تحد جدي..بقلم: ميشيل كيلو

20.07.2011 09:41 AM

في أخبار الصحف نبأ يعكر المزاج ويثير الكمد، يقول: إن 700 ألف مصري أعلنوا عن رغبتهم في مغادرة وطنهم إلى الدول الغربية عامة وأمريكا خاصة . هذا الحشد الهائل من الخلق يتكون بالتأكيد من شبان وشابات، فكبار السن لا يهاجرون بكثافة، وكذلك السيدات المسنات . والشبان والشابات في بلداننا ثروة وطنية، ليس فقط لأنهم نالوا قسطاً من التعليم، كلف أهليهم والدولة مبالغ طائلة، بل لأنهم مواطنون يحتاج إليهم وطن يتوقف عليهم تطوره وتتقرر من خلالهم مكانته بين الدول والأمم .

لم أجد دراسة ميدانية حول أحوال هؤلاء المصريين أو دوافعهم الاجتماعية والشخصية . لذلك، سأكتفي بتخمين الأسباب التي دفعتهم إلى الرغبة في القطيعة مع وطن ولدوا وترعرعوا فيه، يلزمهم انتماؤهم إليه بوضع قدراتهم تحت تصرفه، مثلما تلزمه هويتهم كمواطنين بإيجاد فرص عمل دائمة لهم، وبضمان مستقبل مستقر يقيهم غائلة البطالة والحاجة ويمكنهم من تحقيق بعض ما يصبون إليه من كرامة واعتبار، ويتيح لهم تكوين أسر وتنشئة أطفال، وأخيراً تمضية كهولة وشيخوخة هانئتين، ناهيك عن مد يد العون لذويهم ومحبيهم، ولعب دور يكسبهم احترام مجتمعهم، ويعزز موقعهم منه، في كل ما يتصل بعلاقاتهم مع مواطنيهم، أو بأنشطتهم العلمية والعملية، أو حريتهم وحقوقهم .

لنتأمل الآن ما نعرفه عن أحوال مصر العامة، التي أرجح أن تكون لها علاقة بأوضاع طالبي الهجرة هؤلاء .

 تقول الإحصاءات إن مصر تعاني فائضاً سكانياً يبلغ ما بين عشرة ملايين وعشرين مليوناً من المواطنين . يوجد في مصر عدد من البشر يشمل ربع سكانها تقريباً، ليس له ما يبحث عنه أو يحصل عليه في هذه الحياة/ الدنيا . هذا العدد الهائل ما كان يجب أن يولد، لأنه لن يجد بكل بساطة مكاناً له في وطنه، ولن ينال أية خدمات أو أي عمل، فإن حصل على شيء منهما، يكون قد أخذه من حصة مواطن آخر، وإن ذهب إلى المدرسة فإنه يجلس في مقعد تلميذ آخر أو يقاسمه حصته فيه، لأنه ليس بالأصل مخصصاً له ويفترض أنه ليس له مكان فيه، وإن تناول طعاماً يكون قد أكل من حصة غيره، علماً بأن المواطن العادي، الذي لا ينتمي إلى هذا “الفائض”، يعيش تحت وطأة ظروف حرمان شديد، يفتقر بسببه إلى أدنى حد من الخدمات والحقوق، فهو فقير وجائع وعاطل وأمي وهامشي الوجود: حصته من الحياة محدودة إلى درجة تثير العجب، واستمراره فيها لغز يصعب فهمه وفك أسراره وطلاسمه الغامضة .

 تقول الإحصاءات إن مساحة الأرض، المخصصة لتغذية الفرد الواحد، تتناقص بتسارع يومي، والتوسع في الأرض الزراعية محدود وبطيء، بينما الصناعة أشد ضعفاً، وأقل كثافة، وأكثر تأخراً من أن تقدم فرص العمل لنيف ومليونين من المواليد الجدد كل عام، الذين تتحدى تكلفة تشغيلهم حجم الموازنة المصرية بأسرها، ولا تترك أمام الدولة غير أحد خيارين: تشغيل العاطلين اليوم وإهمال المواليد الجدد وتركهم لهامشية قاتلة، مع ما ذلك من خطورة على وجود النظام وربما البلد، أو إهمال العاطلين الحاليين وتركهم للموت البطيء، وتشغيل القوى العاملة الجديدة، التي تتزايد أعدادها إلى درجة ستفوق طاقات وقدرات أي دولة تدير مصر، مهما كان نوعها: ديمقراطياً أو استبدادياً، ملكياً أو جمهورياً . . إلخ . يحدث هذا، بينما يفضل القطاع الخاص العمل بتقنيات موفرة للأيدي العاملة أو مستقطبة للعمال المهرة من مهندسين وإداريين وفنيين، وتطرد الزراعة فائض الريف السكاني المتعاظم إلى مدن تكتظ أكثر فأكثر بالمشردين والجياع وتكتسب سحنة ريفية، آخذة مصر معها إلى الهاوية بدل أن تحقق ما سبق للمدينة الأوروبية أن فعلته، عندما تكفلت بإخراج المجتمع من حالته الريفية وأدخلته إلى مدنية امتدت إلى الأرياف وسكانها، وجاءت بها من حالتها الزراعية إلى الصناعة، فالتقنية .

في وضع هذه سماته، ماذا يبقى من خيارات أمام مصر غير خيار جزئي يقوم على عقلنة عمل الدولة وبرامج التنمية وضبط السياسات السكانية وتوسيع علاقات السلطة بالمجتمع والمجال العام . . إلخ، أو خيار بديل، عام وحتمي، يجسده التوجه نحو العرب والعمل على حل مشكلات مصر في حاضنة أمتها، الغنية بالأرض والمياه والثروات والأموال والطاقات البشرية والعقول، والتي تمتلك خبرة تاريخية فريدة في الحضارة وبناء الدول الكبرى؟

أمِن المستغرب أن يعلن سبعمائة ألف مصري عزمهم على ترك وطنهم إلى بلدان يفترض أنها معادية أو عدوة؟ أليس أمراً مفهوماً، وإن كان غير مقبول بطبيعة الحال، أن يدفع الاحتجاز العام على صعيد السلطة، والعجز والضعف السياسيان على صعيد المجتمع (السائدان في كل مكان من عالم العرب) المواطن المصري (والعربي) إلى يأس يقتل وطنه في نفسه، ويرغمه على جعل الهجرة محور حياته، بغض النظر عن الجهة التي يقصدها والثمن الذي يدفعه؟

 

لا أمل في فرصة، إذا ما استمرت الظروف السياسية والاجتماعية والتنموية الراهنة . ولا أمل إن واصلت السلطة سد منافذ الرجاء، والقضاء على الحرية كحاضنة روحية ومادية تعين المواطن على إبقاء أبواب روحه مفتوحة على كرامته ووطنه في آن معاً، وتحمله بعض المسؤولية عن نجاحه أو فشله، إن هو قصر في الإفادة منها للدفاع عن حقوقه ومصالحه . في ظل الاحتجاز العام، اليومي والملموس، وانسداد الأفق الفردي/ الشخصي، لا يبقى للمواطن غير مهرب واحد هو الانزواء جانباً أو الفرار من وطنه إلى أي مكان تزين له مخيلة المقهور أنه سيجد فيه المن والسلوى، أو على أقل تقدير لقمة العيش ونسمة الحرية .

ذات يوم، قال دبلوماسي أمريكي يعمل في دولة عربية مشرقية، تعقيباً على طوابير من يقفون طوال أيام أمام أبواب السفارة، رغم ما يتعرضون له من سوء معاملة: لو فتحنا باب الهجرة، لما بقي أحد في هذه البلاد .

كنا في هجرة العقول، فصرنا في هجرة تشبه فراراً جماعياً من جحيم . هل ستنجح ثورة مصر في التصدي الناجح لهذه المعضلة المستعصية؟ ذلك هو التحدي الكبير الحقيقي الذي يواجهها، وعلى نجاحها في إيجاد حلول له يتوقف نجاحها .في أخبار الصحف نبأ يعكر المزاج ويثير الكمد، يقول: إن 700 ألف مصري أعلنوا عن رغبتهم في مغادرة وطنهم إلى الدول الغربية عامة وأمريكا خاصة . هذا الحشد الهائل من الخلق يتكون بالتأكيد من شبان وشابات، فكبار السن لا يهاجرون بكثافة، وكذلك السيدات المسنات . والشبان والشابات في بلداننا ثروة وطنية، ليس فقط لأنهم نالوا قسطاً من التعليم، كلف أهليهم والدولة مبالغ طائلة، بل لأنهم مواطنون يحتاج إليهم وطن يتوقف عليهم تطوره وتتقرر من خلالهم مكانته بين الدول والأمم .

لم أجد دراسة ميدانية حول أحوال هؤلاء المصريين أو دوافعهم الاجتماعية والشخصية . لذلك، سأكتفي بتخمين الأسباب التي دفعتهم إلى الرغبة في القطيعة مع وطن ولدوا وترعرعوا فيه، يلزمهم انتماؤهم إليه بوضع قدراتهم تحت تصرفه، مثلما تلزمه هويتهم كمواطنين بإيجاد فرص عمل دائمة لهم، وبضمان مستقبل مستقر يقيهم غائلة البطالة والحاجة ويمكنهم من تحقيق بعض ما يصبون إليه من كرامة واعتبار، ويتيح لهم تكوين أسر وتنشئة أطفال، وأخيراً تمضية كهولة وشيخوخة هانئتين، ناهيك عن مد يد العون لذويهم ومحبيهم، ولعب دور يكسبهم احترام مجتمعهم، ويعزز موقعهم منه، في كل ما يتصل بعلاقاتهم مع مواطنيهم، أو بأنشطتهم العلمية والعملية، أو حريتهم وحقوقهم .

لنتأمل الآن ما نعرفه عن أحوال مصر العامة، التي أرجح أن تكون لها علاقة بأوضاع طالبي الهجرة هؤلاء .

 تقول الإحصاءات إن مصر تعاني فائضاً سكانياً يبلغ ما بين عشرة ملايين وعشرين مليوناً من المواطنين . يوجد في مصر عدد من البشر يشمل ربع سكانها تقريباً، ليس له ما يبحث عنه أو يحصل عليه في هذه الحياة/ الدنيا . هذا العدد الهائل ما كان يجب أن يولد، لأنه لن يجد بكل بساطة مكاناً له في وطنه، ولن ينال أية خدمات أو أي عمل، فإن حصل على شيء منهما، يكون قد أخذه من حصة مواطن آخر، وإن ذهب إلى المدرسة فإنه يجلس في مقعد تلميذ آخر أو يقاسمه حصته فيه، لأنه ليس بالأصل مخصصاً له ويفترض أنه ليس له مكان فيه، وإن تناول طعاماً يكون قد أكل من حصة غيره، علماً بأن المواطن العادي، الذي لا ينتمي إلى هذا “الفائض”، يعيش تحت وطأة ظروف حرمان شديد، يفتقر بسببه إلى أدنى حد من الخدمات والحقوق، فهو فقير وجائع وعاطل وأمي وهامشي الوجود: حصته من الحياة محدودة إلى درجة تثير العجب، واستمراره فيها لغز يصعب فهمه وفك أسراره وطلاسمه الغامضة .

 تقول الإحصاءات إن مساحة الأرض، المخصصة لتغذية الفرد الواحد، تتناقص بتسارع يومي، والتوسع في الأرض الزراعية محدود وبطيء، بينما الصناعة أشد ضعفاً، وأقل كثافة، وأكثر تأخراً من أن تقدم فرص العمل لنيف ومليونين من المواليد الجدد كل عام، الذين تتحدى تكلفة تشغيلهم حجم الموازنة المصرية بأسرها، ولا تترك أمام الدولة غير أحد خيارين: تشغيل العاطلين اليوم وإهمال المواليد الجدد وتركهم لهامشية قاتلة، مع ما ذلك من خطورة على وجود النظام وربما البلد، أو إهمال العاطلين الحاليين وتركهم للموت البطيء، وتشغيل القوى العاملة الجديدة، التي تتزايد أعدادها إلى درجة ستفوق طاقات وقدرات أي دولة تدير مصر، مهما كان نوعها: ديمقراطياً أو استبدادياً، ملكياً أو جمهورياً . . إلخ . يحدث هذا، بينما يفضل القطاع الخاص العمل بتقنيات موفرة للأيدي العاملة أو مستقطبة للعمال المهرة من مهندسين وإداريين وفنيين، وتطرد الزراعة فائض الريف السكاني المتعاظم إلى مدن تكتظ أكثر فأكثر بالمشردين والجياع وتكتسب سحنة ريفية، آخذة مصر معها إلى الهاوية بدل أن تحقق ما سبق للمدينة الأوروبية أن فعلته، عندما تكفلت بإخراج المجتمع من حالته الريفية وأدخلته إلى مدنية امتدت إلى الأرياف وسكانها، وجاءت بها من حالتها الزراعية إلى الصناعة، فالتقنية.

جريدة الخليج


جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير