة والصخرة في داخل البحر مما تطلب منه السير قليلا داخل الماء؛ و فعلها محمد بكل سرور".
اكتساب مهارات تنظيم رحلة بأقل التكاليف بمقدور كل شخص؛ هذا آخر ما يدلي به عبيدة؛ واضعاً لمسة الختام: "السفر بأقل التكاليف يكمن في التخطيط الجيد؛ والسفر من أجل السفر والاستكشاف وليس من أجل الأكل؛ فالطعام موجود في كل مكان والمطاعم الفاخرة متوفرة أيضاً.. لذا كن مسافراً لا سياحيا".

"من أكثر الاعمال اللي أنجزتها بحياتي حبا على قلبي هو هذا الفيديو.. كثير امور بتخلي هذا الفيديو عنجد من الفيديوهات والأعمال اللي كثير بفخر إني عملتها.. صوّرته خلال رحلتي إلى ألمانيا (الغابة السوداء)..."
 

خاص بآفاق البيئة والتنمية