أول ليلة قدر في الأقصى !

13.06.2018 08:12 PM

وطن- كتبت: رولا حسنين : بعد يوم شاق في العمل، حزمت أمتعتي وتوجهت الى حاجز قلنديا عصر يوم الاثنين، وكلي حماس وشغف لمعانقة القدس، واحياء اول ليلة قدر في المسجد الأقصى، فكانت بحق ليلة من عمري، أو ربما ليلة تعادل العمر كله.

على حاجز قلنديا لا يمكن إلا أن ترى رؤوس الآلاف من الرجال والنساء وكبار السن الذين قصدوا القدس، صورة تختزل شغف الناس في الوصول الى القدس وإحياء ليلة القدر فيها تبهج القلب، ولكنها في الوقت ذاته تثير فيك الوجم والعبوس لحجم القهر الذي تتعرض له بسبب ممارسات الاحتلال البغيضة، تجدهم وكأنم ينظرون إلينا كقطيع يسوقونه وفق ما يريدون، جموع غفيرة تنتظر الاذن لها بالمرور، كان البعض يتمتم رفضاً لممارسات الاحتلال وكنتُ أحترم قولهم ففي نظري أولى خطوات مقاومتك رفضك لوجود الاحتلال بالمطلق على أرضك، فهم في فعل مقاوم،  فأضعف الايمان أن تحمل فكراً رافضاً للاحتلال في هذه الايام لان فكرك سينجب فعلاً شجاعاً يوماً ما، أو ستتناقله عبر أبنائك وأحفادك الى أن يقوم أحدهم بفعلاً مشرفاً، وآخرين يتمتمون غير مقتنعين بجدوى ذهاب النساء الى القدس وإحياء ليلة القدر، لا أدري تحت اي عقلية يندرج هؤلاء، وآخر أعطى لجنود الاحتلال شرعية ضرب امرأة فقط لأنها قررت القفز عن الحواجز الحديدية للتخلص من حصار الاجساد!.

ساعات انتظرناها على حاجز قلنديا وعندما صعدنا الحافلات لم اجد مقعداً فاضطررت الى الوقوف أمام زجاج الحافلة الامامي، والحمد لله اني لم اجد مقعداً فارغاً وإلا لظللت حبيسته.

الوقوف في الحافلة أمام الزجاج اتاح لي مشاهدة ملامح القدس كلها منذ حاجز قلنديا الى باب الزاهرة  أحد أبواب المسجد الأقصى، مررنا بمستوطنات وشوارع استيطانية ومستوطنين، وفي خاطري اردد بألم "القدس تعرف أهلها، نحن أهلها، وتعرفنا جيداً، هؤلاء أغراب عنها بملامحهم وتكوينهم وكل شيء فيهم"، هؤلاء لا ينظرون لها بحب مثلنا.

مررنا بالطريق الواصل الى الأقصى، أرضية بلاطية جميلة، أقواس قديمة تقف عليها الطيور،  بعض الأخيار يتهافتون ليعطونا الماء والتمر، متطوعين أو متصدقين عن أرواح أمواتهم أو طالبين منا دعوة لهم، مشينا سيراً على الأقدام حتى وصلنا باحة قبة الصخرة، والمغرب أعلن حلوله والمدفع أعلن وقت الافطار وصوت المؤذن يحرك الجوف، صمت تملكني وأنا أدور حولي أشاهد جمع غفير من الصائمين وضعوا طعامهم لتناول افطارهم، مشهد يبكي من يدرك شوق القادمين الى القدس ويحتملون كل هذه المشقة في سبيل سجدة فيها، مشهد قبة الصخرة وهي تضاء وسط ظلام الليل الذي يسدل ستائره عليها شيئاً فشيئاً، يعلنها عروس القلوب التي أمّتها من بقاع فلسطين ومواطنين من دول اسلامية، قبة الصخرة توسطت السماء، وكان قدري جميل حيث كانت القبة مقابلي وكأنها قبلتي.

نادى الإمام صلاة المغرب، ما هي إلا ثوانٍ حتى اصطف كل الجالسون على موائد افطارهم، صلينا ثم تناولنا فطورنا، تدافع كبير بين الوافدين لإيجاد مكان يحتويهم، مناوشات بين مرشدات النظام والوافدات على ساحة قبة الصخرة –وأنا لم أسلم من المناوشات أيضاً- وأزعجني تصرفات بعضهنّ، ولكني كنت اقول "قررتُ احياء ليلة القدر في الأقصى وعليّ احتمال تبعات هذا القرار اياً كانت"، وكلما رأيت أسراب الناس تمضي في باحات الأقصى أردد "بلاد الله رحبة تتسع بنا وتضيق بالاعداء".

الوقت يمضي بسرعة كبيرة، تجهزنا لصلاة العشاء ثم التراويح، صفوف منتظمة، القلوب كلها تعلن لله خضوعها، وترجوه طهراً وقبولاً،5 أئمة وأكثر من 50 ركعة –تقديراً ولا أستطيع حصر عددها الحقيقي لعدم انشغالي بالعد-، ضمن التراويح والقيام، كنتُ أتساءل كم حجم الثقة التي يجب على الإمام امتلاكها وهو يؤم مئات الاف المتضرعين لله، الذين تركوا مساجد محافظاتهم وجاؤوا ليكون هو إمامهم، اللهم الثبات كثباتهم، 3 أدعية تخللت الركعات، كانت تحمل الدعاء لكل المسلمين، غزة حاضرة وبقوة، سوريا واليمن والاردن، القدس والضفة، الاسرى والشهداء والجرحى، اهلنا في الشتات، حتى حكامنا الطغاة والاحتلال لم يسلموا من تأمين المصلين الذين بكى بعضهم بحرقة وهو يدعو الله أن يمحق الظالمين.

كانت جارتي في الصلاة الى جانب امي وشقيقتي، سيدة ستينية من دير الاسد في الجليل الأعلى، سيدة محترمة جداً ومتدينة، تعي الحق والباطل، تعي الصواب والخطأ، تقول خيراً وتصمت أمام بعض التصرفات السيئة، كان لي الشرف أن التقيت بها وكانت عوناً لي على اكمال الليلة بروح جميلة.

ولكن لا بد من منغصات، الحمامات وأماكن الوضوء صعبة الوصف، عدد المصلين يفوقها بالاف الاضعاف والاحتلال يمنع أي اضافات على واقع باحات الاقصى، في محاولة للتضييق المستمر على الفلسطينيين.

امتلأت باحات الأقصى بمسعفين ماهرين ولجان نظام وكشافة كان لهم دور بارع في تنظيم الاوضاع واحتمال ما لا يمكن لأي أحد احتماله –بغض النظر عن بعض الفظاظة لدى بعض فتيات لجنة النظام- ولكن ربما الضغط الكبير عليهنّ دفعهنّ أحياناً للتصرف بما لا يتوجب.

تجولنا في القدس اضطراراً بعد انتهاء القيام لتجديد الوضوء وشرب الماء قبل اعلان وقت الفجر والعودة الى الصيام، ذهبت الى بيت صديقتي ياسمينا –وهي ياسمينة الاسم والروح- تناولنا السحور ولم أتنازل عن شرب القهوة، فهي إدماني في هذه الحياة، وفي طريق عودتنا تجولنا مجدداً في شوارع القدس.

القدس مكان اجزم أن فيها ما يأسر القلب دون اذن، يرقّ لها القلب، يعكر جمالها جنود الاحتلال ومرتزقته المنتشرين في شوارعها ينظرون الينا بحقد دفين، ونحن أيضاً بادلناهم نظرات الاشمئزاز منهم والوعيد ان ثمةّ نصر قريب سيكون لنا وتكونوا أنتم منكسرين مهزومين.

وصلنا باحات الأقصى والفجر أعلنّ صلاته، بحثنا عن أكثر نقطة يمكننا أن نتدارك الصلاة فيها، كنا نمر بجموع الشباب المصلين على عتبات الأقصى،  وأبوابه، يركعون ويسجدون وأمامهم جنود الاحتلال مدججين بالسلاح، مشهد أبكاني، فسلاح هؤلاء كان الدعاء الى الله أن ينجينا من قوم صهاينة غاصبين، صلينا الفجر، وكانت قبة الصخرة سيدة الحضور، يتلاشى الفجر، ويعلن الصباح اشراقته، والحمام يحط رحاله حيث الأمان والسلام حيث قبة الصخرة الذهبية بجمالها، وكأنك في مشهد تحولات جميلة جداً.

جمال الليلة لا يمكن أن يُنسى، ومشقة مغادرة القدس لا يمكن الغفلة عنها. في طريق العودة الى رام الله، قضينا أكثر من 3 ساعات وقوفاً في ساحة لا تتسع لعدد المغادرين، جنود الاحتلال بصلف وتهكم قرروا اغلاق الأبواب الحديدية للحواجز، وعدم السماح لنا بركوب الحافلات للعودة الى حاجز قلنديا ثم رام الله، الجموع تتدافع، البعض يلعن الاحتلال، وآخر ينتقد تصرفات المأسورين في الساحة كقطيع يحاول الاحتلال التحكم به متناسياً ان الاحتلال هو السبب المسبب لكل ضيم نحياه، فبدأ مَن ضاق بهم الحال بالقفز عن أسوار يعتليها الحديد، ولكن الاحتلال بدأ بوضع الكهرباء عليها لتصيب من يحاول القفز، صرخات من الشباب الحر بين الحين والآخر، حتى ضاق الامر بنا جميعاً، وقرر الجموع هدم الحواجز الحديدية، وفعلاً بصراخ الله اكبر فعلوا ذلك، جنود الاحتلال تأهبوا برعب كبير جداً، بدأوا بالصراخ ومحاولة وضع حواجز حديدية اضافية ولكن لا مفرّ، ولقاء هذا لا بد من تضحيات، فاعتدى جنود الاحتلال على شاب بالضرب المبرح، فيما اصيبت فلسطينيات جراء سقوط الحديد على ارجلهن، وأمي كانت من بين المصابات ولكن الحمد لله سلمها من ضرر كبير كان من الممكن أن يلمّ بها لولا نخوة الأحرار، وبعد كل هذه المأساة التي قد أسميها حرباً، صعدنا الحافلات، وأمام صمتي اللامتناهي تجاه كل ما سمعته من تعليقات مشرفة احياناً وبغيضة احياناً أخرى، الا اني خرجت عن صمتي أمام سيدة تفوهت بعبارة "اليهود احسن منا منظمين واحنا لا"، هنا بدأ معركتي:

"احسن من مين بالضبط؟ لو احسن منا ما بحتلونا؟ منظمين! نظامهم ووجودهم كله قائم على ظلمهم النا، حشرونا في ساحة 3 ساعات واقفين بدون حركة! هذا اسمه احسن منا ؟، اذا انتي مؤمنة بهذا الشيء قولي أحسن منك لحالك مش احسن منا جميعنا، احنا مش ضمن "النا" تاعتك!".

ربما هذه الكلمات كانت اقل ما يمكن قوله ولكن الحمدلله اني قلتها ولو لم اقلها أمام بعض الترهات البغيضة لمتُ قهراً من هذا التفكير البغيض، التافه، فلا استطيع استيعاب فكرة ان يمدح المقتول قاتله، أو اعلانه بشراً نظامياً وكل كيانه ووجوده بالأصل قائم على ابادة الفلسطينيين!.

وصلنا رام الله، مدينة أحياناً أشك أنها فلسطينية الطابع!، تعج بالحياة بعيدة عن ما تلاقيه القدس من تهويد، المسؤولين لا يدركون حجم معاناة الشعب هذه، كيف سيعلمون وهم ينعمون بالعيش الوفير في قصورهم لا يفكرون لوهلة أن يتطلعوا على الام شعبهم؟ هنا ربما الفرق الايجابي لصالح الاحتلال علينا فقط، قادة الاحتلال يعملون لمصلحة المستوطنين، وقادتنا –السياسيين المهادنين فحسب لا السياسيين العسكريين المقاومين- لا تعمل لصالحنا إنما لصالح الاحتلال ايضاً وفق اتفاقيات بغيضة ليست أوسلو البداية ولا التنسيق الامني النهاية.

مضطر أنتَ كفلسطيني على تقبل هذه التناقضات، والتفكير بها بمنأى عن المقارنات المجحفة لقاء كل شيء، في القدس صلينا وبكينا وتطهرنا، وفي رام الله نسأل الله الثبات على مبادئنا.

تصميم وتطوير