تعديل اتفاقية باريس الاقتصادية بين الامكانيات والواقع السياسي!!

12.12.2018 11:11 AM

كتب: عقل أبو قرع

مع الدعوة الرسمية للجانب الاسرائيلي بإعادة التفاوض حول اتفاقية باريس الاقتصادية من أجل تعديلها، ومع انتهاء اجتماعات مجالس وهيئات فلسطينية مختلفة، سواء كان المجلس الوطني أو المركزي الفلسطيني، او هيئات فتح المختلفة، وازدياد الدعوات للانفصال عن الجانب الاسرائيلي ولو بشكل تدريجي، وبالاخص في المجال الاقتصادي، يحتدم النقاش حول توفر الامكانيات والمقومات لامكانية تحقيق ذلك، مع العلم ان الاقتصاد الفلسطيني كان مرتبطا وبشكل وثيق بالاقتصاد الاسرائيلي، سواء كان ذلك قبل اتفاقية اوسلو من خلال الادارة المدنية أو من خلال الحكم العسكري، أو بعد اتفاق أوسلو من خلال ما بات يعرف ب " اتفاقية باريس الاقتصادية، التي تجعل الاقتصاد الفلسطيني تابعا للجانب الاسرائيلي.   

وفي خضم توصيات وبيانات المؤتمرات، والتي يتم عقدها من هذا الطرف أو من ذاك، وفي ظل الحديث من البعض عن التفاؤل وعن النمو المتوقع في الناتج القومي الاجمالي وفي خفض الديون والعحجز في الميزان التجاري، يبقى الاقتصاد الفلسطيني، وفي ظل جمود سياسي مرهون باتفاقية اوسلو، وواقع على الارض من الجانب الاسرائيلي يتحكم في كل شئ تقريبا، وفي ظل محدودية المصادر الطبيعية، وفي ظل عدم التحكم في هذه المصادر المحدودة أصلا، من أرض ومياه ومعابر وثروات طبيعية، وفي ظل معيقات وقيود تعيق تطوره ونموه، وفي ظل اوضاع مثل أوضاعنا، يبقى هذا الاقتصاد بعيدا عن التغيير الكبير الذي يتحدث عنه أو ينادي به العديد من الخبراء ومن المحللين، وتبقى نسب البطالة المرتفعة بشكل قياسي اصلا، ترتفع أكثر وأكثر كل عام، ويبقى الاعتماد الهش والمسيس على المساعدات الخارجية التي تتناقص سنويا، جزءا مهما من الميزانية ومن نسب الناتج القومي الاجمالي، ومن بند تنفيذ المشاريع التطويرية، ويبقى تحكم الجانب الأخر بمفتاح هذا الاقتصاد واقعا وحقيقة متواصلة، لا يمكن تجاهلها أوعدم القبول بها أو عدم الاعتراف بتكبيله لجوانب عديدة من هذا الاقتصاد.

حيث حسب الاحصائيات، فإن الفلسطينيون يستوردون ما قيمته حوالي اربعة مليارات دولار سنويا، من البضائع  مباشرة من  خلال الجانب الاسرائيلي، مع تصور الفائدة التي يجنيها الاقتصاد الاسرائيلي من ذلك، بينما لا تتجاوز الصادرات الفلسطينية الى اسرائيل، بضع مئات من ملايين الدولارت الامريكية، وان هناك قيود على الصادرات والواردات الفلسطينية، او ما يعرف بالكوتة، والتي تم تقييدها حسب الاتفاقيات الاقتصادية، التي كانت وما زالت ترتبط باتفاقيات أوسلو السياسية.

ومن المعروف أن اتفاق "باريس الاقتصادي"، بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، قد تم توقيعه وبالتالي تطبيقه، قبل حوالي 25عاما، ومعروف ان هذا الاتفاق الذي ينظم العلاقات او المعاملات الاقتصادية والتجارية ونواحي العمل والضرائب والجمارك والاستيراد والمعابر وغير ذلك بين الجانبين، قد جاء في اطار تبعات اتفاق اوسلو وملحقاته، وبالتالي يمكن اعتبار اتفاق باريس الاقتصادي، جزء او امتداد للاتفاقيات السياسية التي تم توقيعها في حينه، والتي تمثلت باتفاق " اوسلو"، وبالتالي فان التعامل مع اتفاق باريس الاقتصادي، سواء من حيث التعديل او من حيث الالغاء، من المفترض ان يتم في اطار النظرة الشاملة الى اتفاق اوسلو، الذي رسميا ما زال قائما، وما زال الاساس الذي توجد عليه السلطة الفلسطينية وما يتبعها من مؤسسات، ومنها المؤسسات الاقتصادية.    

وفي اقتصاديات دول أخرى، ومنها الاقتصاديات المتقدمة والتي تنمو بسرعة، بات الابداع والابتكار، هو مفتاح اساسي من اجل النمو والتقدم، وصحيح انه لا يوجد لدينا بنية تحتية تمتاز بالجودة لجذب الابداع، ولكن وبالاضافة الى البنية التحتية، من المفترض توفر الكفاءات والعقول البشرية وهذا عندنا، ومن المفترض توفر الخطط والاستراتيجيات وتوفر القوانين والتشريعات، وهذا من المفترض ان يكون متوفر لدينا، ونحن وفي ظل ضحالة المصادر الطبيعية، نحن الاحوج الى الاعتماد على الريادة وعلى الابداع والاختراع والتجديد، لكي نبقى وننافس ويتقدم الاقتصاد، وهذا يأتي بالاساس، من خلال الاستثمار في التعليم والتعلم والابحاث المرتبطة باحتياجات المجتمع والتدريب.

ومن ضمن هذه الاقتصاديات، الاقتصاد الاسرائيلي، حيث حسب استطلاعات اجراها" المنتدى الاقتصادي العالمي"، تحتل اسرائيل مثلا مرتبة متقدمة على مستوى العالم في مجال الابتكار والابداع والاختراعات والتجديد، وتحتل كذلك المرتبة السادسة في عدد براءات الاختراعات، والسبب الاساسي لذلك هو مستوى التطور والتقدم والاهتمام في البحث العلمي والتطوير للمنتجات والخدمات، وهذا كله بالاساس عائد الى مدى الاهتمام بالتعليم ونوعيته، وفي نفس الوقت تحتل المرتبة 27 في قائمة مستوى التنافسية للاستثمار وجذب رؤوس الاموال وبالتالي تطور واستدامة تقدم الاقتصاد والتنمية الاقتصادية.

ونعرف ان من ضمن العوامل التي تحدد درجة التنافسية وبالتالي آفاق نمو الاقتصاد وتدعيمه والاعتماد على الذات والاستقلالية، هو جودة البنية التحتية ومقدرتها على جذب وتشجيع ودعم الابداع والابتكار والريادة، وبات مستوى التقدم في الريادة هو المعيار لتحديد مستوى التقدم عند الدول، اي من خلال تصنيفها " غنية او فقيرة بالابتكار والريادة"، واصبح التنافس على مستوى الدول او الشركات وبالتالي النجاح والتقدم وحتى البقاء يقاس بمدى القدرة على تقديم الجديد ، بالجودة والفائدة والاهم الجديد الذي يلبي حاجات الناس ويخدم مصالحهم.  

ومن اجل البقاء والتنافس وبالتالي الاعتماد على الذات التي تنادي به قرارات المجالس والندوات، من المفترض الاستثمار في التعليم من الاساس، اي في البنية التحتية للتعليم، بدأ من الاسلوب والمنهاج وتحفيز التفكير والابتعاد عن التلقين، والاعتماد اكثر على البحث العلمي ، وهذا يعني توفر السياسات التي تصب في هذا الاتجاه، وهذا يعني تكامل النمو في الاقتصاد مع فلسفة التعليم، وهذا يعني بالاساس وجود الاهتمام بالتعليم والتعلم والابداع كأولوية على المستوى الرسمي، وهذا يعني ان يتم تخصيص جزء رئيسي وان لم يكن الجزء الاكبر في الميزانية للتعليم، ولا عجب اذا علمنا ان هناك دولا حققت تقدما اقتصاديا مستداما، بل حققت معجزة اقتصادية خلال السنوات القليلة الماضية، حيث يحتل التعليم البند الاول والاهم من حيث مقدار ما يتم تخصيصه للقطاعات المختلفة في الميزانية، حيث يتقدم ما يتم صرفه على قطاع التعليم قطاعات اخرى كالصحة والامن والخدمات وغير ذلك.

والتركيز على الابداع والابتكار والبحث والتطوير، كعامل اساسي لمواصلة تحقيق نمو مستدام، فان الاقتصاد الفلسطيني، ورغم صغر حجمه، ورغم قلة الموارد، من المفترض ان يركز اكثر على الكفاءات البشرية الموجودة، وعلى افكار ابداعية ربما متواجدة، ولكن تبحث عن حاضن وعن ممول وعن داعم، وبالتالي الاستثمار في الابداعات وفي الريادة، ذات العائد الاقتصادي والاستثماري، والتي اصبحت ، احدى اساسيات وقوة وثبات اقتصاديات الكثير من الدول، والتركيز على استثمارات ابداعية في قطاعات انتاجية مهمه ونحتاجها، في ألزراعة والصناعة والتكنولوجيا والمياه والطاقة وحماية البيئة.  

وبالاضافة الى التركيز على الابداع والابتكار كمسارات استراتيجية للاعتماد على الذات ولنمو الاقتصاد، فإن هناك الاقتصاد الاخضر، أو الاقتصاد المستدام، وهو الاقتصاد الذي تتم ادراته بصورة مستدامة وفعالة وصديقة للبيئة، اي بدون استنزاف اقتصادي وبيئي، ومن هذا المنطلق فان البناء الاخضر مثلا، يجب أن  يراعي الجوانب البيئية، قبل البناء، من حيث اختيار موقع البناء، وخلال البناء من حيث اختيارالمواد المستخدمة في البناء، مثل استخدام التربة والحجارة المحيطة بالمنطقة، واستعمال الرمل، والمواد التي لا تلوث البيئة او تستنزف مصادرها.

والاقتصاد الاخضر يهدف الى ترشيد استخدام الطاقة والمياه وتقليل انتاج النفايات بأنواعها المختلفة، خلال وبعد الانتهاء من البناء، مثل استخدام الطاقة الشمسية او المتجددة بشكل اساسي وفعال، واعادة تكرير المياه واستخدام المياه الرمادية، ووجود انظمة من اجل فصل وتدوير النفايات، وهناك مؤسسات تحدد معايير واسس ومواصفات البناء الاخضر، وهناك دول تقوم بمنح الحوافز والتشجيع من اجل التوجة الى هذا النوع من البناء او الاقتصاد الاخضر.

حيث ومن اجل تشجيع الممارسات الخضراء بشكل عام، الممارسات التي لا تضر بالطبيعة والبيئة، احتفل العالم  قبل سنوات، بيوم البيئة العالمي تحت شعار" الاقتصاد البيئي او الاقتصاد الاخضر"، كاقتصاد مستدام، يحافظ على البيئة ويعمل على عدم استنزاف المصادر الطبيعية غير المتجددة، وبات من المعروف العلاقة الوثيقة التي تربط البيئة وبمصادرها المتعددة مع الاقتصاد او التنمية والتقدم الاقتصادي وما الى ذلك من انعكاسات اجتماعية وثقافية وحتى سياسية؟

وفي ظل تواصل القيود التي فرضها اتفاق أوسلو ومن ضمنه ما حواه من اتفاقية باريس الاقتصاديه، والذي لم يبدو أنه سوف يتغير في المدى القريب، ومن أجل الاعتماد أكثر على الذات و نمو حقيقي ولو ضئيل للاقتصاد الفلسطيني، ومن أجل تغيير على الارض يمكن ان يلمسه المواطن، بعيدا عن قرارات وتوصيات المؤتمرات، فاننا من المفترض أن نتجه ومن خلال استراتيجية وطنية شاملة وملزمة ومحمية بقوانين وتشريعات، ومن خلال تشجيع التكنولوجيا والمبادرات والخبرات، ومن خلال الحوافز والدعم، الاتجاه الى مصادر الطاقة المستدامة أو الطاقة المتجددة، أو الصديقة للبيئة أو النظيفة، أو مصادر الطاقة الخضراء، ومنها الشمس والرياح والمياه والغاز وما الى ذلك من مصادر نستطيع ان ننتجها ولو بشكل تدريجي أو تراكمي، وفي نفس الوقت نستغني وبشكل تدريجي عن مصادر طاقة، تكبل ايدينا وتستنزف اموالنا وتلوث بيئتنا، وتقوم بتقييدنا سياسيا وماليا واقتصاديا ونفسيا، وما يترتب على ذلك من مضاعفات سلبيه على فلسفة الاعتماد على الذات.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير