في ذكرى اغتيال الشهيد غسان كنفاني... اول من دق جدران الخزان من الداخل

08.07.2017 11:18 AM

رام الله- وطن: يصادف اليوم مرور الذكرى السنوية الـ 45 على اغتيال الشهيد غسان كنفاني، عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الصحفي الذي لا يشبهه أحد، المفكر الذي خلّد كلماته في ذاكرتنا وغابت عنا سيرته الذاتية، كنفاني صاحب مقولة "تسقط الأجساد وتبقى الفكرة" وكأنه كان يعلم أن جسده سيسقط وتبقى فكرته وليده كل لحظة.

المرور التاريخي واليومي على حادثة الاغتيال، اذ استشهد كنفاني  صباح يوم السبت 8 / 7 / 1972، في العاصمة اللبنانية بيروت بعد أن انفجرت عبوات ناسفة وُضعت في سيارته، ما أدى لاستشهاده مع ابنة شقيقته الطفلة لميس، رحيل أوقف التنفس في جسد غسان، ولكنه لم يوقف أثره المتمدد في الجيل الفلسطيني بعده، فغسان فكرة، والفكرة لا تموت.

مروراً بسيرة الشهيد كنفاني، فمولده كان عام 1936 في مدينة عكا، ونشأته في يافا التي كانت أولى محطات الاستهداف الاسرائيلي بعد قرار تقسيم فلسطين 1947، ثم عادت عائلته الى عكا الا كنفاني أصر على  العودة لاحقاً الى يافا، ثم نفذ الاحتلال مجازره بحق الفلسطينيين كدير ياسين ويافا وحيفا، وكان كنفاني آنذاك يستمع لشهادات حية حول المجازر بصمته الذي كان يطبق عليه كلما حاول التعمق في فهم أمر ما، وفق ما وصفه شقيقه في احداى اللقاءات الصحفية.

عرفته الجماهير آنذاك بالصحفي الجريء، والكاتب الذي تحدث بما لم يجرؤ أحد على التحدث به، الروائي الذي أجاد فهم عمق القضية فكتبها وفق ما يهوى، الفلسطيني الذي اتهم بحب وطنه، ورآه الاحتلال بالمقاتل على جبهة الكلمة المزلزلة.

وكسياسي بارع في لغة الخطاب، كان كنفاني أهم كتاب بيانات الجبهة الشعبية التي كانت تتطلب فهماً عميقاً وقولاً سديداً، وجرأة واضحة، ولم يقتصر عمله السياسي في الساحة الفلسطينية، بل وصل بفكره الى حركات التحرر العالمية والقوى الثورية، خاصة في النرويج والسويد والدنمارك، ولم يكن كنفاني ذا أثر تحده حدود فلسطين الضائعة، إنما كان أثره يمتد الى حيث تطأ قدمه، فكان يحاور بالمنطق والحجة القوية، والأدلة الواضحة، ما يعجز عن رده أحد.

اتخذت غولدا مائير رئيسة وزراء حكومة الاحتلال آنذاك قرارا باغتياله وكلفت الجنرال في الموساد زامير آمرا بتولي المهمة عبر عملاء الاحتلال في لبنان، ورحلت معه لميس نجم 17 عاما، ابنة شقيقته فايزة التي كانت بمثابة أمه التي رحلت وهي في سن الشباب.

وعندما استمرت عصابات الاحتلال في تنفيذ مجازرها لارهاب الفلسطنيين واجبارهم على ترك أراضيهم، استطاعت عائلة كنفاني مغادرة عكا مع آخرين الى لبنان فوصلوا إلى صيدا وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتاً قديما في بلدة الغازية قرب صيدا، ثم انتقلوا الى حلب  السورية فالزبداني الى ان استقروا في دمشق، وفقدت عائلة غسان حينها منزلين كان والده يشيدهما في عكا وآخر في يافا.

وكان كنفني خلال مرحلة تعليمه الابتدائية يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية، وأثناء دراسته الثانوية برز تفوقه في الأدب العربي والرسم وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين وبالذات فى مدرسة الاليانس بدمشق، والتحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي، وأسند إليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي، وكان معظم ما عرض فيه من جهد غسان الشخصي.

وفي هذا الوقت كان قد انخرط في حركة القوميين العرب، وكان يضطر أحيانا للبقاء لساعات متأخرة من الليل خارج منزله مما كان يسبب له إحراجا مع والده الذي كان يحرص على إنهائه لدروسه الجامعية.

قي أواخر عام 1955 عمل في سلك التعليم في الكويت  وكانت شقيقته قد سبقته في ذلك بسنوات وكذلك شقيقه، وفترة إقامته في الكويت كانت المرحلة التى رافقت إقباله الشديد على القراءة  وهي التى شحنت حياته الفكرية بشكل كبير، اذ كان يقول انه لا يذكر يوماً نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن 600 صفحة.

وهناك بدأ يحرر في إحدى صحف الكويت ويكتب تعليقا سياسياً بتوقيع "أبو العز" لفت إليه الأنظار بشكل كبير خاصة بعد أن كان زار العراق بعد الثورة العراقية عام 1958، وفي الكويت كتب أولى قصصه القصيرة "القميص المسروق" التى نال عليها الجائزة الأولى في مسابقة أدبية.

عام 1960 حضر غسان إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية.

غسان الزوج
بيروت كانت المجال الأرحب لعمل غسان وفرصته للقاء بالتيارات الأدبية والفكرية والسياسية، حيث بدأ عمله في مجلة الحرية، ثم أخذ بالإضافة إلى ذلك يكتب مقالاً أسبوعيا لجريدة "المحرر"، ولفت نشاطه ومقالاته الأنظار إليه كصحفي ومفكر وعامل جاد ونشيط للقضية الفلسطينية،  فكان مرجعاً لكثير من المهتمين بمعرفة حيثيات القضية.

وفي عام 1961 عُقد فى يوغوسلافيا مؤتمرطلابي اشتركت فيه فلسطين، وكذلك كان هناك وفد دانمركي، كان بين أعضاء الوفد الدانمركي فتاة متخصصة في تدريس الأطفال، قابلت الوفد الفلسطيني ولأول مرة كانت قد سمعت عن القضية الفلسطينية.

واهتمت الفتاة اثر ذلك بالقضية ورغبت فى الإطلاع عن كثب،  فشدت رحالها إلى البلاد العربية مرورا بدمشق ثم إلى بيروت حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني كمرجع للقضية، وقام غسان بشرح الموضوع للفتاة وزار وإياها المخيمات وكانت هى شديدة التأثر بحماس غسان للقضية، وكذلك بالظلم الواقع على هذا الشعب، ولم تمض على ذلك عشرة أيام إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج وقام بتعريفها على عائلته كما قامت هي بالكتابة إلى أهلها، وقد تم زواجهما بتاريخ 19 أكتوبر 1961، ورزقا بالطفلين فايز وليلى.

وفي بيروت أصيب من مضاعفات السكري بالنقرس وهو مرض بالمفاصل يسبب آلاماً مبرحة تقعد المريض أياماً، ولكن كل ذلك لم يحد  يوماً من  نشاطه أو قدرته على العمل فقد كان طاقة لا توصف وكان يستغل كل لحظة من وقته دون كلل.

غسان الأديب
كان غسان أديباً بفحوى عميق، اذ كان يستثمر كل حادثة ويكتب عنها تخليداً لها ومعرفة بها، فرواياته خير دليل على ذلك، اذ كتب "أرض البرتقال الحزين"، وتحكى قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية، و"موت سرير رقم 12"، استوحاها من مكوثه بالمستشفى بسبب المرض، و"رجال في الشمس" من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت واثر عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، كانت المعاناة ووصفها هى تلك الصورة الظاهرية للأحداث أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصور ضياع الفلسطينيين فى تلك الحقبة وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش مثبتاً أنهم قد ضلوا الطريق، وفي قصته "ما تبقي لكم"، التي تعتبر مكملة "لرجال في الشمس"، يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي.

قصص "أم سعد" وقصصه الاخرى كانت كلها مستوحاة من ناس حقيقيين، في فترة من الفترات كان يعد قصة ودراسة عن ثورة 36 في فلسطين، وشرع بالبحث عن شهود عيان كانوا شاهدين على تلك المرحلة، وقد أعد هذه الدراسة لكنها لم تنشر (نشرت في مجلة شؤون فلسطين) أما القصة فلم يكتب لها أن تكتمل بل اكتمل منها فصول نشرت بعض صورها في كتابه "عن الرجال والبنادق".

لا أحد يجهل أن غسان كنفاني هو أول من كتب عن شعراء المقاومة ونشر لهم وتحدث عن أشعارهم وعن أزجالهم الشعبية فى الفترات الأولى لتعريف العالم العربي على شعر المقاومة، لم تخل مقالة كتبت عنهم من معلومات كتبها غسان وأصبحت محاضرته عنهم ومن ثم كتابه عن "شعراء الأرض المحتلة" مرجعا مقررا فى عدد من الجامعات وكذلك مرجعا للدارسين.

وكتب كنفاني مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات التي تعالج جوانب معينة من تاريخ النضال الفلسطيني وحركة التحرر الوطني العربية سياسياً وفكرياً وتنظيمياً.
ورثى كنفاني مجموعة من الشعراء الفلسطينيين، حيث كتب محمود درويش "لم تمتَشِق إلا دمكْ. كان دمُكَ مكشوفاَ من قبل أن يُسفَكْ. ومنْ رآكَ رأى دَمَكْ. هوَ الوحيدُ الواضحُ. الوحيدُ الحقيقيُّ والوحيدُ العربيُّ. دقَّ سقفَ الهجرةِ وعادَ كالمطر الذي يهطل فجأة من سماء النُحاسِ على أرضِ القصدير. فهل سمعنا رنينهُ؟ هل سمعنا صداه؟ سمعناهُ يا غسان، فكيف نثأر له؟. وحين نقول فلسطين، فماذا نعني؟ هل فكَّرنا بهذا السؤال من قبل؟ الآن نعرفُ: أن تكون فلسطينيا معناه أن تعتاد الموت، أن تتعامل مع الموت... أن تُقدِّم طلب انتسابٍ الى دمِ غسان كنفاني. ليست أشلاؤك قطعا من اللحم المتطاير المحترق. هي عكا، وحيفا، والقدس، وطبريا، ويافا. طوبى للجسد الذي يتناثر مدنا. ولن يكون فلسطينيا من لا يضمُّ لحمه من أجل التئام الأشلاء من الريح، وسطوح منازل الجيران، وملفات التحقيق، اذهبوا إلى اسم غسان كنفاني واسرقوه، أطلقوا اسمه على أي شيء وعلى كل شيء. أطلقوا اسمه عليكم واقتربوا من أنفسكم، من حقيقتكم، تقتربوا من الوطن."
من رثاء بسام أبو شريف لكنفاني: "أنت تعرف كم أعشق كلماتك، كم سرت معك، خلفك، خلفك. كم تمنيت أن أكون أمامك مرة واحدة، أرحل قبلك كي تكتب في رحيلي كلمة واحدة، حرفا واحدا، ولكن لماذا ضننت علي بهذا يا غسان؟".

تصميم وتطوير