التطرف الاسلامي: حيرة دولية! ..بقلم: ميشيل كيلو

09.08.2011 06:55 AM

 

كان العالم يعتقد أن العرب لا يملكون بديلا للاستبداد غير التطرف الإسلامي، لذلك وضع يده في يد المستبدين، ودعم بصورة خاصة الأكثر تطرفا وتشددا منهم، باعتبارهم الأكثر استعدادا للحجر على شعوبهم، وبالتالي للحفاظ على الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي. من المعلوم أن أجهزة المخابرات الغربية لعبت دورا فائق الأهمية في حماية النظم الاستبداد، التي وضعت نفسها في خدمتها وغدت أذرعا محلية لها، ورأت في مصالحها وسياساتها الأمنية استمرار سياساتها ومصالحها، وغذتها بكم كبير من المعلومات، زورت معظمه ولفقته، حول المنظمات الإرهابية والمتطرفة، بعد أن بالغت في قوتها، وفبركت معارك ضدها داخل بلدانها، وحولت خلوات عشق وغرام بين شبان يحتسون الخمر وفتيات شبه عاريات في مكان عام إلى معركة ضد 'تنظيم جند الله'، تم تسويقها في الغرب باعتبارها دليلا دامغا على جدية المستبدين في مكافحة الإرهاب ومقاومته.

بعد ثورتي تونس ومصر، تغيرت النظرة الغربية، فقد قدم شعبا هذين البلدين المسلمين أدلة ميدانية تؤكد أن بديل السلطة القائمة ليس إسلاميا بالضرورة، وأن الحرية والديمقراطية والدولة المدنية هي هدف لعرب وقصدهم، وأن الشعب لا يموت كي يستبدل استبدادا علمانيا بآخر ديني أو مذهبي، أشد انغلاقا وضيق أفق منه، وأن المستقبل سيكون للنظم التي تقوم على قيم معنوية وحوامل مجتمعية تشبه ما في الغرب من حكومات، وأن هذا هو، في الختام، خيار العرب، الذين تعلموا درس الاستبداد الطويل، بعد أن كاد يزهق أرواحهم ويقضي عليهم، عندما جعل هدفه إركاعهم ماديا وروحيا، وإزاحتهم جانبا ودفعهم إلى خارج التاريخ، والاستئثار بثرواتهم وأوطانهم، ومعاملتهم بطرق همجية تجافي أية أسس إنسانية أو أخلاقية.

ليس بعيدا عن ذاكرتنا تلك الحماسة التي أبداها قادة دوليون كبار تجاه ما أسموه ' الربيع العربي '. ولم يخرج من وعينا بعد ذلك التثمين الذي قدمه رئيس أمريكا الحالي، وقال فيه إن ما جرى في مصر سيلهم البشرية، لأنه يعد نموذجا للمدنية التي أبداها شعب ثائر، مظلوم ومضطهد، عرف كيف ينظم ثورة سلمية ويحافظ عليها رغم القمع ومحاولات شتى أنواع البلطجية الانقضاض عليه.

وبالفعل، صارت الثورة العربية مثالا يقلد، حتى أننا رأينا جماهير إسبانية وهي تخرج في مدريد مطالبة بحقوقها الاجتماعية، بعد أن غيرت اسم الميدان الذي نصبت خيامها واعتصمت فيه إلى ' ميدان التحرير'، تيمنا باسم ميدان القاهرة الشهير، الذي صار رمزا للحرية وساحة يقصدها للزيارة أحرار العالم بأسره، بينما رفعت نقابات عمال أمريكية في واحد من إضراباتها شعارا يقول: 'تظاهر كما يتظاهر المصري'!

بعد الاطمئنان يأتي القلق، فقد بقي الشباب الثائر موزعا على تنظيمات كثيرة وفشل في توحيد نفسه، مع أن خطابه في الميدان كان موحدا، وأهدافه كانت واحدة، وطريقته في الاحتجاج متماثلة أو متطابقة. ومع أن كثيرين من العرب لفتوا أنظار هؤلاء الشبان إلى خطورة النتائج المباشرة التي ستترتب على فرقتهم وخلافاتهم، فإنهم واصلوا نهج الشقاق والاختلاف الكلامي، الذي رتبوا عليه خلافات فعلية، متجاهلين ما يتربص بهم من أخطار، وما قد ينجم عن خلافاتهم، التي لا بد من تأجيلها، من تقدم يحققه خصومهم، الموحدون وأصحاب الخبرة في الساحة السياسية، وفي العمل السري والعلني، والذين يملكون مراكز حزبية يحتشد الخلق فيها مرات متعددة يوميا.

كما تجاهلوا واقعة أن الانتقال إلى الديمقراطية ليس أمرا سهلا أو ميسورا في مجتمع يحفل بمشكلات قد تكفي لقيام بناته وأبنائه بثورة، لا يعني نجاحها إطلاقا حتمية أو سهولة بناء مجتمع جديد سياسيا واجتماعيا، تختلف الأسس التي ينهض عليها اختلافا جذريا عن الأسس الضرورية لإسقاط نظام قائم من خلال ثورة. أخيرا، تجاهل هؤلاء أن ما بعد الثورة يكون دوما أكثر صعوبة مما كان قبلها أو خلالها، بشهادة واحد من أعظم عباقرة الثورات في التاريخ: فلاديمير أيليتش لينين، منظم وقائد ثورة أكتوبر الروسية العملاقة، الذي أثبت أن مرحلتي الثورة والحقبة التالية لها تخضعان لأسس ومعايير مختلفة، وأن من ينجح في تنظيم ثورة قد يفشل بعد نجاحها بسبب عجزه عن الخروج من أجواء ومبادئ ومعايير مرحلتها الأولى، وعن اكتشاف مبادىء وأسس المرحلة التالية لها، والتفاعل معها وتطبيقها بصورة خلاقة ومبدعة.

المهم : تقدم من عرفوا كيف يأتون متأخرين إلى ميدان التحرير، وكيف يخرجون موحدين منه، ويتفقون مع المؤسسة العسكرية ويوحون لها بالثقة، ويتحولون بسرعة إلى حزب سياسي أعطوه اسما حديثا وجذابا، بعد أن وضعوا جميعهم ربطات عنق، وارتدوا ملابس عصرية بل وحلق بعضهم ذقنه أو شذبها، وأوحوا للعسكر بأنهم حلفاؤهم ضد السلفية، التي بدأت تأخذ دورهم السابق كجهة تهدد المجتمع بأسلمة قد تخرجه من العصر، وتكشر عن أنيابها تعبيرا عن إحساسها بالقوة.

عرف 'الإخوان المسلمون ' كيف يدفعون حمقى السلفية إلى ارتكاب حماقات يومية، وأمنوا جانب الجيش وعملوا على التحالف معه حتى ضد الشباب الثائر، بينما مدوا يد الحوار إلى العالم الخارجي، وخاصة منه أميركا، العدو اللدود، الذي كان إلى الأمس القريب جهة يجب طردها من مصر، وصار اليوم جهة لا بأس بطمأنتها وربما عقد صفقة طويلة الأمد معها، تتجاوز مصر إلى العالم العربي كله.

أمام تفتت اليسار والتيارين القومي والليبرالي، وتراجع جماهيرية هؤلاء، وتقدم قوى إسلامية يثبت نشاطها إلى حد ما صحة ما كان يقال حول التطرف الإسلامي بوصفه بديل الاستبداد، يبدو الغرب حائرا كمن وقع في فخ، فلا هو قادر على التنصل من اتفاق مع الإسلاميين المصريين، وربما التونسيين، إن عرض عليه، ولا هو قادر على فرض شروطه عليه، ولا هو قادر على تكرار ما فعله في الجزائر، عندما انتصرت جبهة الإنقاذ في الانتخابات التشريعية، ولا هو قادر على إحداث تحول يعيد الأمر إلى الاستبداد، الذي اثبت انه اشد هشاشة مما كان الغرب يعتقد، وأقل حصانة مما كان المستبدون يزعمون، ولا هو قادر أخيرا على كسب اليسار والقوميين.

هل من الصواب أن تستنتج أنه لا يبقى في حالة كهذه غير الجيش والمتحالفين معه؟ وأن تفاهمه مع الإسلاميين المعتدلين يحول هؤلاء إلى شركاء تاريخيين محتملين له، لا بد من البحث عنهم، الآن وفي كل مكان من العالم العربي والإسلامي.

وما الذي يجب أن يستنتجه الشباب وقواه وأحزابه الليبرالية في حال تحققت هذا الخيار البديل؟

هذه أسئلة تطرح نفسها على المراقب فلا يجد جوابا لها، خاصة إن كان يراقب من بعيد. وهي تخلص جميعها إلى طرح السؤال الجوهري التالي : هل يجد الغرب نفسه، في نهاية المطاف، أمام إكراه يرغمه على قبول الاستبداد إن قبلت نظمه بإصلاح نفسها إلى حد يجعلها مقبولة من جديد لديه، بعد أن أثبتت رغبتها في الدفاع المستميت عن مواقعها، واستخدمت قدرا من القوة يتحدى قدرة أي ضغط سياسي دولي عليها، وأعلنت أنها تخوض معاركها باسم مكافحة الإرهاب والسلفية: هدف الغرب، الذي يكتشف الآن أن ثورة العرب الديموقراطية لم تحصنهم بعد ضد إسلامييهم، وربما تكون قد حققت، في بلدان معينة، العكس : وضعت هؤلاء الإسلاميين على مقربة من كراسي السلطة!.

أي اتجاه سيسلك الغرب؟. أعتقد أنه لم يقرر ذلك بعد، وأنه لن يقرر خياراته قبل أن يخرج من حيرته الراهنة، التي قد تدوم لفترة غير قصيرة!

القدس العربي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير