أبو السعيد إبن بتير.. نموذج شعب مقاوم

24.01.2019 10:51 PM

كتبت: نادية حرحش

في ظل الأوضاع السوداوية التي نعيشها، لا بد من البحث عن بقعة أمل في واقعنا الملطخ بالسواد. سواد النفوس والقلوب. سواد القيادة التي حولت الشعب في حالة عوز، يعيش من أجل أن يقتات ما تستطيع يداه الحصول عليه بالقوة كقوة صموده.

والأمثلة التي نعيشها يوميا بين ما تنتجه القيادة السياسية من تبعيات مأساوية للفلسطيني على هذا الأرض كثيرة. فلم تعد القضية الفلسطينية تشكل هدف الفلسطيني، بقدر ما يمكن أن تصل له يده من ستر لحال صعب أو هجوم على ما يمكن الاستفادة منه بأي شكل. فالضمان الاجتماعي قد يكون مثالا مهما لعكس الواقع الأليم، لشعب لا يزال يعيش أهم قضية تحرر عرفها التاريخ الحديث، يحارب أو بالأحرى يستجدي حكومته من أجل العزوف عن قانون يستهدف الفتات الباقية للمواطن المسكين.

وزير بحجم الوطن كما يسمى " بناة الوطن "هؤلاء، يسب الشعب ويهزأ به وتتم المطالبة بإقالته ولا من سامع ولا من مكترث. اقالات وتعيينات لا تنتهي ولا يعلم لها شرعية ولا مبدأ. شعب يستجدي رئيسه بالتدخل من أجل "شجب" أفعال الاحتلال بحق الأسرى المعتقلين لديهم.

القدس في عقاراتها تنتهك وتسرب، وها نحن نرى المدارس تتهاوى فـ"القادسية" سقطت كمنبر أكاديمي جديد، والمسجد الأقصى وقبة الصخرة باتت مزارا يوميا للمستعمرين.

دعوات للتبرعات باسم القدس. لجان وجمعيات.
البضائع الإسرائيلية تملأ رفوف المحال في الضفة كما في غزة والقدس. ولسان الحال واحد، نريد أن نعيش.

وفي هذا الوطن، ومن نفس هذا الشعب، هناك من يشكل وجوده وحياته معنى المقاومة في أبسط معانيها وأعظم تجلياتها.

مسن فلسطيني يقترب من عقده الثامن يمسك بأرضه ويزرع ما يقلعه الاحتلال. إبن وحفيد. عائلة بسيطة تناضل من أجل البقاء. فالأرض هي العرض. الأرض هي الوجود. الاحتلال يهدم ونحن نبني هو لسان حاله.

في بتير اليوم، رأيت مشهدا متكررا لبطولة الإنسان الفلسطيني المتمسك بقضيته والتي تشكل مفصل الحياة والموت. لا يوجد ما بين البينين. يوجد أرض لها صاحب وسيبقى عليها مهما دمر الاحتلال ونكل.

أبو السعيد إبن قرية بتير، إحدى قرى غرب بيت لحم. قرية خلابة بطبيعتها، تحولت إلى مسار يهواه السائحين على مدار السنين. يعيش مع عائلته المتواضعة على أرض ورثها من والديه وزوجته. لا مكان له إلا هذه الأرض. ومن يفتش على مكان آخر وهو يسكن في الجنة؟

نعم جنة ...

جنة تقع كما يقع أكثر من ستين بالمئة من الضفة الغربية بما سمته أوسلو بالمنطقة جيم. منطقة أصبحت كالهاوية لا تطال أرضا ولا سماء. فلا خدمات ولا إمكانيات. لا يسمح بالبناء، وضباع المستوطنين متجهزين للانقضاض في كل لحظة. والسلطة غائب حاضر...حدث ولا حرج...

داهمت قطعان المستوطنين بأكثر من عشرة آليات عسكرية مصاحبة بجرافتين أرض أبو سعيد ببتير، لا لهدم بيت هدموه قبل شهرين وتم استبداله بكرفان حديدي. ولكن من أجل جرف الأرض وسرقة الأشتال. وتقطيع ما لا يمكن جرفه أو سرقته. محاصرة شاملة لعائلة لا حول لها ولا قوة، إلا أرضها وشجيرات زرعتها وروتها بعرق السنين.

كانت كلمة العجوز مدوية في أذني: " شو بدنا نعمل، همه بهدوا ونحن راح نظل نبني."

كيف يستطيع أبو السعيد وعائلته، أحفاده الصغار التي جرفت أرضهم أمام أعينهم وتشردوا من بيتهم بانتظار أن تنظر عين الله لهم برأفة، أن يتحملوا؟ كيف تكون المقاومة هي عنوان وجودهم. لا بديل للمقاومة. سعيد مريض، تصدى للجرافات والمدرعات. حواجز مدت على مداخل القرية والطرق المؤدية إلى بيت أبو السعيد وعائلته.

جرفوا الأرض وسرقوا الأشجار ورحلوا....
ينظر المرء ويفكر، أين السلطة مما يجري لهذا الشعب؟
هذا الشعب الصامد المتمسك المرابط بالفعل إلى يوم الدين.

أين الشعب من هذا الشعب؟
وكأننا تمزقنا حتى في عمق هويتنا. فما يحدث من شعب يقتات من رزق السلطة التي تعتش على الشعب، يقف مقابله شعب يقتات من تراب الأرض قوة ومن الشتاء شرابا ومن الشمس دفئا يجعله إنسانا يعيش بنبض المقاومة.
مقاومة من أجل البقاء على قيد الحياة.

شعب يكثر فيه أمثال أبو السعيد في كل بقعة من أرض هذا الوطن المستباح الجريح. في نفس الوقت لا يكترث فيه أفراد تحولوا إلى شعب من التباهي بما ينتجه الاحتلال، ليكون الفلسطيني هو مستهلكه الأول.

بالإذن من شاعرنا الكبير "درويش " شعبنا والأبدية سكان هذا البلد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير