"في حضرة الغياب" ومجدولين حسونة والمثقّف العربي .. بقلم: هاني المصري

09.08.2011 01:09 PM

غداةَ تأسيس السلطة الفلسطينية، صدر قرار من مجهول – إرضاءً للرئيس الراحل ياسر عرفات- بمصادرة ومنع توزيع كتاب الراحل إدوارد سعيد الذي تناول فيه اتفاق أوسلو، وتعرض لعرفات بالنقد اللاذع.

لم يكن في أراضي السلطة عند صدور القرار سوى نسخ قليلة من الكتاب، لكنّ قرار المنع أدى إلى تهافت الكثيرين على شرائه والحصول عليه من عمان والقدس ومن كل مكان يمكن الحصول عليه. وساهمتُ أنا وآخرين، حيث كنت حينها موظفًا في وزارة الإعلام، بإلغاء قرار المنع.

تذكرت هذه الحادثة أثناء متابعتي للحملات المتبادلة بين من يريد منع بث مسلسل "في حضرة الغياب" الذي يروي سيرة الشاعر الراحل محمود درويش، لأنه- حسب رأيه- ذو طابع تجاري يسيئ إلى صورة العظيم درويش، ولأن حرية الإبداع لا تعني الإساءة وتشويه الحقائق وتزييف الوعي، مستغربًا تورط تلفزيون فلسطين والفنان مارسيل خليفة والكاتب حسن يوسف والمخرج نجدت أنزور في هذا العمل السطحي المزيف، وبين من اعتبر المطالبة بوقف بث المسلسل تجسيدًا لعقلية المنع والإقصاء وتشبهًا بالديكتاتوريات؛ فالمنع لا يسهم إلا في زيادة الإقبال عليه (فالممنوع مرغوب). معتبرًا أن المطالب بوقف المسلسل لا يثق بذائقة الناس وقدرتهم على التمييز بين الغث والسمين، كما لا يحترم درويش كما يدعي، بل يمارس الاستبداد الثقافي في فلسطين، ومحاولة احتكار إرث الشاعر العظيم الذي تجاوز حدود فلسطين، وفرض الوصاية على ما يراه الناس.

ورغم وجاهة الملاحظات التي أبديت على المسلسل مثل "التلفيق" الوارد في الحلقات الأولى حسبما أشار أصدقاء درويش المقربين، و"السرعة الشديدة" في إنتاجه، حيث لم يمض وقت طويل على رحيل درويش يتيح فرصة للتأمل والبحث وإخراج عمل جيد، واختيار ممثل مثل فراس إبراهيم لا يناسب القيام بدور درويش لأسباب تتعلق بشكله غير الملائم لشخصية درويش ومستوى أدائه وتمثيله، وعدم الرجوع بشكل لائق إلى أصدقائه وعائلته ومؤسسة محمود درويش المعنية بإحياء تراثه وتخليده، إلا أن الحل لا يكون بوقف بثه، وإنما بالمطالبة بمقاطعته بحيث يكون قرارًا شخصيًا لكل فرد، وبتشكيل لجنة تحقيق ذات صلاحيات للتحقيق في كيفية اتخاذ قرار ببث مسلسل رديء. فهناك فرق بين المطالبة بمنع بثه والمطالبة بالمحاسبة على شرائه لبثه، خصوصًا أن الرئيس الأعلى لهيئة الإذاعة والتلفزيون هو في ذات الوقت عضوًا نافذًا في مؤسسة محمود درويش، وأحد أصدقاء درويش المقربين.

هل صحيح أن الرئيس محمود عباس هو من اتخذ القرار ببث المسلسل؟ إذا كانت الإجابة نعم، فما علاقة الرئيس ببث المسلسلات؟ ألا يفترض وجود لجنة تحكيم ثقافية فنية قانونية مخولّة بالاطلاع على الأعمال الفنية قبل اتخاذ قرار ببثها، استنادًا إلى معايير فنية ووطنية معلَنة ومُتعَارَف عليها؟

وهل صحيح أن المسلسل عرض على أعضاء من مؤسسة محمود درويش وغيرهم، كما قال أحمد (شقيق درويش) والممثل فراس إبراهيم، ولم يتحرك أحد جديًا لمنع المسلسل؟ أليس من واجب المؤسسسة التحرّك لمعرفة ما يدور حول إنتاج مسلسل درويش والتأثير عليه، حتى لو لم يعرض عليها بشكل رسمي؟ وهل تحركت المؤسسة بالمستوى الذي تفرضه خطورة عرض مسلسل "يسيئ لدرويش إساءة بالغة" على حد قول المؤسسة؟

كما لا يستطيع الممثل فراس إبراهيم رفض إدانة مسلسله؛ لأن مؤسسة محمود درويش لم تفعل شيئًا منذ تأسيسها سوى إدانة المسلسل، أو لأن على من يدينونه الالتفات للاحتلال والاستيطان والعدوان والحصار الإسرائيلي، فكأن هناك تناقضًا بين النضال ضد الاحتلال ومن أجل تحقيق الحرية والعودة والاستقلال وبين الدفاع عن الديمقراطية وكل فن جميل وراق يغذي الذائقة الإنسانية ويرفض كل من يسيئ إليها.

وتكمن الخطورة بمطالبة مثقفين، يفترض أنهم حراس الحرية والتعددية والتنوع والديمقراطية، بمنع عمل ثقافي سواء لعدم اتفاقه مع رؤيتهم، أو لأنه هابط، فالتساهل مع أي منع سيشكل سابقة قابلة للتكرار مع كل عمل لا يناسبهم أو لا يناسب غيرهم.

وليس مقبولا أيضًا محاكمة المسلسل فنيًا بشكل موضوعي متكامل قبل اكتمال عرضه، أو لأن بعض ممثليه كالممثل الرئيسي يقف في صف النظام السوري ضد الثورة السورية التي تعبر عن تطلعات الشعب السوري المشروعة. فيمكن المطالبة بمقاطعة المسلسل أو الممثلين المناوئين للثورة كما يحدث في مصر حاليًا، حيث برزت حملات مقاطعة ضد فنانين وقفوا وما زالوا يقفون مع نظام حسني مبارك حتى بعد تنحيته عن السلطة.

إن تجربة عشر سنوات في وزارة الإعلام والإدارة العامة المعنية بالمؤسسات الإعلامية، علمتني أن ما يمكن منعه فقط هو الشيء الذي يجسد خيانة وطنية مكشوفة لا تقبل الجدال، أو العمل المرفوض كليًا من الإجماع الوطني لا من الأغلبية أو من قطاع من المثقفين أو غيرهم مهما بلغ كبره.

بما أن الشيء بالشيء يذكر، اطلعت، وأنا أتابع الردود على بث المسلسل "في حضرة الغياب"، على تقرير الهيئة الفلسطينية لحقوق الإنسان، الذي يسجل الانتهاكات التي تعرض لها الإنسان الفلسطيني على يد الاحتلال، وهذا طبيعي رغم أنه مرفوض، وعلى يد السلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث أشار التقرير بالدلائل إلى استمرار الاعتقال السياسي والتعذيب، وإعدام بعض المعتقلين خلافًا للقانون، أي دون مصادقة الرئيس، وعدم تنفيذ قرارات محكمة العدل العليا.. إلخ.

استوقفني التقرير للتفكير بتقصير المثقفين والإعلاميين والقانونيين والأكاديميين ورجال السياسة والدين ومؤسسات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات في التحرك الفاعل ضد كل أشكال الانتهاكات، حيث نكتفي بإدانة واستنكار المساس بالحقوق والحريات العامة، ونمضي في حياتنا وكأن شيئًا لم يكن.

فالمثقف الفلسطيني لا يمكن أن يكون ديمقراطيًا وصاحب موقف وذائقة فنية فيما يتعلق بمسلسل تلفزيوني، وديكتاتوريًا أو لا مباليًا أو مكتفيًا بموقف "رفع العتب" فيما يتعلق بالقمع الممارس في بلده أو السلطة الخاضع لها، إذ نلاحظ ظاهرة انتقاد حاد ومتبادل للقمع في غزة من فريق، وللقمع الممارس في الضفة من فريق آخر، أما الأصوات التي تمارس النقد إزاء كل أنواع القمع أينما مورست فهي قليلة ومتهمة بالوسطية فإما معي أو ضدي.

وهذا يذكر بظاهرة الانفصام التي انتشرت مؤخرًا بين الكثيرين من المثقفين العرب الذي يبدون ثوريين وديمقراطيين جدًا حين يرتبط الأمر بالثورة السورية أو الليبية، بينما لم يحركوا ساكنًا عند اندلاع الثورة المصرية، بل إن البعض ما زال يتباكى على نظام مبارك السابق.

والأنكى والأمر أن هؤلاء المثقفين الديمقراطيين جدا يتجاهلون ما يجري في بلادهم، خصوصًا البلدان التي تضم كل أشكال الفساد والتبعية ولم تعرف أيًا من أشكال الحرية والديمقراطية، لدرجة أن المرأة في بعضها لا تستطيع قيادة السيارة، ومحرومة تقريبًا من كل شيء، ولا ينبسون ببنت شفة حول ذلك.

في الختام، أتطرّق إلى ما حدث مع الصحفية مجدولين حسونة، التي لا أعرفها لكنني علمت بتعرضها للملاحقة من جهاز الأمن الوقائي في نابلس على خلفية تغطيتها ظاهرة الاعتقال السياسي والمظاهرات التي نظمت للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.

 

وقد قام جهاز الأمن الوقائي باستدعائها عبر الاتصال التلفوني ولم تلبّ الاستدعاء، ليتم استدعاؤها مرة أخرى بكتاب، وحين رفضت ذلك، وتم إعتقال شقيقيها للضغط عليها، واكتفت نقابة الصحافيين بالإدانة والشجب والاتصال بأحد ضباط الجهاز الأمني للاستفسار والاحتجاج.

لا يمكن التمتع بالحرية حقًا إذا كانت فلسطين تحت الاحتلال، وإذا كان العديد منّا في الضفة الغربية وقطاع غزة يُعتقلون أو يُمنعون من السفر، او يُفصَلون من وظائفهم أو لا يُعينوا لأسباب سياسية من قبل السلطتين الواقعتين تحت الاحتلال . ومن يعتقد أن هذا أمر صغير أو ناتج عن الانقسام فقط سيندم لاحقًا حين يعلم أنه " أُكِلَ عندما أُكِلَ من سِبقه"!!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير