مركب الحريات وسارية النظام والأمن العام- بقلم:آصف قزموز

11.07.2012 10:55 AM
لم يكن الإعلاميون والإعلام الفلسطيني عامة، منزهين أو معزولين عن السياق العام لما يجري من حراك وتفاعلات في جُلّ فلسطين وفلسطينيتنا عامة. فهم جزء أصيل من النسيج الكلي للكينونة الفلسطينية الشاملة بكل المعاني والدلالات، وهو كُنْهُ الأمر الذي شَفَع وبَرر أصلاً إطلاق تسمية السلطة الرابعة على هذه الشُّرْفةِ الهامة والخطيرة والحساسة من المجتمع. لا بل إنها نسيج اللسان الناطق باسم الشعوب والسلطات والمؤسسات التي تمثلها وتنتمي إليها. لكن ثمة مبالغة ونظرة حالمة مثالية تنطلق من هنا وهناك بين الفَينة والفَينَة، في رؤية وتوصيف وتسكين الإعلام والإعلاميين، داخل أُطُر الديمقراطية ونطاق الحريات العامة، كأن تصنف الإعلامي والصحافي أو حتى مطلق مواطن فلسطيني وتضعه بين فَكّي الحياد التام أو الانحياز الزؤام، ذلك لأن كل إنسان عاقل بالغ لا يمكن الاّ وأن ينتمي ولو بداخلهِ المُضْمَر، لفكرة ما أو موقف ونظرة ما للحياة، وإذا لم يكن كذلك فلن يصلح أبداً لممارسة مثل هذه المهنة وخوض غمارها على نحو مبدع وخلاق في السياق الوطني الحُرّ. تماماً مثلما هو الأمر في نظرة البعض وفهمهم لحق ممارسة الحرية والديمقراطية على نحو مثالي مطلق أصَم، دون أي اعتبار أو التزام مسؤول تجاه ضرورات واشتراطات الظرف والمناخ الحاوي والمحيط كذلك. وهو ما يتنافى من وجهة نظري، مع واجبات المواطن في احترام النظام والحرص على حريته، ولكن في إطار الحفاظ أولاً على المصلحة الأعم والأشمل للمجتمع، النابعة أصلاً من الحس الوطني للمرء ومن عمق الانتماء للفكرة التي يهواها، ولكن دون المساس بسيادة وأفضلية المصلحة الوطنية والنظام والقانون الذي يحميها ويحميه في آن معاً، ويحفظ سلامة المركب الحامل للكل الوطني الفلسطيني المتهادي بالمفهوم الأشمل والأوسع حتى من سفينة نوح.
ولعل في النظرة القاصرة وأحادية الجانب المجافية لآنف هذا القول بجوهره الوطني البحت من جانب بعضنا، هو ما دفع الأمور وأوصلها للصورة المؤسفة في الاحتكاك الذي حصل في رام الله بين المتظاهرين وبعض الإعلاميين والشرطة. وبالطبع لا يمكن لأي وطني حُرّ غيور في أي مستوىً كان، أن يقبل بالذي حدث من اعتداءات وانتهاكات سواء على حق المواطن المكفول في التظاهر وحرية التعبير عن الرأي، أم على سلامة القانون والنظام الحامي لهذه الحرية والديمقراطية للمواطن ذاته كائناً من كان، خصوصاً وأنه قيل إن المتظاهرين كانو قد حصلوا وبناءً على طلبهم على تصريح للتظاهر والاعتصام على دواَّر المنارة وليس المقاطعة ومكتب الرئيس، ناهيك عن زوال الأسباب التي تقدموا بها للحصول على تصريح للتظاهر، وهي زيارة موفاز التي ألغِيَت مسبقاً. مع قناعتي التامة بأن مصلحتنا الفلسطينية البَحتَه، تتطلّب أن لا يرفض الرئيس من موقعه ودورهِ ومكانته، الاستماع لأي مبعوث أو موفد رسولي بشأن القضية الفلسطينية من أي جهة وأي طرفٍ كان، وفي كل الأحوال والآجال. من هنا، وفي ذات الفهم وهذا السياق والحس العالي بالمسؤولية، شكّل الرئيس محمود عباس أبو مازن لجنة تحقيق مستقلة، للتحقيق في الأحداث المؤسفة المذكورة.
يخطئ من يعتقد، بأن الديمقراطية وحرية التعبير في إطار المجتمعات المنظمة وذات المؤسسات المقوننة وفي مثل ظروفنا الاستثنائية والمعقدة على وجه الخصوص، تأتي بقرار مجرد أصم، دون النظر لأهمية الظروف والمناخات الناضجة والملائمة لممارسة ذلك وتطبيقه، ودون الإضرار بقواعد المحافظة على مصلحة البلاد وحماية وحدتها وحفظ الأمن والنظام والقانون فيها، وذلك في إطار جدلية علاقة المصلحة المتبادلة ما بين الفرد والجماعة والقانون الناظم للمجتمع ككل، ودون إتاحة الفرص للخصوم والمتربصين من داخل معسكر الأعداء وخارجه، لاستغلال هكذا مناخات يدرك مخاطرها وتعقيداتها القاصي والداني على البارد والحامي، والصحافي والإعلامي والمثقف وصاحب الفكر والرأي الحزبي قبل غيره، حتى لو كان هذا الأمر ديناً مستحقاً لواجبٍ متبادل المسؤولية ولكن في ظروف غير مواتية تتعمّد فرضها وتتحكّم بها دولة الاحتلال الغازية، يصبح باطلاً. فمسؤولية الحفاظ على النظام وسيادة القانون، وفي الظروف العصيبة بالذات هي مسؤوليتنا جميعاً، ولكن تحت المظلة الوطنية الشرعية الموحدة وإن تباينت الرؤى مع بعضنا، قبل أن تكون مسؤولية محصورة فقط بالشرطة والأجهزة الأمنية، الحامية لطرفي المعادلة الجامعة بين الشعب والسلطة في إطار الكل الوطني والمجتمعي.
ولعمري إن ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم من مأساة سياسية واقتصادية تعم الوضع الفلسطيني برمته، منذ انفصال غزة عبر انشقاق "حماس" المستفيد الأول من الديمقراطية وحرية التعبير العابرة للسلطة والسلطات، ربما يعود وبالدرجة الأولى، إلى أخذ السلطة الوطنية الفلسطينية والقيادة السياسية، موضوع الديمقراطية وحرية التعبير على محمل الجد المطلق والمثالي مع كامل الإضافات، وعدم التفاتها بالجدية الكافية، إلى أهمية الجاهزية والنضج في بلورة الظروف والمناخات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، على نحوٍ يوازي القدرة على تحمّل تبعات وارتدادات وضرورات هكذا مساحة واسعة من الديمقراطية، كتجربة أولى في مجتمعٍ بِكْر ومنقوص السيادات المُقَرِّرَة، ناهيك عما رافق ذلك من غياب تام للنوايا الحسنة والمصداقية بحسن الالتزام لدى المستفيد الأول في موضوع الانتخابات الماضية مثلاً.
من هنا أستطيع القول إنه، وفي ظل حالة المخاض واللااستقرارفي عموم الوطن العربي وتراجع النظام العربي الرسمي المتردي، أمام حالة الاستغوال الإسرائيلي المستقوي. فإن الوضع الفلسطيني عموماً، هو في أسوأ وأصعب حالاته وأكثرها خطورة وحساسية، لا تحتمل الخطأ والمراهقة السياسية ولا العبث من قبل أي كان من العِشَّة أو القَصْر. وبالتالي فإنني اعتقد وبإيمانٍ مطلق بحق كل مواطن في الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، دون مساس ولا انتقاص أو تمييز، ولكن كل ذلك تحت حماية مظلة الالتزام بالنظام والقانون الناظم والمنظم لها، أي أن التحصل على هذه الحقوق المضمونة والمكفولة، يجب أن لا يكون مبتوراً من جانب واحد، ويقابله بذات الحجم والقدر والمستوى قدر من الالتزام المقابل، بواجبات احترام النظام العام، وعدم الاستعداء على هيبة القانون وأدواته ومكوناته باسم حرية الرأي والتعبير. آخذين في الاعتبار كذلك، أهمية التفريق ما بين النقد والاختلاف البناء، وعمليات القدح والذم والتشهير، الذي يخرج هذه الديمقراطية وتلك الحرية عن سِكَّتها ومسارها الصحيح. إذ ليس مقبولاً ولا مسموحاً به، أن يجري التشهير والشتم الجارح وغير اللائق لشخص الرئيس أو لأي شخص كان، وأن يتعدى أي مواطن على شرطي يقوم بواجبه ويشتمه بعبارات نابية ومقذعة، تحت شعار الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي، حتى ولا في أعتى وأعرق الديمقراطيات في العالم. فهي معادلة احترام والتزام متبادل أولاً وقبل كل شيء، ما بين المواطن وواجباته، والتزامه الوطني تجاه الدولة الذي يحمل حقوقه ويشفعها. وخلاف ذلك، سيعيد هذا المشهد إلى الأذهان حالة الانفصام والشييزوفرينيا الإسرائيلية التي تعكسها اليوم مثلاً، من خلال سعيها لإقرار قانون إلزام المواطنين العرب داخل الخط الأخضر بالخدمة العسكرية أو المدنية، وذلك من منطلق كونهم مواطنين في الدولة، وهي كلمة حق أريد بها وباستثمارها باطل بائن بيان الشمس في يوم قائظ، لأنه يجري بذات الوقت، استمرار ممارسة التمييز العنصري الصارخ والإمعان به ضدهم في وَضَحِ النهار، من خلال تهميشهم وحرمانهم عبر حقوق المواطنة الأخرى.
من وحي كل هذا ولأجله، كان لا بد أن يكون للديمقرطية على متن قاطرة الحرية، أسنان، هي القانون الناظم والحامي لها وللمستفيد، من شرّ أعماله وحقه في الممارسة البناءة لها، وهي المُمَكِّن لها كذلك أن تعيش وتتطور باستدامةٍ وعدالة اجتماعية مناسبة. تماماً مثلما يتوجب أن يكون للحرية سياج قانوني ناظم ومنظم يضبط إيقاعها، صوناً لها وحافظاً لمسيرة ومسار الديمقراطية في رحمها. وهنا لا أتحدث عن قانون والتزام باتجاه واحد، بل باتجاهين، في ما يخص حماية المواطن وحقوقه في ممارسة الحرية والديمقراطية من جهة، وحماية الأمن والنظام وسيادة القانون بكامل عتادِه من جهة أخرى، لأن القانون أصلاً ينظم وينص على عقوبات واضحة بحق المنتَهِك، مهما كانت صفته وموقعه في المعادلة الجامعة بين الطرفين. فالعقد الاجتماعي في فلسطين، يمكن أن ينظم حقوقاً وواجبات، عبر أثير الديمقراطيات على جناح الحريات، وروح الاتفاق ومكارم لعبة الأخلاق العاليات، الاَّ الأمن والمال ففيصلُهُما النصوصُ والقانون ممهوراً على الأوراقِ الساريات مُسلحاً بِالبَيِّنات.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير