في غياب البوصلة...بقلم: خيري منصور

09.08.2011 12:04 PM

البديل الذي يفرض نفسه في غياب البوصلة هو الفوضى، وتحويل القضايا كلها إلى مسألة نسبية بحيث يعمّ ما كان يسمى عند اليونان القدماء السوفسطائية، والتي تتلخص في عبارة واحدة هي أن الفرد مقياس كل شيء، الخير والشر، والجمال والقبح، والصواب والخطأ .

والبوصلة ليست سياسية أو جغرافية فقط، إنها أخلاقية بامتياز ما دامت تحدد المسموح به والمحظور، تبعاً للمصلحة العامة للناس وليس استجابة لمصالح فرد بعينه .

وهناك عدة مفردات تستخدم في هذه الأيام ضمن سياقات مختلفة، كالرؤية والنهج والأسلوب، وهي كلها مجرد تنويعات على مفهوم البوصلة .

وفي حالة غياب ما يمكن الاحتكام إليه يصبح التجريب وما يسميه علماء النفس والتربية طريقة المحاولة والخطأ ثقافة عامة ومبثوثة في كل تفاصيل الواقع ونسيج المجتمع، ولم يكن مصطلح خريطة الطريق الذي طالما استخدم في غير مكانه وسياقه سوى التعبير المجازي عن تأطير وتحديد ما هو عام ومجرد وأقرب إلى المطلق الذي يقبل تأويلات لا حصر لها .

في الإصلاح لا يمكن ترجمة الشعارات إلى واقع مختلف من دون بوصلة تحدد المسار الذي يختصر الوقت والجهد، فالمسألة ليست رهينة النوايا إذ غالباً ما يكون الجحيم كما يقال معبداً بالنوايا الطيبة والدببة التي قتلت أصحابها وشجت رؤوسهم كانت تلبي نوايا دفاعية عن هؤلاء لكن بأسلوب خاطئ دفع الناس إلى المفاضلة بين الصديق الجاهل والعدو العاقل لمصلحة هذا العدو لأنه يعرف متى يهاجم ومتى يدافع عن نفسه وبأساليب قابلة للتعامل معها .

وما نسمعه على مدار الساعة عبر فضائيات وأرضيات ووسائل إعلام عن غياب الرؤى يثير فينا المخاوف على حراك غير مجاني، وضرائبه اليومية هي من الدم والبنى التحتية والاستقرار، كيف نبدأ ومن أين إذا كانت الرؤى غائبة أو البوصلات معطوبة؟ قد نبذل جهداً هائلاً لنكتشف أنه يتبدد بلا طائل أو لتفسير الماء بالماء .

والرؤى لا تباع ولا تشترى كما أنها لا تستعار أو تستأجر، لأن لكل حراك إنساني ظروفه وبيئته النفسية والاجتماعية والاقتصادية، لهذا لا بد لكل حراك فاعل وذي مغزى أن يجترح بوصلته ورؤاه أيضاً من صلبه ومن صميم خصائصه، ولأن النسخ والتكرار أدى إلى إخفاق في العديد من التجارب الوطنية، فإن وصفة الاستنساخ قد سقطت منذ زمن، ومن يحاول تمديد صلاحيتها بالقوة سيدفع ثمن كسله واقتفائه خطى الآخرين على طريق ليس هو طريقه .

والرؤى لا تصنعها نخب متخصصة، لأنها ليست إفرازاً فردياً، بقدر ما هي حصاد مجهود جماعي، ومن لا يعرف مدى صلاحية حلمه للترجمة إلى واقع سيجد نفسه أسير وَهْم مُزمن لا يرجى الشفاء منه .

وقد يكون من الطبيعي أو المنطقي أن تنفجر القطفات الأولى من الغضب بشكل عفوي، لكن استمرار هذه العفوية قد يؤدي إلى نتائج مضادة، لأن حاصل جمع ردود الأفعال لا يساوي فعلاً مبادراً واحداً، ومن يبقون في نطاق رد الفعل لابد أن يكتشفوا وإن بعد فوات الأوان أنهم كانوا مُسيرين رغماً عنهم، وأن الآخر الذي يحاولون التمرد عليه كان يحدد لهم الجهة التي يتحركون نحوها .

في غياب البوصلة قد تضيع دماء وتتعاظم خسائر بلا جدوى .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير