انتحر إسلام صيرفي.. كأنه يعاقب الحياة!

08.02.2019 11:29 AM

كتب: عدنان جابر

لم يسقط سهواً!

إذا كان المسرحي فرانسوا أبو سالم (60 عاماً)، قد اختار في شهر تشرين الأول أكتوبر عام 2011 أن يلقي بنفسه من أعلى إحدى البنايات في "ضاحية الطيرة" في رام الله، ليلقى حتفه، فإن المسرحي إسلام صيرفي (35عاماً) قد اختار في شهر كانون الثاني يناير2019 ، لينهي حياته، وسيلة أكثر قسوة.

طار إسلام صيرفي من "صخرة الموت" أعلى وادي الباذان في نابلس إلى الوادي السحيق، صخرة ارتفاعها 100 متر، بارزة إلى الأمام، وتطل على وادٍ صخري. وقد انتشلت الشرطة الفلسطينية جثته بصعوبة من الوادي حين عثرت عليها يوم الجمعة 1-2-2019، بعد اختفاء دام أربعة أيام.

اختار إسلام وسيلة مضمونة للموت، وهي هاجس كل من ينتحر، تحاشياً أن يصاب بكسور أو شلل، فيعاني من ذل العلاج، بعد أن جرَّب ذل البحث عن عمل أو وظيفة.
حلَّق إسلام كثيراً كحكواتي وفنان، وها هو يحلِّق من تلك الصخرة، للمرة الأخيرة!

.. لم ينتحر إسلام صيرفي من الضجر، بل من الطفر!
ليس سهلاً أن يضع الإنسان حداً لحياته بيديه أو بقدميه، فالحياة هدية تعطى لمرة واحدة..
إسلام، الكاتب.. الفنان.. المخرج المسرحي.. الممثل.. الحكواتي.. والمدرب في فن المسرح وسرد الحكايات، جار عليه الزمان ففصلته الأونروا من عمله حيث كان يعمل في مكاتبها في مخيم عسكر قرب نابلس.. بحث طويلاً عن عمل أو وظيفة لينفق على ابنه وزوجته .. كما كان يقول (أي شغل.. المهم أعيش)، لكن دون جدوى.

" أنا .. والحمار.. والملك
سنموت معاً
أنا: من التعب
الحمار: من الألم
والملك: من السأم "
ـــ جاك بريفير ـــ

إسلام صيرفي أراد الحياة، لكن قتله العيش.
أمثال إرنست هنغواي، داليدا، خليل حاوي، انتحروا، لا بسبب قلة المال أو لقمة العيش أو البحث عن وظيفة، كانوا ميسورين ومشاهير، انتحروا لأسباب أخرى، ربما، بسبب الخوف من عجز الشيخوخة، من انكسار الأحلام، من الخيبة واالافتقار إلى الحب، من الضجر..

إسلام صيرفي كان محبوباً وبكثرة، من الصغار والكبار، ولم يشكُ من الضجر، كان دينامو، وقته مكرس لفنه...
فما الذي جعل إسلام صيرفي، عاشق الحياة، المفعم بالحركة والتفاؤل، "ضحكة المخيم"، صانع الضحكات والفرح، الحكواتي الذي يرسم البسمة على وجوه الأطفال، الذي كان يتطوع في المؤسسات والأنشطة والمعسكرات، وينظم ورشة عمل لـ "التفكير الإيجابي في المجتمع"، والذي كان دائماً يدعو تلاميذه وأصدقاءه إلى عدم الاستسلام واليأس، ويقول " دائماً في أمل"، ما الذي جعله يفقد الأمل، ويندفع بقدميه إلى حتفه، وبهذه الوسيلة المرعبة؟!

.. الفنان لا يتوسل ولا يتسول!
.. الفنان لا يمد يده!
ولأن إسلام فنان حقيقي، حر ونبيل، لم يمد يده لأحد، ولأن لديه عزة نفس، وحساسية الفنان الإنسان الذي تهمه آدميته وكرامته، لم يشأ أن يصل إلى وضع لا يستطيع فيه الإنفاق على أسرته، وما يترتب على ذلك من قهر ومهانة...
من المؤسف، أن يصل الإنسان إلى هذا المآل: لم يعد الموت مرعباً، فالحياة أشد رعباً!

إسلام صيرفي افتتح بمجهوده الشخصي مسرحاً أسماه "حرسم" (كلمة "مسرح" معكوسة)، لأنه، حسب رأيه، "كل الأمور في هذه البلاد بالعكس"!
.. أكثر الناس ضحكاً، أشدهم ألماً!

يندر ألا تصدر عن المنتحر، قبل انتحاره، إشارات وتلميحات تشي بالهموم والعذابات والضغوطات التي تدفعه للإنتحار، لكن المسألة هي: هل هناك من يلاحظ وينتبه ويعطي أهمية واهتمام ومعالجة؟
هل نتمكن من اللحاق، بقلوبنا وأيدينا، بمن يريد الانتحار في اللحظة المناسبة وننقذه؟
هل يقوم الأهل والأصدقاء والمؤسسات والدولة بواجبهم كي يبطلوا فكرة الانتحار ويمنعوها من التحول إلى قرار وتصميم، قبل أن تقع المأساة، ويحصل اللوم، لوم النفس، وربما لوم المنتحر، ويقال: لماذا؟ أو: لو؟!

لقد صدرت عن إسلام إشارات وتلميحات..
شكا لأحد أصدقائه من إدبار الزمان له.. وقال أنه يجري خلف الوظائف باحثا عن قوته ومصروف عائلته لكن الوظائف تدير ظهرها له وتقفل أبواب العمل في وجهه.
ويقول زميل له: في "مسرحية الشيكل"، لم اكن اعلم بانك ستحلق في السماء لأنك لا تملك الشيكل، لأننا كنا نضحك مليًا عندما تجيبني "معيش شيكل" كلما سألتك "معك شيكل؟"لماذا لم تتواصل معي، هل نحمل ذنبا تجاهك يا صديقي أنا وبقية اصدقاءك؟

لكن المسألة هي: هل يبادر الأصدقاء ويسارعون إلى مساعدة صديقهم وإنقاذه، أن يحسوا به لوحدهم، أم ينتظروا أن يطلب هو؟! هل نتوقع أن يلجأ الفنان إلى الشارع ويقول: لله يا محسنين، أو يلجأ صديق.. رفيق.. زميل لنا ويقول: النجدة!
.. الفنان لا يمد يده!

في بعض الدول، تلجأ وزارات ومؤسسات إلى رعاية الكتاب والفنانين والمبدعين بصور مختلفة، على سبيل المثال تخصص "منحة تفرغ للإبداع"، تعطي كاتباً ما مبلغاً من المال ينفق به على نفسه وأسرته لمدة سنة يتفرغ خلالها لإنجاز نصٍ أو رواية..
ترى ألم يكن بمستطاع وزارة أو مؤسسة أو بلدية أو لجنة في فلسطين، في نابلس، في مخيم عسكر، أن توفر لإسلام صيرفي، المتخصص بصناعة الفرح والضحك، وظيفة محترمة تحترم بها موهبته وكفاءته، يعيش وأسرته منها بكرامة، بينما يشغل كثير من السفراء والوزراء والمدراء العامين والضباط والموظفين مناصب ليسوا جديرين بها، ويتقاضون رواتب عالية تتناقض مع المستوى المعيشي لغالبية المواطنين ومع وضعية شعب تحت الاحتلال؟!

إسلام صيرفي كان يُضحك الأطفال في مخيم عسكر، بينما هناك طحالب بشرية تضحك على شعب بأكمله!

اللعنة على من جعل الرغيف حلماً
على من جعل هجرة الشباب حلماً!
اللعنة على من جعل المناضلين والمبدعين مشاريع يأس.. وقهر.. مشاريع انتحار!

قيادة لا تكترث لاستشهاد أسير، أو انتحار فنان، هذه ليست قيادة.. إنها فضيحة.. عار.. وعبء

شعب عظيم معطاء
وقيادة تافهة مبدده !

حاملو بطاقات الـ V.I.P ( شخص مهم جداً!)، بينما الشعب يكابد الانتظار والإهانات على الحواجز في البرد والحر، المتنعمون هم وزوجاتهم وأولادهم ومرافقيهم بأموال الفساد والدول المانحة والتبعية، بينما غالبية شعبنا في العوز والفاقة، هؤلاء ومن يعشقون الكرسي وينسون زيتون البلاد، هم سبب تدني مكانة قضيتنا، وتدني معنويات شعبنا!

.. إنه زمن الأوغاد!
والأوغاد هم الاحتلال الثاني!

كل كلمات الرثاء.. والوداع.. لن تعيد إسلام صيرفي..
انتهى الأمر، لقد غضب إسلام من الحياة برمتها وأراد أن يعاقبها بنقيضها.
وصلت المسرحية إلى النهاية، أسدل إسلام الستار على حياته..
لقد عبر بوابة الموت بقدمين مصممتين، ولن يتم استرداده، لأن القهر قد أعطاه
تذكرة ذهاب بلا عودة : one way ticket

.. فلسطين تخسر أبناءها!
الجميلون يرحلون !

القتل ليس فقط بالرصاص، هناك قتل بالتهميش، والإهمال، وعدم الاحترام، وعدم تقدير الكفاءة ، وإشاحة الوجه والقلب، وترك الإنسان وحيداً مع وجعه وقهره..

نحن المتروكون والمتروكات
في عالم بليد القلب
أعمى الذاكرة
طوبى لنا !

إسلام صيرفي كان يعشق فيروز.. وخاصة أغنية "المحبة".. يا للمفارقة!

.. مات المهرج قهراً!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير