صلاح شحادة والملاحقة الدولية لمجرمي الحرب...بقلم: عبد الناصر فروانة

22.07.2011 11:47 AM

في منتصف ليلة مثل هذا اليوم من عام 2002 اقترفت قوات الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أبشع جرائم الحرب بحق المدنيين الفلسطينيين ، عندما قصفت إحدى طائراتها من طراز F16  مبنى سكنياً وسط حي الدرج المكتظ بالسكان في مدينة غزة ، مما أدى الى استشهاد ( 18 ) مدنياً وإصابة العشرات غالبيتهم من الأطفال والنساء .

هذا الحي المكتظ بالسكان والذي خرَّج قادة عظام أمثال الشهداء خليل الوزير أبو جهاد وصلاح خلف أبو إياد ، ويضم مواقع أثرية كالمسجد العمري الكبير ومسجد السيد هاشم وحمام السمرة وقصر الباشا، وأفخر بأنني تربيت وترعرعت في إحدى حاراته التي يُطلق عليها ( بني عامر ) ، وناضلت بجانب اخواني ورفاقي بين شوارعه وأزقته وبيوته العتيقة ، وأفخر بان علاقاتي لا زالت وستبقى قائمة مع أبنائه وسكانه وممن تقاسمنا سويا المعاناة والألم والنضال .

حي الدرج .. ليس كباقي الأحياء من حيث الشكل والمكانة والتاريخ ، والجريمة البشعة التي أُقترفت فيه هي الأخرى ليست كباقي الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين منذ احتلالها لفلسطين – وهي كثيرة ولا حصر لها - .

 وبشاعتها تكمن في حجمها  وطبيعتها والدمار الذي لحق بالمنطقة بأكملها جراء نصف طن من المتفجرات سقطت على عمارة سكنية مكونة من طابقين على مساحة لا تزيد عن 200 متر مربع في منطقة قرقش بحي الدرج فألحقت دمارا بعشرات المنازل المجاورة ما بين دمار كلي وأضرار جزئية ، والأبشع ان القصف استهدف اغتيال شخص واحد هو الشيخ ( صلاح شحادة ) أحد قادة حركة حماس ، فيما المنطقة دمرت ، والضحايا بالعشرات ما بين شهيد وجريح وان غالبيتهم كانوا من الأطفال والنساء ، وجميعهم استشهدوا أو أصيبوا وهم في منازلهم نيام .    

صلاح مصطفى محمد شحادة ( 49 عاماً ) .. من سكان بيت حانون شمال قطاع غزة ، وأسير محرر أمضى في سجون الاحتلال قرابة ( 14 ) عاماً  ، وكان قد اعتقل للمرة الأولى عام 1984  وقضى عامين ، ومن ثم اعتقل ثانية في أغسطس عام 1988 بتهمة مسؤولية الجهاز العسكري لـ " حركة حماس " وأطلق سراحه في مايو 2000.

وبعد تحرره لم يهدأ أو يستكين واصل نشاطه وقيادته للجهاز العسكري ، واتهمته سلطات الاحتلال بمسؤوليته عن تأسيس وقيادة كتائب عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة حماس والمسؤولية عن تنفيذ العديد من العمليات الفدائية ، ووفقا لوسائل الإعلام الإسرائيلية فان رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ( ارئيل  شارون ) ووزير دفاعه ( بنيامين بن اليعازر ) أشرفا " شخصيا " على عملية الاغتيال واعتبرها " شارون " أنها "إحدى أنجح العمليات" التي نفذها الجيش الإسرائيلي .

والأهم أن جريمة اغتيال الشهيد ( صلاح شحادة ) وما لحق بحي الدرج من زلزال دمر وألحق الأضرار بعشرات المنازل واستشهد وأصيب عشرات المدنيين ، لم تمر مرور الكرام بالنسبة للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان الذي مثَّل ضحايا هذه الجريمة البشعة .

المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان .. وتجربة الملاحقة الدولية

 هذا المركز الحقوقي الرائد والمتميز في الدفاع عن حقوق الإنسان في فلسطين منذ تأسيسه بغزة من قبل مجموعة من المحامين والنشطاء في مجال حقوق الإنسان عام 1995 ، وبتميزه استطاع أن ينتزع له مكانة مرموقة على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية ، بل وحاز على جوائز دولية عديدة تقديرا لجهود وانجازات مديره الأستاذ راجي الصوراني ومجس ادارته ومجموع أعضائه والعاملين فيه .

ولربما يكون المركز الحقوقي الأول في فلسطين الذي بادر ولاحق مجرمي الحرب من الإسرائيليين على المستوى الدولي ورفع ضدهم قضايا أمام القضاء الإسرائيلي والقضاء الدولي وبالتعاون وبتوكيل عدد من المحامين الدوليين ، وبالاستعانة بعدة مؤسسات قانونية وحقوقية دولية ، والتي أثمرت عن صدور مذكرات توقيف واعتقال بحق مجموعة من القيادات والجنرالات الإسرائيلية ، مما حرمها من السفر لزيارة بعض الدول الأوروبية خشية من خطر الاعتقال بسبب القضايا التي رفعها المركز الفلسطيني  .

وعلى الرغم من أنني لست حقوقيا ولم أدرس القانون من قبل ولست مطلعا على تفاصيل مجمل عمل المركز الفلسطيني ونشاطاته وانجازاته على المستويات المختلفة لا سيما الدولية ، إلا أنني أرى من الأهمية بمكان التذكير بالقرار الذي اتخذه قاضي التحقيق المركزي في المحكمة الوطنية الأسبانية بتاريخ 29 يناير 2009 والذي شكل نقطة انطلاق لإجراء تحقيق قضائي في جرائم اقترفت في حي الدرج بغزة عام 2002 ويستهدف التحقيق سبعة مسؤولين اسرائيليين هم : بنيامين بن اليعيزر وزير الدفاع السابق ، دان حالوتس قائد سلاح الجو الإسرائيلي عندما ارتكبت الجريمة ، دورون ألموغ القائد السابق للجيش في قطاع غزة ، غيورا ايلان رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ، وميخائيل هرتصوغ السكرتير العسكري لوزارة الدفاع ، وموشيه يعلون رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ، وابراهام ديختر الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي ( الشين بيت ) .، وفي أكتوبر 2010 رفضت السلطات الأسبانية منح الحصانة المطلوبة لآفي ديختر قبل زيارته التي كانت مفترضة لأسبانيا باعتباره احد اطراف الجريمة ومطلوب للتحقيق معه  .

كما ولا بد من الإشارة الى ان اللواء المتقاعد دورون ألموغ مكث بعض الوقت داخل الطائرة التي كانت تقله على ارض مطار هيثرو قبل ان يستقل رحلة عودة الى اسرائيل هروبا من تنفيذ قرار باعتقاله كان قد صدر في بريطانيا لنفس التهمة وذلك عام 2005 .

جريمة حي الدرج " شكلت نموذجا للملاحقة القضائية الدولية لمجرمي الحرب

ولا شك بأن ما باتت تُعرف بقضيةـ " جريمة حي الدرج " شكلت نموذجا للملاحقة القضائية الدولية لمجرمي الحرب من القادة الإسرائيليين ، وان عام 2003 شهد ايداع ملفين لجرائم الحرب وهما ملف تعذيب المعتقلين في سجون الإحتلال وهدم المنازل امام المدعي السويسري ، وقد اعتبرت هذه القضايا الأولى من نوعها التي تم التوجه بها للقضاء السويسري وتضمنت مقاضاة السلطات الإسرائيلية المسؤولة عن هدم المنازل في رفح وتعذيب المعتقلين في سجونها ، كما واصل المركز خلال العام نفسه عمله على متابعة ملف التحقيق في جرائم الحرب وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة بشاؤول موفاز – وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك – حيث تم التوجه للمدعي العام البريطاني ، بالإضافة إلى قضايا أخرى رفعت بعد ذلك في بريطانيا وأمريكا .

وكما يًشير المركز الفلسطيني في إصداراته بان ملاحقة مجرمي الحرب من الإسرائيليين ، هي إستراتيجية بعيدة الأمد للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ، يهدف منها محاربة ثقافة الحصانة التي تهيمن على صفوف مؤسسات اسرائيل العسكرية والسياسية والقضائية  ولملاحقة مسئولين اسرائيليين كبار في جيش الاحتلال ممن ثبت تورطهم في اقتراف جرائم حرب ضد مدنيين فلسطينيين  مع تأكيده دوماً بأن جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم .

المركز ومتابعته لملف المعتقلين في سجون الإحتلال

وما يستوقفني هنا وبحكم اختصاصي هو متابعة المركز الفلسطيني لملف تعذيب المعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي أمام القضاء الدولي ، وأنا أعلم كم هو تابع ويتابع قضايا الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي وكم هي حجم الدراسات المتميزة التي أصدرها بهذا الخصوص ، وكذلك متابعته لجثامين الشهداء المحتجزة لدى سلطات الاحتلال .

ولكن بالإضافة لما قُدم للقضاء السويسري عام 2003 ، فان المركز رفع قضية خلال العام 2005 امام القضاء البريطاني وهي قيد المتابعة حتى اللحظة .

أمر يجب التوقف عنده والإشادة به والاستفادة منه ، وبدون شك نأمل أن يستمر المركز في دعم قضايا المعتقلين ورفع قضايا في القضاء الدولي تتعلق بما يتعرض له الأسرى من جرائم وهي عديدة ، وملاحقة مجرمي الحرب من الإسرائيليين العاملين في إدارة مصلحة السجون لما اقترفوه ويقترفوه يوميا بحق المعتقلين وذويهم .

وبذات الوقت ندعو المؤسسات الحقوقية والإنسانية في فلسطين – وهي كثيرة – ان تستفيد من تجربة المركز الفلسطيني في الملاحقة القضائية على المستوى الإسرائيلي والدولي ، لمجرمي الحرب من الإسرائيليين ، واستثمار امكانياتها وعلاقاتها في ملاحقة العاملين في ادارة مصلحة السجون وممن يصدرون لهم الأوامر والقرارات ...

    فدعم الأسرى قانونيا يجب أن لا يقتصر على الخدمات القانونية في المتابعة والمرافعة وزيارات المحامين ، بل يجب أن يشمل التوثيق العلمي المنهجي والملاحقة أمام القضاء الإسرائيلي والدولي ، والذي من شأنه أن يؤثر على الرأي العام الدولي ويحد من الانتهاكات والجرائم التي تُقترف بحق الأسرى وذويهم .

وهنا لا بد من الإشادة بالخدمات القانونية والدور المتصاعد لوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية على هذا الصعيد وكذلك إعداد الملفات القضائية وسعيها للوصول إلى المحاكم الدولية ، وهذا يقودنا أيضا لأن نسجل احترامنا وتقديرنا لكافة المؤسسات الحقوقية والإنسانية التي قدمت وتقدم خدمات قانونية مختلفة للأسرى في سجون الاحتلال وإثارة قضاياهم على المستوى الدولي .

وفي الختام لا بد من الأهمية بمكان التأكيد على أن ملفات قضية الأسرى كثيرة ومتعددة ، ملفات ثقيلة ولا يمكن لجهة بمفردها ان تحملها ، مما يستدعي تقاسم الأدوار على قاعدة التنسيق والتعاون والاستفادة من تجارب الآخرين في إطار عمل متكامل يعتمد على التراكم والتكامل بمشاركة الجميع ، وان جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم.

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير