خالد بطراوي يكتب لوطن هلوسات: نحن والكوارث

05.11.2018 07:34 AM

 يروى عن خالد إبن محمد إبن خالد البطراوي ذات يوم أن مريضا بدين الجسم قد نقل على عجل الى غرفة العناية المركزة جراء إصابته بجلطة قلبية وكان من حوله أقرباء له يقرّعونه لأنه على إمتداد سني حياته كان يلتهم اللحوم المليئة بالدهون وأن أحدهم كان يلومه بالقول ... ما قلنالك مليون مرة ما تاكل دهون وما تاكل لحوم .. فش فايده .. الى أن حضر الطبيب وقال لهم ... يا جماعة خلينا نعالجه ... بعدين طخوه.

ويروى عن إبن البطراوي أنه إبان عاصفة ثلجية هبّت على مدينة رام الله شكلت بلدية رام الله الموّقرة غرفة طوارىء، عمل الجميع بصمت، لم يلق أي منهم اللوم على من لم يحضر من كادر الموظفين، ورحب الجميع بالمتطوعين وكان همهم جميعا تقديم المساعدة لمن يتصل مستغيثا من مرضى وخصوصا من يغسلون الكلى ومساعدة أناس تقطعت بهم السبل، ولم يقم أي من كادر الطوارىء بتقريع أو لوم أي من الذين قدمت لهم المساعدة، وبسبب هذا الآداء العالي النظيف لم يكتب "مفصعا" من "مفصعي" شبكات التواصل الاجتماعي منتقدا ... كيف لا وقد فتحت البلدية كافة الشوارع المؤدية أيضا الى المقاهي التي يرتادونها. وأقسمت يمينا وقتها لو كتب "مفصعا" واحدا " تفصيعة" لقدت الجرافة بنفسي وتوجهت لأغمر منزله أو الكوفي شوب الذي يجلس بداخله بأكوام الثلوج.

في علم الكوارث، هناك ما قبل الكارثة، وهناك أثناء الكارثة، وهناك ما بعد الكارثة. أثناء جلطة آكل الدهون هذا لا يجدي أن نلومه لحظتها بل نقدم له العلاج.

في الحادثة المأساوية في البحر الميت التي راح ضحيتها فلذات أكبادنا جميعا في الأردن الشقيق لا يجدي مطلقا أيها الأحبة ومع الاحترام للجميع أن نتنافخ لحظة الكارثة ونشحذ سيوفنا ونطلق الأعيرة الثقيلة مطالبين بالعقاب والاقتصاص ومحملين المسؤولية على هذا وذاك، بينما ينبري البعض ليخلي طرفه من أي مسؤولية ونبحث عن شخص ضحية " نلعن أبوه في عزا أمه " كما يقولون بالعامية.

في خضم الحدث، وقت الكارثة كلنا يجب أن نكون صفا واحدا كالبنيان المرصوص ، من يستطع الوصول الى مكان الكارثة ليس للتفرج بل لمدة يد العون يجب أن يكون، وهذه تحية إنصباط عسكري لكل من توجه هناك وللنشامى من الدفاع المدني الأردني وغيرهم الذي كان نصب أعينهم فقط وفقط إنقاذ من يمكن إنقاذه وتقليل الخسائر المادية والبشرية ولم يفكر أي منهم لحظتها بمن يجب عليه أن يلوم أو يحاسب أو ينصب له مشنقة.

أما من لم يستطيع الوصول الى مكان الكارثة، فإن "شق التمرة" هو الدعاء والدعاء وإن إستطاع فالتواجد مع العلائلات وبينهم ومع المعلمين والمعلمات والمدرسة بدلا من مطاردة هذا وذاك والنعت بأقظع الشتائم والتهديد والوعيد بل وحتى محاولة الاقتصاص باستيفاء الحق بالذات كما يقولون بالمصطلحات القانونية.

بعد الكارثة الطبيعية، هناك إستخلاص العبر والنتائج، هناك الذكرى، هناك البناء للمستقبل، هناك العلاج النفسي، هناك الاشادة بالنشامى، هناك الوطن .. الوطن الواحد والهم الواحد.

أريد أن أقتبس عن أحد أساتذتي المحامي طارق طوقان من كتبه على صفحته بالقول " وين الغلط؟؟؟

تكشف المصائب عن معدن الشعوب وحقيقتها، حيث شهدنا خلال السنوات القليلة الماضية عددا من الحوادث وحتى الفواجع على جانبي نهر الاردن سواء في الرئة الشرقية او الرئة الغربية للنهر، والتي ادمت القلوب والمآقي، ولعل كان آخرها فاجعة الامس في أدنى الارض حيث ارتقى الى العلى عشرون روحا. فرأينا جميعا حجم التعاطف والتراحم بين الشعبين الفلسطيني والأردني في هذا المصاب الجلل. وبان المعدن الأصيل والطيب للناس في كافة أماكن تواجدهم وأنهم وإن فرقتهم الحدود المصطنعة والأسلاك الحدودية إلا أنهم لا زالوا على قلب رجل واحد.

وكان للحادثة أثر في "تحريك المواجع" والتذكير بحادثة أخرى حدثت عندنا قبل فترة في ضواحي القدس حين إرتقى إلى العلى مجموعة من الأطفال في حادثة باص جبع، وأيضا العديد من الحوادث والكوارث التي ألمت وتلم بنا، سواء ما كان منها بسبب بشري أو بسبب خطأ صناعي أو ما كان منها بسبب ظروف الطبيعة. ولعلها تشعرنا بضعفنا الإنساني بعض الأحيان ونقر بأن القضاء والقدر هما حقيقتان لا مفر منهما ونحيل كل شيئ إلى هذا القضاء وهذا القدر! لكن ننسى أن الله عز وجل يعلمنا كبشر أن المنازل تنال بالعلم والعمل لا بالتواكل والتمني.

ولعله من نافلة القول أن مثل هذه الحوادث حدثت وتحدث يوميا في كافة أقطار الأرض، ولا يمر يوم إلا و نسمع عن حادثة شبيهة سواء ما حصل قبل بضعة سنين في سويسرا حيث تعرض باص رحلة مدرسية أيضا لحادث سير أليم راح فيه عدد مماثل لفاجعة البحر الميت من الطلاب، أو في تايلند حين تعرض مجموعة من الطلاب للمحاصرة في كهف أيضا بسبب السيول وارتفاع مستوى المياه، أو في الولايات المتحدة الأمريكية بحوادث إطلاق النار في المدارس.
إلا أن الفرق بيننا وبين غيرنا من البشر أن الشعوب الأخرى تسعى للتعلم من أخطائها وتسعى لمعالجة هذه الأخطاء قبل أن تسعى لجلد ذاتها أو أن تسعى لتوزيع الاتهامات، فالشعوب الأخرى بعد أي حادث أليم أو فاجعة شبيهة تسعى لتحديد سبب المشكلة وتقوم على معالجة أسباب المشكلة، فما يسمى بعملية استخلاص العبر عند هذه الشعوب وخاصة المتقدمة منها، تعني تحديد مكامن الخلل ومعالجة مواطن التقصير ومن ثم التوصيات الضرورية لإصلاح الخلل ومعالجة التقصير، ويترك أمر المقصر والمقصرين إلى القضاء لمحاكمتهم محاكمة عادلة والحكم بشأنهم!!! ويتم تنظيم الأنشطة التي وقعت فيها الحوادث وتوضع الضوابط التي تسعى إلى منع حدوث حوادث شبيهة في المستقبل.
بينما عندنا وللأسف نبدأ مباشرة بعد أي حادثة بتوزيع شهادات المسؤولية أو صكوك الغفران، ونجلد ذاتنا وأنفسنا بأن هذه الحوادث تنم عن طبيعتنا كعرب وأننا لا نستحق الحياة أو كما يقال بالعامية "بنستاهل الي بيجرى لنا"، وبعد ذلك إن تم تشكيل لجنة أو جهة لدراسة الحادث أو تقصي الحقائق أو استخلاص العبر، سمها ما شئت، فإن هذه العملية تتحول نحو تحديد المسؤوليات بدلا من معالجة الخلل، وتخرج نتائج التحقيق بالتبرئة أو الاتهام مع توصيات خجولة عادة تتلخص بمنع النشاط بدلا من محاولة وضع الضوابط لممارسة النشاط. ولعل هذا اسهل الحلول وأيسرها بدلا من محاولة التنظيم والترتيب. وننشغل عادة بسؤال مين غلط بدلا من وين الغلط!! وننصب أنفسنا قضاة وجلادين نصدر الأحكام والقرارات وإذا كانت هذه الأحكام والقرارات على الفيسبوك فهنا تحصد المزيد والمزيد من اللايكات والإعجابات! ولعل الموضوع ينحرف أكثر عندما يكون المقصر من منطقة او من عشيرة أو عائلة معينة فتصبح الأمور تصفية حسابات مع المنطقة والعشيرة والعائلة وننسى الحدث والحادثة.

الموضوع يا سادة يا كرام يبدأ بأن نغير طريقة تفكيرنا من أعلى الهرم وحتى الطالب في الصف الأول الإبتدائي في أبسط وأبعد تجمع سكاني، فيجب أن نكرس مفاهيم المواطنة والانتماء والمسؤوية قبل أن نكرس مبادئ الثواب والعقاب، وعلينا أن نسترجع وعينا الجماعي كمجتمع وكشعوب بدلا من هذه الفردية والأنانية التي تسحقنا وتظهر أسوأ ما بنا، فيصبح جزءا من المقرر الدراسي يتعلق بالمواطنة يتم ممارسته فعلا يوميا وليس نظريا من خلال حصة أسبوعية، وتصبح المعتقدات الدينية ممارسة إنسانية بدلا من مظاهر ملائكية تخفي أفعالا شيطانية ويصبح احترام القانون جزءا لا يتجزأ من تفكيرنا واهتمامنا بدلا من أن يكون ديكورا زائفا يخفي كل فعل فاسد وإجرامي.
والحل يبدأ بتكريس مفهوم الإخلاص في العمل والعبادة والإنجاز قبل التباهي والتفاخر بالمظاهر والطقوس، عندها قد نكون بدأنا في استخلاص العبر في الحقيقة والواقع وعندها نستطيع أن نوجه تفكيرنا إلى القضايا الحقيقية التي تواجهنا كمجتمع بدلا من الإنشغال في قضايا ثانوية وشكلية تستنزفنا وتصبح زادنا اليومي. والله تعالى أعلى وأعلم وهو سبحانه من وراء القصد."
ألم يوجز لنا المحامي الأستاذ طارق طوقان حقيقة أنفسنا؟ بإختصار .... تبا لنا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير