ثورة أم احتجاجات بالتقسيط المريح...بقلم: سهيل كيوان

11.08.2011 10:45 AM

فاضت وساخة الحكام، ولم يعد أمام 'خير أمة أخرجت للناس' بشعوبها المسحوقة المهانة والمنكوبة سوى صفع هؤلاء الزعران على وجوههم الكالحة واقتلاعهم مهما كان الثمن باهظاً بالدم والأرواح التواقة للحرية.

حدث ويحدث هذا و'شعب الله المختار' يراقب بدهشة وانفعال، لدرجة أنه قرر في الأسابيع الأخيرة أن يقلد العرب وأن يثوّر نفسه، حتى أنه أخذ من العرب هتافهم وشعاراتهم 'الشعب يريد....'و'هنا التحرير...في تل أبيب' وكتب بعضهم حتى بأحرف عربية 'إرحل...' فهل يمكن لشعب 'مختار' أن يتأثر بشعوب بدت حتى قبل أشهر قليلة كسيحة عاجزة لا رأي لها ولا قرار حتى بتعبير أبنائها عن مواهبهم في التمثيل والغناء وكرة القدم إلا بتوجيه من الزعران!

المراقب الذي تابع المقالات وتعقيبات القراء في المواقع الإسرائيلية على أخبار الثورات العربية لاحظ مدى المفاجأة وحتى الصدمة مما يحدث خصوصاً في مصر مصدر الأمن والغاز الرخيص، بينما تساءل عشرات الآلاف متى سينتقل ميدان التحرير إلى تل أبيب! نريد ميدانا هنا ..متى سننزل إلى الشوارع لصد الغلاء وتآكل الأجور ومستوى المعيشة، ما هذا الجبن!

إلى جانب هذا كانت ردود عنصرية تقول 'فليقتلوا بعضهم البعض...أتمنى النجاح للطرفين'، بينما قال كثيرون نحن دولة ديمقراطية ومن يريد التغيير بإمكانه فعل ذلك في صناديق الإقتراع، وقال بعضهم 'لا يستحق العرب سوى الدكتاتورية لأنهم لا يفهمون سوى لغة القوة' وطبعا تعاطفت الأكثرية مع 'البطل، الشجاع، القائد الفذ والتاريخي، صانع مصر الحديثة، والصديق الصدوق حسني مبارك'، وأدركوا أن إعلان عمر سليمان عن تنحي رئيس الجمهورية كان بمثابة تأبين لسنوات سمان بالنسبة لإسرائيل ستتلوهن سنوات عجاف.

نصب الإسرائيليون الخيام وصاروا لاجئين في حدائق تل أبيب والقدس ونتانيا وغيرها، وأقسم كثيرون منهم أنهم لن يخرجوا من خيامهم إلا نحو شقق مخفضة الأسعار، وحمل بعض النسوة مفاتيح شققهن وأقسمن أن لا خروج من الخيام إلا باتجاه واحد هو الشقة مخفضة الثمن، وأعلن أبناء الطبقة الوسطى أنهم مستعدون للتضحية برحلة إلى تركيا أو إسبانيا أو الشرق الأقصى في سبيل إنجاح هذه القضية المقدسة، وتطوع فنانون للغناء في المخيمات ودخل فنانون الى 'القائمة السوداء' أشهرهن من أصول يمنية قالت 'أين كنتم عندما عانينا وطالبنا بالعدالة..أيها المدللون لن أتضامن معكم'، وأعلن كثيرون أنهم لن ينتظروا حتى الانتخابات للتغيير لأنهم فقدوا الثقة أصلا بمنتخبي الجمهور بغض النظر عن موقعهم من الخارطة السياسية، فالديمقراطية التي يدفع عرب هذه الأيام مهرها بدمائهم وأرواحهم، ابتذلت هنا وصارت دقة قديمة، وأوصلت إلى سدة الحكم زعرانا عرفوا كيف يوظفون أموالهم وعلاقاتهم العامة وطوائفهم وشيعهم وحتى عصابات الإجرام والعداء للعرب وللفلسطينيين من أجل إعادة تسويق أنفسهم، فينتقلون من وسط الى يمين ومن يمين إلى يمين أو إلى يسار، فالمهم بالنسبة الى معظمهم هو المقعد وضمان الراتب الدسم، فهناك إجماع شبه كامل بين الأطياف كلها على الرواية الصهيونية والحق اليهودي في فلسطين، والخلاف قد يكون على تفصيل هنا وهناك وليس على الجوهر.

تحركت 'خير أمة أخرجت للناس' وانشغلت بحكامها الزعران الذين عضوا على كراسيهم بالمدافع فالتفت الشارع الإسرائيلي إلى نفسه، وكان أول ما وقعت عليه أعين 'الثوار' هو الثمن الباهظ لأحد أصناف اللبن، فانطلقت الشرارة على الشبكات الاجتماعية تدعو لمقاطعة المنتوج الأبيض المسمى (كوتيج) الأمر الذي حدا بالشركات المنتجة للألبان على تخفيض ثمنه امتصاصاً لغضب 'الثوار'. النصر البسيط في قضية اللبن في هذا الصيف الحار فتح شهية 'الثوار' فرفعوا سقف مطالبهم إلى تخفيض أسعار الشقق وأجرتها وهذا لا يتم إلا بدعم من الدولة لفرع البناء وتسهيل شراء الأرض للمواطنين من ما يعرف بـ 'دائرة أراضي إسرائيل' بدلا من بيعها لمن يدفع أكثر من أصحاب رأس المال طبعا من غير العرب، ثم انتقلت الاحتجاجات إلى الأطباء والعاملين الاجتماعيين ومستخدمي المجالس البلدية وغيرهم وغيرهم، وما زالت الخيام وأعداد 'المشردين المتطوعين' في تزايد مستمر.

هل هي ثورة حقاً أم مجرد احتجاجات! وأين العربي الفلسطيني الذي (تمْسح جلده) وأدمن على شتى أصناف الحرمان من كل هذا! حتى الآن لم يلق العرب بوزنهم في هذه الاحتجاجات لأنهم يرون أن مشاكلهم أعمق، وجذور أزمتهم ليست في غلاء أسعار الشقق أصلا بل بالسماح لهم باقتنائها أو استئجارها، والسماح لهم بالبناء بأمان على أراضيهم ووقف مصادرة ما تبقى منها، فهناك فتاوى تحرّم بيع الشقق أو تأجيرها للعرب حتى بالأثمان المرتفعة، وإذا كان اليهودي يعاني من الغلاء فالعربي يدفع أكثر لإغراء صاحب الشقة على بيعها أو تأجيرها له هذا في المدن المختلطة بينما يمنع العربي من السكن في معظم التجمعات السكانية الإسرائيلية، وأكثريتهم تعيش في قراها ومدنها و90 % من العرب يملكون بيوتهم على أراضيهم، المعضلة أن عشرات آلاف هذه المساكن بلا ترخيص، بسبب السياسة المنهجية في مضايقتهم وهذا يعني أن سيف الهدم يتهددها.

العرب ينظرون بحذر إلى ما يجري، تاركين مهمة مواجهة الغلاء للطبقة اليهودية الوسطى، ويدركون أن دخولهم الى هذا المعترك بكامل قوتهم قد يضر ولهذا فمشاركتهم ما زالت رمزية، آملين أن تنجح فيصيبهم رذاذ من المطر القادم، كذلك فإن كثيرين من المحتجين لا يريدون مشاركة العرب، بعضهم لأنه لا يرى بالعرب شركاء في الوطن أصلا، ولا يرى حقهم في المساواة، وبعضهم يخشى أن يستغلها نتنياهو للهرب من الزاوية'التي حُشر بها.

السلطة من ناحيتها تحاول حل جزء من أزمتها على حساب العرب، سواء كانوا مواطنين في داخل الخط الأخضر أو في الضفة الغربية، فهي تشجع اليهود على الانتقال من المركز حيث غلاء الشقق للسكن في النقب والجليل وبأثمان قسائم أرض مدعومة تكاد تكون مجانية، إلا أن الطبقة الوسطى ترى في تل أبيب وما حولها مكانها الطبيعي وليس الأطراف مثل الجليل والنقب، في الوقت ذاته تعلن السلطات عن السماح ببناء المزيد من الوحدات السكنية في المناطق المحتلة عام 1967 كجزء من حل يتساوق مع استراتيجيتها ورؤيتها السياسية.

نتنياهو أعلن عن تشكيل لجنة وزارية لإيجاد حلول للأزمة والتفاوض مع المحتجين ولكنه نوّه 'لن يحصل الجميع على إنجازات من هذه المفاوضات' هذا يعني أن العرب سيكونون مهمشين كالعادة ومستثنين في مجال الدعم الحكومي للسكن لأن هذا يمنح لمن خدموا في الجيش وليس للعرب 'المتقاعسين'. وبخلاف الطبقة الوسطى الإسرائيلية التي تطالب بتخفيض أجرة السكن وأثمان الشقق فمطلب العرب الملتهب هو وقف عمليات الهدم، وترخيص عشرات آلاف البيوت التي أقاموها على أراضي آبائهم وأجدادهم، ووقف هدم القرى البدوية في النقب والاعتراف بها، والكف عن الحكم القاراقاشي الذي يلزم صاحب البيت المهدوم بدفع أجرة الوحدات الخاصة والخيالة والعتاد الثقيل بما في ذلك المروحيات المشاركة في هدم بيته وهي'مبالغ طائلة لا طاقة لأحد بها.

ما يحدث في إسرائيل ليس ثورة بل هي احتجاجات بالتقسيط المريح تنقصها الرؤية السياسية تقودها الطبقة الوسطى التي تتجنب حتى الآن تبني مطالب المواطنين العرب، سوف تنتهي الاحتجاجات عندما تلبى بعض طلبات هذه الطبقة، وقد يحصل العرب على قطرات قليلة لا تروي ظمأ ولا تشفي غليلاً، وسرعان ما سيبقون وحيدين في مواجهة جبروت آلة البطش الإسرائيلية بوجوهها العنصرية المتعددة. 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير