الجاسوسة التي لقبها العرب "أم المؤمنين"!

04.01.2019 08:14 PM

وطن: كتبت نسرين البرغوثي: "غيرترود بيل" الإصدار الأنثوي لتوماس إدوارد لورنس (المعروف بلورنس العرب)، مهندس ما يعرف بالثورة العربية الكبرى. جاسوسة أهملها التاريخ لوقت طويل، رغم الدور الذي لعبته في التاريخ العربي الحديث عموماً، والتاريخ العراقي على وجه الخصوص. ولدت مس بيل، كما يناديها أصدقائها، في عام 1868 في انجلترا. وتخرجت بامتياز من قسم التاريخ في جامعة اوكسفورد. بعد أن أنهت دراستها، قضت مس بيل وقتها مثل الكثير من بنات الطبقة المخملية، في نهاية القرن التاسع عشر، ما بين حفلات الرقص والبحث عن "عريس" محتمل. إلا أنها لم تكن تشبههم تماماً، فقد كان للفتاة الشابة، بعض الاهتمامات غير المألوفة، حيث كانت تعشق تسلق الجبال، وما زالت هناك قمة تحمل اسمها إلى الآن في مقاطعة بيرن في سويسرا.


ثم تخلت عن عائلتها الارستقراطية لتشق طريقها نحو الشرق عشقها الأول. وتبدأ في لعب دورها المحوري الذي ساهم في جعل الشرق الأوسط كما نعرفه اليوم. والبداية كانت من بلاد فارس، فقد سافرت لتقيم مع عمتها زوجة السفير البريطاني في طهران. فكانت البوابة التي اجتازتها للعبور للشرق الأوسط. وكانت أيضاً المكان الذي قابلت فيه حبها الأول، الذي انتهى نهاية مأساوية بانتحار حبيبها، الذي كان يعمل في السفارة البريطانية هناك. وهذا ما دفعها لتبدأ رحلتها نحو الشرق وتعمل كعالمة آثار ومستكشفة.


بدأت رحلة الخاتون – كما لقبها العراقيون فيما بعد- في الشرق من بلاد الشام، تحديداً فلسطين وسوريا، وعايشت أهل المدن، واختلطت بهم وألَّفت كتاباً بعنوان سوريا: الصحراء، والذي يعد مرجعاً لدارسي تاريخ بلاد الشام. بعد ذلك اتجهت نحو حائل في الجزيرة العربية، وركبت الجمال عبر الصحراء وتعرفت إلى شيوخ القبائل، وأسست علاقات قوية معهم بفضل اتقانها للغة العربية.

 

الهدف المعلن لرحلتها كان الاستكشاف والبحث عن الاثار والتعرف على طريقة حياة الناس. لكن الهدف الحقيقي كان دراسة أوضاع دولة آل رشيد في الحجاز، والاتصال مع القبائل العربية، وإرسال تقييمها الشخصي لمستقبلهم كما تراه إلى الحكومة البريطانية. فساهمت تقاريرها في تشكيل جغرافيا المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، وتقسيمها بين بريطانيا وفرنسا. كما ساعدت الحكومة البريطانية على الإطاحة بحكم آل رشيد، واستبدالهم بعبد العزيز آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثالثة.


جاءت رحلة مس بيل للشرق الأوسط، في فترة انهيار الدولة العثمانية، والتفاف بريطانيا وفرنسا حولها لتقاسم الغنائم. حيث برز في هذه الفترة العرب كورقة رابحة أمام البريطانيين، للقضاء على ما تبقى من الدولة العثمانية المتهلهلة. فكان لمعرفة مس بيل باللغات العربية والفارسية والتركية، دوراً كبيراً في اختراقها للمجتمعات على المستويين الشعبوي والنخبوي.


كانت العراق المحطة الأخيرة والمفصلية في رحلة مس بيل في الشرق الأوسط، وصلتها لأول مرة عام 1909، ضمن بعثة أثرية قامت خلالها برسم الخرائط للمدن العراقية، وجمعت المعلومات عن العشائر التي مرت بها. بعد أن أرسلتها الحكومة البريطانية للقاء لورنس العرب في القاهرة، لمساعدته في تأسيس مكتب للمخابرات في القاهرة يتبع وزارة المستعمرات البريطانية. ثم عادت لتستقر في بغداد نهائياً عام 1914، للشروع بمهمة تتعلق بترتيبات اتفاق سايكس بيكو.


في العراق استطاعت مس بيل أن تتغلغل في المجتمع العراقي وتتقرب من صفوته وعامته على حدٍ سواء. واستخدمت جلسات النميمة النسائية في التعرُّف إلى عادات وثقافة المجتمع العراقي، وجمع المعلومات الاستخباراتية. استطاعت كسب حب الجميع في بغداد، لدرجة أن الأديب العراقي عبد المجيد الشاوي لقبها بأم المؤمنين! ولقبها عامة الشعب بالخاتون، نظراً لأناقتها واتباعها فنون الاتيكيت واختلافها عن النساء العراقيات في ذلك الوقت.


ورغم أن ماركس سايكس نعتها في يوم من الأيام بالبلهاء، والثرثارة، والمغرورة، والسطحية. ورغم أنها لم تؤخذ في البداية على محمل الجد لكونها امرأة، حيث كان ميدان السياسة حكراً على الرجال في ذلك الحين، إلا أنَّ الدور الذي لعبته في العراق يثبت ما يمكن للمرأة فعله عندما تتاح لها الفرصة.


كانت غيرترود بيل المؤسس الفعلي للملكية الدستورية في العراق، بالتعاون مع المستعمر البريطاني. ويرجع لها الفضل في اختيار الملك فيصل الأول، لينصب ملكاً مما جعلها فيما بعد محط ثقته المطلقة وصديقته المقربة حتى وفاتها. ونظراً لرحلاتها السابقة وتجربتها الواسعة في المنطقة، قامت برسم حدود العراق كما نعرفها اليوم. وتعمَّدت أن تقسم المنطقة الكردية على 4 دول، للحول دون استقلالها في المستقبل. وعملت على ترتيب الوضع الداخلي في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، خصوصاً بعد تعيينها كمستشارة للمندوب السامي هناك بيرس كوكس.


يحسب لمس بيل تأسيسها للمتحف العراقي، والذي حوى أهم الآثار التي وجدتها مس بيل خلال رحلاتها. بالإضافة للكثير من الآثار البابلية والمخطوطات والتحف. وقد دُمِّر المتحف بعد غزو العراق عام 2003 كما تم تدمير وسرقة الكثير من الآثار النادرة بسبب تردي الأحوال الأمنية. توفيت مس بيل عام 1926، بعد جرعة زائدة من الدواء (ربما بقصد الانتحار لم يتم التأكد من ذلك أبداً). وأقيمت لها جنازة مهيبة، شارك فيها العراقيون جميعاً وعلى رأسهم الملك فيصل الأول.


بعد عقود من التجاهل لدور مس بيل في الاستعمار البريطاني الحديث، وتقسيم الدول العربية -على عكس التمجيد الذي حظي به مواطنها لورنس العرب- تم مؤخراً انتاج عدد من الأفلام والكتب والروايات التي وضحت الدور الذي لعبته في بداية القرن العشرين. ومن أهم الافلام التي تناولت حياتها فيلم Queen of the desert، الذي قامت ببطولته الممثلة الأسترالية نيكول كيدمان. وبالرغم من أنه ركز على الحياة العاطفية لبيل إلا انه بيَّن لماذا اصبحت ما هي عليه. وأيضاً الفيلم الوثائقي Letters from Baghdad، والذي بثَّ لأول مرة رسائل غيرترود بيل إلى عائلتها، إضافة لتقاريرها الرسمية والمحفوظة في مركز الوثائق في لندن حتى الآن. وتناولت رواية الكاتب العراقي شاكر نوري خاتون بغداد، تفاصيل حياة مس بيل في العراق، ومشاعرها تجاه ما يحدث حولها من أوضاع سياسية، والتي استقاها من رسائل المس بيل إلى عائلتها.

الجزيرة نت

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير