حلم خريف بلا حمولة زائدة

24.10.2018 08:16 AM

كتبت: دعد صيرفي

في خريف غامر للنصف الشمالي من الكرة الارضية والذي يشمل بدوره مخيماً فلسطينياً اسمنتياً للاجئي عام 1948 حيث اقيم حتى اللحظة مصابة بارتباك محاولة الاختيار بين استمرار الارتباط بالمكان او الخروج  عن تلك العواطف المرتبطة بما يسمى بالانتظار لتحقيق العودة والصبر الذي بادلنا شوكه حتى أمسى أملساً خالياً من معاناة الوصول الى حلاوة الطعم المختزنة داخل ثماره وأصبحنا نحمل عوضاً عنه أشواكاً ينفر خوفاً منها كل من وما حولنا.. حتى الهواء غالباً! هنا.. تفرح امي أحياناً بفعل "نبوز" نبتة ما في أصص بلاستيكي معاد استعماله لهذا الهدف مصفوف إلى جوار اخرين مثله بحرص على سور منزلنا، تفرح أمي هنا لحدثها الموسمي ذاك وتنسانا للحظات أشواكنا المكتسبة تلك.

في ذات الخريف، تمنت عائلتي الخروج من هناك وكنت برأيهم السيدة المعترضة على ذلك، وفي النهاية قررت ان احتفظ باعتراضي ذاك لنفسي لأحمي حلمهم من أنانيتي ربما! اذ حتى أصغر المؤسسات هنا تنتقد معارضتك لفكرة تراها هي خطوة سهلة نحو التقدم والاستمرار.. بينما كنت اراها أنا كبيرة بحجم الفقدان! فقدان الاشياء الصغيرة التي كنت أمتلكها ذات استقرار مؤقت شعرت به على امتداد العقود الماضية، اذ وضمن جولات لجوء عديدة كأنما بدأت منذ سبعين عاماً.. تراكمت خلالها تجاربي المتوارثة لحزم أمتعة شخصية على عجل وخوف من موت قريب، ففي المرة الأولى نزلت عند رغبة والدتي التي اقنعتني بالتنازل عن دمية لزيادتها عن الحمولة التي تستطيع حملها في مسارات الهرب من الحرب.. فتركتها في البيت غافية على الكنبة القديمة هناك وخرجنا بعد اقفال البيت وقد أقنعتني أمي بالعودة بعد بضعة ايام.. تركت لها بالقرب منها فتات خبز وماء، لكننا لم نعد حتى الان!!

في المرة الثانية كانت دميتي متقنة الصنع واقرب الى ملامح طفل حقيقي من الدمية الاولى، وقد أقنعت والدتي حينها بأن تلفها لي "بالكوفلية" كما فعلت هي بأخي الرضيع الذي كان يغفو الى جوارها في السرير لأتصنع بسبب غيرتي الطفولية دور الامومة لدمية احتارت جاراتنا اللاتي زرن امي في منزلنا وسألنها: "انتي خلفتي صبي واحد ولا توم ما شاء الله؟" ضحكت أمي والنسوة وهربت بحلمي ذاك خارجة نحو الباب، فقد طلبت بعدها أمي مني الاستغناء عن دميتي تلك مرة أخرى لكنها تعهدتها بالرعاية بأن وضعتها بين أيدي طفلة أخرى من أقاربنا كونها ستشكل حمولة زائدة لها في رحلة عودة أخرى عبر الحدود! قبل بضع سنوات وفي زيارة لأقاربنا أولئك كنت سأهمّ بسؤال تلك الطفلة التي أصبحت أماً الان عن تلك الدمية لولا "نكزة" والدتي لي في خاصرتي لكي أصمت، فانصعت لها وصمت!

قد يستغرب البعض منكم لم أسرد كل تلك التفاصيل التي لا داعي لها اليوم، لكنني وقبل أيام في معرض للكتاب وجدت صدفة احدى قصص مجموعتي القصصية المصورة الأولى والتي اهداني اياها والدي من سلسلة "أنا أقرأ"، كنت قد نسيت تفاصيلها لكنني لا زلت أذكر ملامح وألوان الرسوم داخلها، وصوت أمي الذي كان يعلو وينخفض بوتيرة تتماشى مع أحداثها، كنت قد نسيت امتلاكي لها ذات صيف وأحسب أن ضحكة البائعة المستغربة لسر فرحي الذي انسكب علي عند رؤيتي لإحداها قد كان ترجمة فعلية لاستنكار فرح ثلاثينية بقصة أطفال لسن الخامسة فما فوق خاصة وأنني أضفت الى استغرابها ذاك سؤالي البريء ان كان يتوفر لديها قصص أخرى من ذات المجموعة؟ لتجيبني نافية ومستغربة شعوري الذي لا بد قد تسرب من عيني بأنني استعدت جزءاً مني كنت قد فقدته قبل حوالي ثلاثين عاماً عشتها برهاب أطلقت عليه اسم "الحمولة الزائدة"، فعلى مدار تلك السنوات التي تلت، فقدت في كل مكان مكثت فيه لفترة شيئاً مني كأنما خشية الاحتجاز بعذر الحمولة الزائدة! لا دمى ولا قصص ولا أحلام ولا ذكريات ولا خطط مستقبيلة ولا أحقاد ولا مودات ولا أصدقاء ولا أعداء.. حتى أنني قد تحولت إلى ما يشبه ما كنت مصابة به من رهاب.. فالغالبية باتت تتنازل عن وجودي خوفاً من أن أشكل حمولة زائدة لا طائل منها بالنسبة لهم وقد أصبحت فعلا كذلك بعد افراغ كل حمولتي بفعل خوفي غير المبرر!

في ذات الخريف، تمنت أسرتي أن يقوموا بزراعة أشجار تشبه الليمون واللوز والجوز والتين والزيتون والعنب في ارض منسية لنا هناك، فكبر المخيم في حلم امي ذاك وطحن مدنه الضخمة المتجبرة عليه وحولها الى تلال وسهول ربيعية عامرة !! تمنى ابي شجرة صنوبر كبيرة عند زاوية الارض لينصب عليها أرجوحة للأحفاد، أخبره اخي بأن تلك الشجرة تحتاج لوقت طويل لتكبر وتشتد، فرد عليه والدي مدافعاً عن امنيته تلك بأن الحياة كلها عبارة عن "زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون".. ساد صمت بعدها مبلل الأطراف بمدى امكانية تحقق ذلك، علا صوت البائع المتجول للخضار والفاكهة منادياً ومتغنياً ببضاعته التي نضجت رغم شح موسم المطر، لم يعد أحد ينتظر المطر! حتى هذا الخريف بات بدون حمولة مطرية يتخلص منها! صرخت سلمى الصغيرة ذات الخمس سنوات فجأة بجذل: "انا بدي شجرة رمان"، ردت عليها أمي ضاحكة: "هاي الرمان في التلاجة ما حد مقرب عليه"، دافعت سلمى عن حلمها ذاك قائلة: "بس اللي في التلاجة مش شجر، أنا بدي شجرة رمان عشان تطلّع أجراس حمراء وارجوانية معلقة متل زينة شجرة الميلاد"، ضحك الجميع واستأنفت أمي حديثها: "طبعا مش شجر اللي في التلاجة"، قفزت فكرة خبيثة إلى رأس أختي الوسطى التي تعلم عدم احتمال تلك الصغيرة والذي يصل لدرجة الكره احياناً لرائحة وطعم ثمرة الجوافة فاستثارتها مازحة: "بدي شجرة جوافة قبال شباك غرفة نومنا"، انفجر الجميع ضاحكاً اذ ربحت أختي تلك الجولة بجملتها تلك.

ذات سفر أول بالنسبة لي قمت به في عمر الثلاثين كنت لسبب دفين أجهله حتى اللحظات التي كتبت فيها هذا النص مصابة برعب من امكانية وجود حمولة زائدة في حقيبة سفري التي أصرت أمي على أن تحشوها لي بمختلف الامتعة وبعض الاطعمة خشية أن احتاج أي شيء خلال غيابي المؤقت ذاك، عند شباك فحص التذاكر والجوازات وبعد أن وضعت حقيبتي تلك على الميزان الالكتروني تغيرت قليلا نظرة ولهجة الترحيب التي كانت منذ لحظات تعلو وجه موظفة الاستقبال لتخبرني بأنني أمتلك حمولة زائدة! وخيرتني بين التخلص من جزء منها أو أن أدفع مبلغاً مالياً مقابل السماح بكل تلك الحمولة بالمرور! ببساطة تعجبت بعد كل ما خبرته وجود رفاهية خيار يمكنك من دفع مبلغ مالي مقابل الاحتفاظ بكامل أمتعتك.

سيغضب والدي مني بالتأكيد عند قيامه بقراءة نصي هذا الذي استعرض خلاله أموري الشخصية الطفولية وشيئاً من العائلية على الملأ.. فليكن !! طالما أن لا اسم لي.. اذ أخبرني والدي ان غجرية ظهرت له فجأة من كتاب شعر قديم قد سرقت اسمي من كنيته ولم تبق لي سوى لعنة يتم المعنى التي لازالت تلاحقني وتلتصق بكل ما أحاول لمسه حتى بت أتجنب الاقتراب من أجزائي خشية فقدانها او إلحاق لعنة اليتم تلك بها.. أقنعته تلك الغجرية بدونية صورة الاسم ذاك اذا ما قورنت بماء الفضة في مرآة سحرتها لتبهره وليختفي اثره.. بقيت بعد تلك الحادثة هناك عالقة في الزاوية مثل نص لقصة تم رفض نشرها.. هي موجودة على ورق مصنوع من فكر كاتبها لكنها بلا وجود ملموس.. تحوم وتحوم في رأسه كحمولة تثقله وتسأله: "تراها إلى أين ترحل النصوص المسلوبة الاسم والوجود مثلي؟!"

سيعود كل الى منزله عند نهاية هذا اليوم، سيغلق باب غرفته بعد تناول وجبة العشاء برفقة أسرته ويشاهد حلقته المفضلة من مسلسل درامي يعرض على شاشة ما بلغة ما ( طالما لم تعد اللغة عائقا في وجه متابعة مسلسلات بمختلف الجنسيات طالما هي مترجمة)، سيغفو وهو يشاهدها او ربما يؤجل غفوته لحين الوصول الى السرير  ليضع رأسه على تلك الوسادة ويغط دون افكار او قلق يتعدى تبعيات تطبيق قانون الضمان الاجتماعي او تأخر الراتب او علامات ابنه وابنته المدرسية وربما حسابات تطمئنه الى قدرته المالية لسداد قروض بنكية... وسأبقى انا محدقة في هذا السقف راجية الا يسقط على حين غفلة منا جميعا.. سقف بعمود هرم مصاب بشرخ لضعف مصنعيته ومواصفاته المؤقتة.. وأخشى أنه قد بات يحمل حمولة زائدة! فاقتنع وأنزل عند رغبة عائلتي وأبدأ معهم رحلة البحث عن بيت للجوء جديد، ولعلني كتبت نصي هذا ونشرته ها هنا كوني أعرف أن لا أحد يحب قراءة وملء جيوب رأسه بحمولة زائدة!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير