نبيل دويكات يكتب لـ وطن: إعادة إنتاج ثقافة القطيع

30.01.2017 08:43 AM

يعرف معظمنا معنى مفهوم "القطيع"، الذي يشير باختصار الى قطيع الأغنام أو الحيوانات الأليفة عموماً، والتي تعتبر بالنسبة للمزارعين، سواء في بلادنا أو في كثير من البلدان الأخرى، مصدراً هاماً من مصادر الرزق والمعيشة. وفي الغالب يعتمد المزارعون على الرعي الطبيعي في اطعام هذه الحيوانات. وعادة ما يصطحبون "قطيع" حيواناتهم الى البراري للرعي خلال ساعات النهار. ومع مرور الزمن تطورت في معظم المجتمعات "ثقافة" خاصة بالقطيع تتضمن سلسلة من الطقوس والممارسات التي تسهل وتيسّر عملية قيادة القطيع والمحافظة عليه، بمساعدة "قائد" من القطيع نفسه جرى تمييزه من خلال حلقات واجراس توضع في رقبته وتدق باستمرار حركته، ويصبح ذلك بالنسبة للقطيع مرشداً لهم لاتباعه والسير خلفه.

زاد انتشار واستخدام مفهوم القطيع خلال السنوات الاخيرة وخاصة في المجال السياسي. وبات المصطلح يستخدم رمزياً في مجال تحليل العلاقات السياسية في اطار نظام سياسي يستند الى حكم غير ديمقراطي. ويركز في جوهره على حكم الفرد أو مجموعة من الأفراد بينما بقية الشعب أو المواطنين منقادين، طوعاً أو كرهاً، للقائد وأتباعه عبر سلسلة واسعة من السلوكيات والممارسات والانظمة والاجراءات التي تعيد انتاج نسخة مشابهة من شكل العلاقة بين "قطيع" وقائده. وينسحب هذا الأمر كذلك على مجمل مكونات النظام السياسي من أحزاب ومؤسسات وجمعيات وغيرها.

نظره فاحصة في تفاصيل حياتنا وسلوكياتنا المختلفة كافية لكي تؤشر لنا أننا نكرّس ونعيد إنتاج "ثقافة القطيع"، قصداً أو من غير قصد. وعلى سبيل المثال لا الحصر يلفت الانتباه نمط السلوك المتبع في عملية الخطوبة، أو ما يعرف في تقاليد مجتمعنا باسم "الجاهة" او "الطلبة"، وهي من حيث الجوهر توجه مجموعة من "ذوي" شاب معين الى بيت فتاة معينة لخطبتها من عائلتها. ويقوم اهل الفتاة باستقبال القادمين، وعادة ما تُقدم لهم القهوة للترحيب، فيبادر أحد القادمين متحدثاً الى مستقبليهم شارحاً لهم انهم لن يشربوا القهوة إلا بعد الموافقة على طلبهم بخطبة ابنتهم. وهنا يقف متحدث آخر من المستقبلين ويقول لهم بما معناه اشربوا قهوتكم فإن طلبكم مستجاب. ويشرب الجميع القهوة ويوزعون الحلويات. ثم تجري بعد ذلك خطوات الخطوبة ومن ثم الزواج وفق خطوات واجراءات متتالية متفق عليها مجتمعياً.

في واقعنا وعصرنا الحالي يجري عادة دعوة عدد كبير جداً من الاشخاص للمشاركة في هذا الحدث، ويصل العدد احياناً الى عدة مئات، وبالطبع يكون في استقبالهم عدد مماثل. معظمهم يتوزعون في مكان الاستقبال ومحيطه، لا يسمعون غالباً ما يجري في الحلقة الضيقة لمركز الحدث. بل يتابعون ذلك بانتظار صوت احدهم من داخل المكان يدعوهم لقراءة الفاتحة، وهو مؤشر على أن عملية الطلب قد تمت وجرى الموافقة عليها. يتبع ذلك انطلاق عشرات الاشخاص من بين الحضور لتوزيع الحلوى والمشروبات بهذه المناسبة، وهي بمثابة الاشارة بانتهاء الحدث وامكانية المغادرة.

معظمنا يعرف تفاصيل ذلك جيداً، بل يحفظها غيباً. ونعرف ايضاً ان كل هذه السلوكيات اصبحت عبارة عن شكل وتقليد ليس له علاقة بالفكرة الاصلية، ونعلم ايضاً ان عملية الخطوبة قد تمت، على الأغلب في فترة سابقة، وكذلك الموافقة، وفي بعض الحالات جرى عقد القران رسمياً قبل هذا الحدث. والجميع يعلم ان كل ما يجري ليس إلا نوع من التكرار لسلوك وتقليد لا يقدم ولا يؤخر في مجمل اجراءات الخطوبة والزواج.

ليست هذه هي المناسبة الوحيدة التي يجري فيها "دعوة" المواطنين وحشدهم للمشاركة، بل يتم ذلك في الكثير من المناسبات والاحداث كالزواج والتهنئة بالنجاح أو العودة من السفر أو اداء العمرة... الخ من المناسبات. وفي مثل هذه المناسبات عادة ما يجد المواطن نفسه في وسط طابور طويل للوصول الى صاحب الدعوة والسلام والتبريك وتناول كأس من العصير وحبة حلوى والمغادرة فوراً، وأحياناً حتى دون التمكن من الجلوس.

فما هو الهدف اذاً؟! ولماذا تندفع هذه الحشود للمشركة دون ان يكون هناك فائدة فعلية من مشاركتها؟! وكيف يتم تحييد العقل في ممارسة هذه السلوكيات؟! ولماذا يندفع الجميع في حدث معين دون التفكير ولو للحظة، بل ينقادون في سلوك اشبه بنمط السلوك التي يسير عليها القطيع؟! حتى مجرد التفكير بمخالفة قواعد السلوك هذه يُنظر لها بمقولة المثل الشعبي "كمن يقيم الدين في مالطا"، أو كمن "يحمل السلم بالعرض"، ناهيك عن ممارسة سلوك مختلف مخالف، ألم يحن الأوان للبحث عن شكل ونمط آخر لسلوك منظم ومبني على أسس من التقدير والاحترام لكل فرد ودوره؟! وليس الاكتفاء فقط بدعوته لأن يكون عدداً اضافياً؟!

خلاصة القول ان هناك الكثير من انماط السلوك التي نعلم جميعاً أن لا جدوى حقيقية من ورائها، بل ونعلم جميعاً ان أحد تجليات ممارستنا لها، رغم علمنا ومعرفتنا بذلك، إنما تشير الى أننا نقبل ونتقبل ممارسة سلوك معين، وبنوع من "المجاراة" ليس إلا. من المؤكد انه ستثور ثائرة أي منا فيما لو أن احدهم أشار الينا، ولو من باب التلميح دون التصريح، بأن ممارسة سلوك معين لا تختلف عن ممارسة وسلوك فرد في القطيع. وحتى هنا في رد الفعل والتصرف فإننا نقبل بكل بساطة التخلي عن العقل والمنطق، وهو اكثر ما يميزنا عن القطيع، ونتصرف دون ان نكلف انفسنا مجرد تشغيلها. لقد آن الأوان لأن نخرج انفسنا، أو على الاقل، ان نحاكم بعض سلوكياتنا كمواطنين فاعلين عقلانيين منتجين يعلمون من اجل بناء مجتمع افضل لهم ولأجيالهم القادمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير