من يشد أزر القدس؟

07/11/2018

 كتب طارق عسراوي: هي القدس التي نبتت في أرواحنا ما إن صدحت صرختنا الأُولى إيذاناً بالحياة، وغدت حاراتُها ذاكرتنا ونقطة ارتكاز وجودنا، فهي المقدّسة وأكثر، وأكثر من كونها عاصمة، بل هيالقضية الوطنية كلها، وأهمها.

ولكونها نقطة الصراع الأكثر أهمية، لا يكفُّ الاحتلال عن سلبها واستلابها، موظِّفاً كل الإمكانات، ومستفيداً من كل الوسائل في سبيل أسرلتها، وسرقة تاريخها ليصنع تاريخه الملفَّق.

والمراقب يرى بوضوحٍ أن القدس وأهلها في مواجهة دائمة مع الاحتلال بما يملكون من أدوات الصمود والإرادة، وأن الفلسطيني فيها يسجل ملحمةً بليغةً في التحدي، على الرغم من اختلال ميزان القوة العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية بينه وبين المحتل.

وربما من الجدير الإضاءة على بعض البراهين التي تؤكد تفوّق الفلسطيني بحياته اليومية على أدوات الاحتلال الرامية إلى أسرلة المدينة، وهنا أتذكّر ليالي الشموخ التي خطّها الفلسطيني في حراسة بوابات الأقصى، وذلك النموذج الفذ الذي وقفت فيه الإرادة في وجه السلاح والكاميرات والكيان القاتل، وأولئك النجوم الذين افتدوها بأرواحهم وزرعوا فيها زهرة أعمارهم.

والقدس، بوصفها أرض الاشتباك اليومي، لا يوقف فيها الاحتلال محاولاته الحثيثة من أجل تملُّك العقارات لتعزيز وجوده وانتشاره، إضافةً إلى تدخله المباشر في مفاصل الحياة؛ من مراقبة المدينة، والانتشار فيها، وإغلاق البوابات، والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى لفرض واقعه المرّ على المدينة، وفي الحالتين كلتيهما يُقدم الفلسطيني نموذجاً يُحتذى به في الصمود والبقاء.

وفي ظل ذلك، بات من المُلح فلسطينياً أن تتجه الإرادة إلى مزيدٍ من الصمود، وهذا يتطلب بالضرورة توظيف ما نملك من إمكاناتٍ وتضافرٍ للجهود من أجل حماية القدس، وإنني أرى أنّ أول ما يلزمنا اليوم هو رفع وتيرة الاشتباك مع المحتل على أرض القدس، ووضع استراتيجيةٍ وطنيةٍ يشترك الجميع في تنفيذها، وبشكلٍ منهجيٍّ نحدد فيها الأهداف والسبل التي يجب اتباعها، وهنا أُحاول طرح أفكارٍ تهدفُ عملياً إلى اتخاذ إجراءاتٍ احترازيةٍ وعملية، إضافةً إلى تلك الإجراءات المتبعة في هذا الصراع المفتوح.

أولاً: من حيث محاولات الاحتلال تغيير الواقع الاجتماعي والثقافي في المدينة

لم ينجح الاحتلال، تماماً، حتى اليوم في تغيير صورة المدينة، القديمة على وجه الخصوص، وهذا مؤشرٌ إيجابيّ، ويحفّز الوقوف جدياً والانتباه إلى نقاط ضعفنا لتفاديها، ولجعل مهمة الاحتلال مستحيلة، وهنا أُشير إلى بعض النقاط المهمة التي يجب الوقوف عندها.

1- نجد أن المدينة تصبح خاويةً بعد ساعات المساء، وتغدو طرقاتها خاليةً من الناس، موحشةً، ويساهم في هذه الصورة عاملان أساسيان، هما: إغلاق المحلات من قبل أصحابها في وقتٍ مبكر، وتوجُّه الكثير من أبنائها إلى المناطق الفلسطينية القريبة للسهر.

ولعلاج هذه الظاهرة، أُوجه دعوةً لأصحاب المحال التجارية من أجل فتح أبواب محالهم التجارية لساعة متأخرة، إذ إن وجودهم يساهم في دب الحياة في أوصال المدينة ليلاً، كما أوجه الدعوة للشباب المقدسي القادر على التواجد في المدينة إلى عدم مغادرتها.

وقد أثبتت التجربة أن التواجد على الأرض يطرد المستوطنين، ويُربك وجودهم، ويرفع من كلفة وجود الاحتلال.

2- تعزيز الحالة الثقافية والاجتماعية في المدينة، وهنا أُوجه دعوةً لكلّ الشباب الريادي، والمقدسيّ على وجه الخصوص، بتكثيف النشاطات والمبادرات الهادفة إلى تجمهُر الناس في المدينة، من مهرجاناتٍ وندواتٍ ونشاطاتٍ رياضية، لما يمتاز به الفعل الثقافي من كونه فعلاً جاذباً ومُستديماً وغير موسمي.

كما أُوجه الدعوة إلى المؤسسات والهيئات الخاصة والعامة في المدينة إلى تبني هذا الفعل ودعمه والاستثمار فيه، وإسناد حراك الشباب الريادي والمبدع في المدينة.

3- العمل على إنشاء جمعياتٍ وأجسامٍ وهيئات، إضافةً إلى ما هو موجودٌ في مختلف الاهتمامات، وإشراك الشرائح الاجتماعية فيها، وفتح الباب أمام كافة الاقتراحات والأفكار الرامية إلى تحقيق الهدف الأساس بتعزيز وجود الناس في المدينة.

 

ثانياً: ظاهرة سيطرة الاحتلال على عقارات المدينة

لا بد من الاشارة هنا إلى أن عدد العقارات الموجودة داخل الأسوار يصل تقريبا إلى 8800 عقار، ويتّبع الاحتلالسياسة مُمنهجة للسيطرة على أكبر قدرٍ منها وتشير الخارطة الصادرة عن دائرة شؤون المفاوضات في العام ٢٠١٨ أن مجموع العقارات التي نجح الإحتلال في السيطرة عليها يقارب مئة عقار فقط منذ العام ١٩٦٧، إما بتملّك العقار أو المنفعة في عقودٍ طويلة الأجل، موظِّفاً التشريعات والمبررات الهادفة للسيطرة عليها من وضع يد ما يُسمى "حارس أملاك الغائبين"، أو فرض الضرائب العالية وتراكمها على العقارات وغيرها من سُبُل استلاب العقارات في البلدة القديمة.

وحيث إن أساس الصراع مع الاحتلال بكل صوره هو صراع ٌوجوديٌّ قائمٌ على الأرض والعقار، فإنه لا يمكن الاستهانة بتسريب أيّ عقار، ومن الواجب اتخاذ الإجراءات الوقائية والمانعة لتسريب أيِّ حجرٍ للاحتلال، ويجب أن يكون العمل جماعياً ومشتركاً لإفشال مخطط الاحتلال بأسرلة القدس، والحقيقة أنه يجب الوقوف إجلالاً للمقدسيين على قوّة موقفهم، ومناعتهم الوطنية في وجه هذا المخطط، ولذا أضع بعض الأفكار التي ربما تساعد في إفشال خطط الاحتلال، إضافةًإلى ما تم اتخاذه من إجراءاتٍ توافَقَ عليها المقدسيون، ومنها:

- إنشاء لوحة إعلانات عامة، يتم الإعلان فيها خطياً عن اسم الراغب بالشراء والبائع والعقار والثمن، وأن يكون الإعلان سابقاً للبيع، وشرطاً من شروط منح الموافقات اللازمة. لن أُطيل الحديث في الهدف المرجوّ من هذا الإجراء، فقد بات معلوماً لدى الكافة أن التسريب، سواء بالمباشرة أو من خلال مُشترٍ آخر، يتم بالخفاء ويعوّل فيه الأطراف على إخفاء المعلومات، ولا شك أنّ الإعلان المسبق يضع عملية البيع تحت الضوء من اللحظة الأولى.
- يوجد في القدس العديد من المحامين المقدسيين، ذوي الكفاءة والمشهود لهم ممن يتمتعون بصفة كاتب العدل، ومن الضروري أن يتم التوافق من قبل لجان العائلات على اعتمادهم دون سواهم لإتمام معاملات نقل الملكية، وهم بوصفهم محامين تقع على عاتقهم رقابة البيوعات باعتبارهم قانونيين ومتخصصين.
- لا بد من التوقف فوراً عن اللجوء إلى محاكم الاحتلال لفض النزاعات العقارية الخاصة بالقدس، سواء دعاوى إثبات الملكية أو المنفعة من دعاوى إخلاء المأجور إلى إثبات الملكية وغيرها، ذلك أنّحارس أملاك الغائبين سيتدخل بمجرد قيد الدعوى أمام المحكمة، وما يرافق ذلك من إقراراتٍ قضائيةٍ قد تصدر عن طرفي النزاع أمام المحاكم بالضرورة سوف يتم توظيفها لغاياتٍ أُخرى من الاحتلال، والاستعاضة عن ذلك بإعلان توافقٍ عامٍّ باعتماد طُرُق التقاضي البديلة، ومنها التحكيم والوساطة والتسوية، ومنح هذه الطرق حجيةً ملزمة من المجتمع المقدسي.
- كل ذلك إضافةً إلى الأفكار المتبعة والمتداولة،كالوقف الذري أو العام أو غيرها من الإجراءات التي تخدم الحفاظ على العقار.

يجري في هذه الأيام حديثٌ مبهمٌ وغير واضح المعالم عننية الاحتلال إعلان أعمال التسوية في البلدة القديمة، وإمكانية تسجيل العقارات في دائرة الطابو، وهناك خطةٌ إسرائيليةٌ تعتمد المبررات الاقتصادية كواجهة لتمريرها، فيقال إنّ تسجيل العقارات المقدسية في الطابو الإسرائيلي سوف يمكّن أصحابها من الاقتراض من البنوك بضمان رهن العقار، وما يوفره هذا الأمر للبنوك من استثماراتٍ آمنةٍ عبر الإقراض وغيرها من الاستثمارات، وهذا الأمر يضع أمامنا السؤالين الأهم: ما مدى جهوزيتنا لخوض النزاعات القانونية التي قد تنشأ عن إعلان التسوية، ومقدرة ملّاك العقارات الفلسطينيين، وغالبيتهم مالكون بطريق التوارث، على تقديم المستندات والأوراق والحجج القانونية للتصدي لأي ادعاءات بالملكية؟ ثم ماذا لو تم اشتراط خلو صفحة العقار من الضرائب أو براءة ذمة المالك، لفتح معاملات الطابو والتسجيل؟

بات مُلحاً أن نعمل بجهدٍ جماعيٍّ من أجل تفادي الأضرار التي قد تنجم عن هذه الخطة، أو هذا التفكير –أعني الطابو– وأول هذه الإجراءات يقع على عاتق لجان العائلات في القدس، حيث عليها أن تبدأ بتحضير "صُحُف ملكية العقار"، بمعنى "شجرة الملكية لكل عقار، من المالك حتى الورثة"، وبذلك تنكشف أمام العائلات نقاط الضعف –إذا وُجدت– والعمل على تعزيزها وإسنادها.

وهنا أوجه الدعوة لنقابة المحامين الفلسطينيين، وللمحامين المقدسيين، من أجل تحديد أسماء محامين يتبرعون للقيام بالمهام القانونية، أو تنصيب لجنةٍ استشاريةٍ لهذا الأمر، وتخفيف التكاليف عن موكليهم بهذا الصدد.

 

ثالثا: سياسياً

ربما يكون حديثي في هذا الجانب نظرياً أو حالماً، سيما أنني لست مُلمّاً بكل ما تتخذه المؤسسة الرسمية من إجراءات فرض السيادة، ولا يمكن إنكار أهمية الدور الذي تتحمله المؤسسة الرسمية، في سبيل تكريس القدس عاصمةً للدولة الفلسطينية.

وفِي هذا السياق، فإنّ نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وإعلان اعتراف الولايات المتحدة بها عاصمة للاحتلال، واتخاذ دولٍ أُخرى الخطوة ذاتها، يلزمها إجراءٌ سياسيٌّعالي الدلالة منا نحن الفلسطينيين، كأن يتم تشكيل الحكومة الفلسطينية القادمة من كفاءاتٍ وشخصياتٍ مقدسية بالكامل، وتحمل اسم حكومة القدس، ولو لمرة واحدة، ويكون كافة وزرائها مقدسيين، وأظن في ذلك رسالة عالية الصوت، مفادها أنّ القدس هي دُرّة القضية وتاج الدولة، إضافةً إلى تعزيز صناديق المؤسسات الرسمية والأهلية العاملة في القدس أو لأجلها، واتخاذ الإجراءات والقرارات اللازمة لتعزيز صمود المقدسيين وبقائهم، ولا ضير من تشريع رسمٍ أو فرضٍضريبيٍّ خاصٍّ يذهب لصندوق تعزيز صمود القدس.

ومن المهم، أيضاً، أن تتولى مؤسسات منظمة التحرير والأحزاب والقوى الفلسطينية دورها من حيث تعزيز عمل الدوائر الخاصة بالقدس، وتعبئة كوادرها، وإنشاء أجسام ودوائر إضافية من أجل تكثيف الحضور المؤسسي والجماهيري في القدس، سواء أكانت متعلقة بالصحة أم التعليم أم الاتحادات والنقابات، وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة توظيف الوسائل الدبلوماسية للضغط من أجل إعادة فتح أبواب المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير التي أغلقها الاحتلال، تماشياً مع رسائل الاعتراف المتبادلة، تحت ضغط سحب الاعتراف، ومنها على سبيل المثال: بيت الشرق ومقر غرفة صناعة وتجارة القدس واتحاد الكتاب ونقابة المحامين وغيرها من المؤسسات.

ولا بد من مراجعة الدور أو الحضور الأمني الفلسطينيّ في القدس وتعزيزه، ورفد قوى الأمن الموجودة بالمتخصصين أكاديمياً وبحثياً لخصوصية الحالة المقدسية، وتعزيز قاعدة البيانات الفلسطينية، وغيرها من الوسائل التي تعيها المؤسسة الأمنية على وجه التأكيد.

ومن الضروري كذلك العمل على خلق مرجعياتٍ موحّدة يكون من ضمن أهدافها حفظ السلم الأهلي، ولها الصلاحية في تقرير الإدانة الاجتماعية للخارجين عن التوافق الوطني، والتعامل مع المتغيرات اليومية، وعدم التعايش مع القرارات الاحتلالية بنزع الصفة المقدسية عن المناطق الجغرافية من قضاء القدس.

أخيراً، لا يمكن أن نكون في مواجهة خطط الاحتلالالاستراتيجية معتمدين ردة الفعل، دون خطةٍ استراتيجيةٍبديلةٍ اشتباكيةٍ ومواجِهة، فالقدس هي أرض الاشتباك، وقد برهنت الأيام والتجارب أن في القدس أهلاً سيَّجوها بأرواحهم وأبنائهم، ويسهرون في ليلها مثل أسرجة زيت مقدّس، يضيئون حلمها بالحرية والخلاص، وقُدّر لهم أن يكونوا سورها الحامي المنيع، ووسام فخرنا، ولأنها القدس مهجة الوجود الفلسطيني ودونها الزوال، فلا بد من شد ّأزرها، وتعزيز بقائها وصمودها، ابتداءً من وضع صورتها على طابع البريد إلى افتدائها بدم الوريد.