درويش "في حضرة الغياب"..بقلم: د.حسن عبد الله

07.08.2011 11:58 AM

ان يبادر فنانون عرب لتسليط الضوء على تجربة انسانية وابداعية بحجم تجربة محمود درويش، فذلك يمكن قراءته وفق منظور ايجابي، حيث ان مجرد العمل في هذا المجال، يحمل توجهات يفترض ان نتعاطى معها باحترام. لكن ان نتخيل نحن الفلسطينيين الذين يشكل لهم الراحل الكبير رمزية ثقافية وابداعية، ان درويش في سيرته الذاتية الحياتية كان مطلقا ومنزها وكاملا، فاننا ننتزع عنه النجاحات والاخفاقات التي تلازم الانسان في حياته، واي انسان، اكان مبدعا او سياسيا او انسانا عاديا يعيش حياته بهدوء بعيدا عن الاضواء. فدرويش كان انسانا من دم ولحم واعصاب، يحب ويكره، يمرض ويشفى، يصيب في مواقفه السياسية ويخطىء. فقد عاش تجربة حياتيه كانت حافلة بالتفاصيل والمواقف، التي ربما تعجب فلان من الناس اشد اعجاب، بينما يرى فيها آخر انها خارجة على المألوف فلا تعجبه.

لذلك فمن الطبيعي لدى عرض مسلسل يتناول سيره ذاتية لمبدع او سياسي، ان يصطدم المعجب بهذه الشخصية بمواقف من شأنها ان تخدش الصورة الذهنية والعاطفية المثالية التي كان كونّها عن الشخصية المذكورة، لانه رفعها الى أعلى المراتب.

وبناءً عليه، فانني اتفهم تطلع الفلسطينيين الى عمل فني رفيع يتناسب مع القيمة الابداعية لدرويش، بيد اننا لا نستطيع ان نحكم بشكل نهائي على مسلسل  " في حضرة الغياب " ، لاننا لم نشاهد سوى بضع حلقات، من عمل اخرجه نجدت انزور، وهو فنان كبير، له باع طويل في الدراما.

وحتى لو اخفق هذا العمل فنياً في طرح تجربة درويش الابداعية والانسانية، بالشكل والمضمون الذي نطمح ونريد. فلماذا لانتعامل مع الأمر بالاستناد الى قواعد فنية نقدية، بعيدا عن الاساءه الشخصية للمبادرين وتجريحهم وقذفهم باقذع كلمات ونعوت السب والاساءةَ!!! لماذا لا يبادر في المقابل فنانون ومستثمرون فلسطينون  للرد فنياً وابداعياً على هذا العمل، من خلال تقديم مسلسل أكثر زخما ودقة وابداعا وتأريخاً، بدل ان نجلس امام شاشات التلفزة نتذمر ونتحسر!!!.

لا ينتهي الكون، ولا تسقط السماء على الارض، اذا فشل عمل فني خصص لتأريخ ومعالجة  مراحل في حياة مبدع، فمسلسل نزار قباني، رغم الامكانات الفنية التي وظفت من اجل انجاحه، لم يحقق النجاح المطلوب.  والفنان الكبير احمد زكي الذي كان كبيرا ومبهرا في فيلم ناصر 56، لم يصب النجاح في فيلمه الاخير الذي حاول ومجموعه فنية منتقاه التأريخ لمراحل من حياة الفنان الراحل عبد الحليم حافظ.  وقبله اخفق مسلسل حول الفنان ذاته، في اقناع المشاهد بان المسلسل عبّر عن حياة عبد الحليم، بخاصة المرحلة الذهبية التي عاشها في زمن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.  واذا كانت الفنانة المصرية صابرين نجحت الى حد  كبير  في تجسيد شخصية ام كلثوم، فان فيلما حول ام كلثوم لم ينجح، رغم استقطابه لعناصر فنيه مشهود لها. فهل يعني ذلك ان باب المحاولة قد اوصد، وانه ممنوع العوده في اعمال فنية اخرى لتناول السير الذاتيه لهؤلاء المبدعيين!!!.

وانطلاقا من تجربتي الشخصية ككاتب، فقد خصصت الجزء الأكبر من كتابي "رام الله تصطاد الغيم"، للراحل محمود درويش، وقدمت نصوصا اختلط فيها الواقع بالفنتازيا.  وقرأت ردود افعال كثيرة على نصوصي ما بين اعجاب، او اشاره من بعض النقاد الى جوانب رأوا ان النصوص كان من المفروض ان تتضمنها، لكنني قلت لذاتي: اجل فقد حاولت، واصبت ما اصبت، فليحاول الاخرون، لاسيما وأن ساحة الابداع مفتوحة. وربما اكون قدمت نصا جديدا مقارنه بما كتب عن درويش. ومن المتوقع ان يقدم كتاب ومبدعون في المستقبل نصوصا تعالج جوانب لم  اتنبه لها، بمعنى ان الاكثر ابداعا عن درويش، هو الذي لم يكتب بعد، لان كل تجربة كتابية حول الموضوع نفسه، من المفروض ان تستفيد من التجارب الاخرى، تبني عليها، تغنيها وتطورها. اي اننا ننتظر في السنوات المقبله سواء على الصعيد الكتابي الابداعي او الدرامي اعمالا فنية انضج واكثر اتقانا فنيا وتأريخيا.... لم لا؟!  وتجربة درويش غنية ومثيرة، وهي ليست محدودة بسقف او جغرافيا، لانها تجربة فلسطينية وعربية وعالمية في ذات الان.

مشكلتنا في هذه المرحلة، اننا نعيش حالة، من التراجع والفقر الثقافي والفني، مقارنه بمراحل سابقة،   حيث تشغلنا اهتماماتنا الحياتية واخفاقاتنا السياسية، وصراعاتنا الداخلية التي لا مبرر لها في ظل استمرار احتلال ارضنا، اذ نكتفي بمتابعة ما ينتجه غيرنا، ولا ندلي بدلونا. اخترنا الوقوف على الرصيف الثقافي والفني، وتركنا الامور رهينة في يد السياسي، لكي يفاوض، ويتوقف، ثم يعود ليفاوض ويجرب، فيما بات الثقافي والابداعي في تجربتنا الحالية يلهث منهكا مفككا مشتتا ضعيفا خلف السياسي، يحاول الامساك باطرافه، فلا يستطيع.  يركله السياسي فيتدحرج، ثم يستجمع قواه لينهض، وعندما يتسنى له ذلك،  يظل يترنح، لانه فقد زمام المبادرة، وحتى يستعيدها، يحتاج الى اطر ومؤسسات    ومباراة  حقيقية بين المبدعين .

ان التجربة الفلسطينية غنيه بالرموز الثقافية والابداعية، لكن للاسف فان الاجيال الجديدة لا تعرف عنها الا العناوين العامه، هذا ان عرفتها. ونحن نتابع ذلك والمرارة تعتصرنا، و دون ان نبادر، ونكسر الجليد. فأين الاعمال الفنية والثقافية التي تؤرخ لروائي كبير مثل غسان كنفاني، الذي  كتب آخر اعماله الفنية بدمه واشلاء جسده؟!

وأين الاعمال الفنية التي تناولت تجربة روائي ومترجم ورسام وناقد موسوعه مثل جبرا ابراهيم جبرا؟.. وأين الاعمال التي انبرت لتعالج فنيا تجربة الشاعره الفلسطينية فدوى طوقان، او تجربة راشد حسين. ولماذا لا نؤرخ فنياً لشاعر ومناضل استشهد والقصيدة تنبض  في دمه ومخيلته وحلمه، بينما كان متشبثا ببندقيته ، مكافحا  من اجل تحرير بلاده، كما فعل عبد الرحيم محمود.

وباختصار، من حقنا ان ننقد ما يقدم من اعمال فنيه، شريطة ان يكون ذلك مستنداً الى قواعد واصول النقد، الا ان نقدنا سيظل ضعيفا هامشيا، ما دمنا لا نبادر، اي لا نفعل ونكتفي برد الفعل فقط. اننا نحب مبدعينا ونقدرهم،   نحبهم بيننا وبين انفسنا ، مع ان الانسان  الصامت لا يسمعه احد، حتى  انه لا يسمع نفسه.  واذا استمر صامتا ربما سيغرق في بحر صمته متاكلا منكسراً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير