التكنولوجيا "المتقدمة" والزراعات الكيميائية والمحاصيل المعدلة وراثيا هل تشكل ضمانة استراتيجية لتلبية الاحتياجات الغذائية العالمية؟!

07/07/2018

وطن للأنباء_كتب: جورج كرزم

خاص بآفاق البيئة والتنمية

ربما يعرف الكثيرون بأن الري بالتنقيط يوفر كمية المياه المستخدمة في الزراعة بنسبة تتراوح بين 25%-75%.  ولعل بعضنا يدرك أيضا مدى الإنجازات التكنولوجية المثيرة للإعجاب التي طرأت في المجال الزراعي خلال السنوات الأخيرة.  بل قد ينفعل بعضنا من التجديدات والاختراعات التكنولوجية الزراعية الكثيرة؛ مثل أجهزة الاستشعار المنوعة، أجهزة التحكم والحنفيات والأنابيب وغيرها.  نظام الري الرقمي، على سبيل المثال، يوفر توصيات حول كيفية الري، والتي يتم تقديمها في الزمن الفعلي للمزارع، استنادًا إلى بيانات عن حالة النبات والتربةوالظروف الجوية؛ بحيث يتم تحليل تلك البيانات وفقًا لنماذج زراعية مختلفة.

القاسم المشترك بين هذه المعدات والأجهزة هو محاولة تحقيق الاستخدام الأمثل والموفِر للمياه والطاقة والأسمدة والمبيدات في الزراعة.  والحديث هنا يدور غالبا عن الزراعة المتطورة التي من المفترض أن تقلل التأثير السلبي على البيئة.  لكن، كثيرا ما تتناقض مزاعم الشركات المنتجة للتكنولوجيا الزراعية "المتقدمة" مع الوقائع على الأرض.

فعلى سبيل المثال، التقنيات المعروضة في الأسواق لتحسين استخدام الأسمدة الكيميائية التي تساعد في النمو السريع للمحاصيل الزراعية، لا تسهم بالتأكيد في تقليل تلوث البيئة والتربة، لأنه مهما كانت تلك التقنية "متقدمة" فذلك لن يجعل الأسمدة الكيميائية "خضراء" وصديقة للبيئة، ولن يغير بالتالي من حقيقة كونها مصدرا أساسيا لتلويث البيئة والتربة والصحة العامة.  إن كل ما تفعله تلك الأنظمة التقنية هو جمعها المعلومات من الحقل الزراعي، ومن ثم بمساعدة خوارزميات معينة، تحدد الكمية "المثلى" للأسمدة (الكيميائية) المستخدمة.  وهذا الأمر شبيه بمزاعم شركات المبيدات الكيميائية حول ما يسمى "الاستخدام الآمن".

الإنجازات التكنولوجية "المتقدمة" تثير أسئلة جوهرية، منها: هل تطوير المزيد من الخوارزميات أو أجهزة الري المتطورة تلبي بشكل كاف الطلب المتزايد على موارد الأراضي والمياه؟  هل التكنولوجيا كثيفة رأس المال بحد ذاتها كافية لتوفير الإمدادات الغذائية دون تدمير البيئة؟

تحليل اتجاهات الاستهلاك الغذائي العالمي يشير إلى ضرورة إجراء بعض التغييرات البعيدة المدى، بصرف النظر عن مدى كفاءة التكنولوجيا.  فالأهم من معدات التحكم بعملية الري واستخدام الأسمدة، نحن بحاجة، على سبيل المثال، إلى ابتكار وتطوير طرق جديدة للحد من الكميات الهائلة لنفايات الطعام، والتي معظمها ناتجة عن مصادر زراعية.  الزراعات البيئية أو العضوية قد تضمن تخفيضا كبيرا في النفايات الغذائية (قد تصل إلى 50%) مترافقا مع تغيير جدي في عاداتنا الاستهلاكية؛ ما سيؤدي إلى خفض مساحات الأراضي اللازمة لتزويد العالم بالغذاء. 

هدف آخر لا بد من إنجازه يتمثل في تقليل النشاط الزراعي الذي يشجع استهلاك اللحوم؛ إذ أن لهذا النشاط تأثير واسع وخطير على البيئة، علما أنه يشمل تخصيص مساحات هائلة من الأراضي لزراعة الأغذية والأعلاف اللازمة لقطاع الماشية والأبقار والدواجن والخنازير.

مزاعم غير مدعمة بالتجربة

باعتقادنا الزراعات البيئية و/أو العضوية يمكنها تلبية الطلب المتزايد على الغذاء والمحاصيل الزراعية، والحفاظ في ذات الوقت على البيئة.  وهنا يزعم البعض بأن الاعتماد على الزراعة العضوية (أو البيئية) التي لا تستخدم فيها الكيماويات (أسمدة ومبيدات) غير كاف لتغطية الطلب على الاحتياجات الغذائية؛ ذلك أنه في النمط الزراعي العضوي أو البيئي، بحسب ذات الزعم، لا يمكننا الحصول على كميةالإنتاج التي تعطينا إياها الأنماط الزراعية الكيميائية في قطعة أرض محددة.  ويصل ذات الزعم إلى نتيجة مفادها أننا في الزراعات العضوية (أو البيئية) سوف نحتاج إلى مساحة أراضٍ أكبر بكثير لتلبية احتياجات سكان العالم الغذائية؛ ما سيكون على حساب الأنظمة الإيكولوجية، بما يعنيه ذلك من إهدار للموارد الأرضية.

الحقيقة أن الزعم الأخير ليس سوى مغالطة شائعة، لأن تفوق الزراعة الرأسمالية الصناعية (الكيميائية)، من حيث الإنتاج، غير مدعم بالتجربة.  فبالرغم من الزعم القائل بأن المزارع أو الحيازات الزراعية الصغيرة متخلفة وغير منتجة، إلا أن الأبحاث تدلل على أن المزارع العضوية أو البيئية الصغيرة أكثر إنتاجية بكثير من المزارع الأحادية الكبيرة، وذلك إذا أخذ في الاعتبار مجمل مخرجات الإنتاج في الزراعات البيئية- التي تتميز بالتنوع المحصولي المتداخل في ذات قطعة الأرض- وليس فقط الغلة الناتجة من محصول واحد أو محصولين، كما هو الحال في الزراعات الكيميائية الأحادية. 

فعلى سبيل المثال، أنظمة الزراعة المتكاملة الصغيرة التي تنتج تنوعا من الحبوب، والفاكهة، والخضروات، والعلف والمنتجات الحيوانية، تتجاوز غلتها (إنتاجها) في الوحدة الواحدة، غلّة المحصول الأحادي في المزارع الكبيرة، مثل الذرة في الزراعات الأحادية.  وعندما تؤخذ في الاعتبار عوامل زعزعة الاستقرار البيئي التي صاحبت عملية تعميم الزراعة الصناعية (الكيميائية)؛ نجد أن ميزانية التكاليف والمنافع تترنح بشكل حاد نحو السلبية. 

الزراعات البيئية تحديدا، هي التي تحافظ على توازن الأنظمة الإيكولوجية وتقلل بمدى كبير جدا إهدار الموارد الأرضية؛ إذ أن ما يميز تلك الزراعات هو التنوع الكبير والتداخل الذي يعنى إقامة علاقات مفيدة بين مكونات وحدة الإنتاج الزراعي، والتقليل إلى الحد الأدنى من مدخلات الإنتاج الخارجية والمخلفات الضائعة دون استعمال.  كما نجد في تلك الزراعات تربة غنية بالعناصر الغذائية والمواد العضوية، وغطاء نباتيا واقيا، وتربية الحيوانات والدواجن، ودورة زراعية، وتسميداً طبيعيا متوازنا، وزراعة متداخلة ومترافقة، واستخداما لبعض المستخلصات الطبيعية لمكافحة الآفات.

زراعات كيميائية وارتفاع نسب المجاعة والفقر الغذائي

خلافا لإدعاء البعض بأن إنتاجية الزراعات العضوية أو البيئية أقل من الزراعات الكيميائية التي تتطلب مدخلات خارجية مرتفعة (بذور مهجنة، أسمدة ومبيدات، مياه كثيرة...إلخ.)؛ أثبتت الوقائع العالمية بأن العكس هو الصحيح.  إذ أن متابعات ودراسات منظمة الزراعة والأغذية (الفاو) التابعة للأمم المتحدة أفادت، منذ عام 2007، بأن المناطق التي ظروف الإنتاج فيها متوسطة واستعمال المدخلات الخارجية فيها معتدل، تصل قيمة إنتاجيتها من الزراعات العضوية، بالمقارنة مع الزراعات الكيميائية، إلى 92%.  بل وفي أنماط الزراعات التي تلبي الاحتياجات المعيشية الأساسية، فإن إنتاجية المحاصيل تزداد كثيرا لتصل إلى 180%.  وفي حال أصبحت الزراعات العضوية هي المهيمنة عالمياً، فإن المعدل العالمي لإجمالي المحاصيل العضوية في العالم يقدر بأن يصل إلى 132% أكثر من مستويات الإنتاج الغذائي الحالي (FAO. Organic Agriculture and Food Security, Italy, 2007).

وعلى الرغم من مزاعم ممثلي ووكلاء شركات البذور والكيماويات الزراعية بأن الزراعات الكيميائية الكبيرة والاحتكارية أفضل لإطعام العالم، فقد اقترنت هذه الزراعات- التي هدفها الأساسي البحث عن مزيد من الأرباح الاحتكارية- بمزيد من الجوع، وبنوعية أسوأ من الطعام، وبمزيد من خلخلة التوازن البيئي بسبب الزراعات الكيميائية كثيفة رأس المال، وذلك في جميع أنحاء العالم وأكثر من أي وقت مضى في التاريخ.  ففي عام 2014 بلغ عدد الجياع في العالم نحو 800 مليون، وحاليا (عام 2018) فإن العدد يصل إلى نحو مليار.  

إذن، الزراعات الكيميائية الاحتكارية والمحاصيل المهندسة وراثيا، لا تشكل ضمانة استراتيجية لإنتاج كميات كافية من الاحتياجات الغذائية لجميع سكان العالم، وبالتالي القضاء على أزمة الغذاء العالمية والمجاعة والفقر الغذائي.  ومن الثابت الآن أن سبب أزمات الغذاء العالمية المتتالية، ليس نقص الطعام أساسا، بل عدم قدرة وعجز الفقراء على تحمل الارتفاع الكبير في الأسعار الناتج عن بضعة عوامل أبرزها ارتفاع أسعار مدخلات الانتاج (الأسمدة والمبيدات والطاقة وما إلى ذلك) والاحتكار المتفاقم للحبوب والبذور، وتجارة أغذية أخرى تتحكم بها حفنة من شركات الكيماويات الضخمة متعددة الجنسيات، وما يترتب على ذلك من زيادة الديون بخاصة، وديون المزارعين الصغار والبلدان متدنية الدخل بعامة.  يضاف إلى ذلك الاستغلال غير المستدام للموارد الطبيعية وتحويل الغابات والأراضي الزراعية الصغيرة متعددة المحاصيل لإنتاج الوقود الحيوي، والتغيرات المرتبطة بتغير المناخ وبخاصة تأثير تغير المناخ على إنتاج الأغذية.

ويجب ألا ننسى العامل المتعلق بتقويض الإنتاج الغذائي في البلدان متدنية الدخل، من خلال إغراق الأخيرة بفوائض الإنتاج المدعومة من الأنظمة الغربية الرأسمالية، أو من خلال جرّها نحو التخصص في إنتاج غذائي كمالي تصديري رخيص لصالح الاقتصاديات الرأسمالية.  وهذا تحديدا ما نلمسه في سياقنا الفلسطيني تحديدا، حيث تتجسد عملية تقويض الإنتاج الزراعي من خلالالإغراق الذي تمارسه الشركات الإسرائيلية وسائر الشركات الأجنبية والاحتكارية ووكلاؤها، في الأسواق المحلية، بسلعها الزراعية المدعومة وبالتالي الرخيصة بشكل مصطنع؛ ما أدى ويؤدي إلى عملية تدمير متواصلة للمزارعين الصغار. 

النموذج الزراعي الفلاحي البيئي المتوازن الذي نتحدث عنه لايعني رفض التقدم أو التكنولوجيا أو التجارة؛ أو العودة الرومانسية إلى الماضي القديم الغارق في التقاليد الريفية؛ بل إنه النموذج البديل القائم على بعض الأخلاقيات والقيم التي تحتل فيها الثقافة والعدالة الاجتماعية مكانة هامة، وحيث تبرز الممارسات الملموسة التي تضمن مستقبلا دون مجاعة.  وينطوي هذا البديل على الإمساك مجددا بجوانب المعرفة التقليدية والمحلية، أو معرفة المزارعين؛ والجمع بين هذه المعرفة والتكنولوجيا الجديدة، عندما وأينما هو مناسب للقيام بذلك.

إذن، العلوم المتقدمة والزراعة الفلاحية البيئية المتوازنة لا تتعارضان.  فدمج العلم في الزراعة البيئية الصغيرة يمثل تحديا لكنه ممكن.  فالزيادة الكبيرة في مدى الممارسات العضوية وشبه العضوية تتطلب قدراً أكبر من البحث العلمي والتدريب الهادفين إلى تحقيق فهم أفضل لكيفية عمل الأنظمة الإيكولوجية-الزراعية.  فعلى سبيل المثال، البحث في أوجه التكامل الوظيفي للحشرات المختلفة من شأنه تحسين المكافحة الطبيعية للآفات.  بينما معرفة أكبر لخصائص ولبنية التربة ولديناميات إعادة تدوير المغذيات يمكن أن ترشد المزارعين نحو أفضل ما يمكن استعماله من أنماط الزراعات المتداخلة والدورات الزراعية والنباتات المثبتة للنيتروجين والأسمدة الخضراء، لتحسين خصوبة التربة.

خلاصة الجدل أن التقنيات الفلاحية التقليدية والزراعية المحلية تحوي كما هائلا من المعرفة والحكمة والمهارات المتوارثة، وهي تجسد تطور التوازن الكبير الذي كان قائما إلى حد كبير بين المجتمع البشري والمحيط الحيوي.  لذا، فإن تطوير التقنيات الزراعية لتلبية الاحتياجات الاجتماعية المحلية يجب أن يأخذ الممارسات التقليدية المتوازنة كنقطة بداية، بدلا من الإطاحة بها باعتبارها متقادمة وعفا عليها الزمن.