صفوة الجليل .. إلى " تشي " الشهيد محمود نزال

09.02.2019 09:46 PM

كتب: طارق عسراوي

تعني كلمة صَفد في اللغة: العطاء، كما تعني: الوثاق، وأقيمت المدينة التي حملت هذا الاسم  على قمة جبل يقابل جبل الجرمق في جليل الورد الفوضوي، وقيل إنها "صفت" وذلك أنها ارتفعت وعلت على قمة الجليل الأعلى وانقلبت التاء دالا على لسان الناس.

صفد أو صفت ..فالمدينة التي هجّر أهلها في بدايات أيار العام ١٩٤٨ - التاسع من أيار - أخذت من اسمها سمات المعنى، ونالت من الصفوة سماتها السماوية، ومن الصفد قيدها الذي توثق القلب فيه سحرا وجمالا وحزناً فلا ينفك وثاق القلب ويبقى مرتبكا بين تضاد البهجة والضيق.

ولصفد التي لم يبق فيها فلسطينيٌّ، رغم شواهد المكان على أنّ صفوة فلسطينية بنت وعمّرت جدرانها وزرعت في مداها أشجار الخضرة وهدأة البال، حكايات مغموسة بتضاد بين شعوريّ البهجة والوجع، فهناك مشينا في حكاياتها وسراديب أسرارها، ومن أمام منزل "حامد النحوي" بدأنا تجوالنا في حارة الأكراد " الكراد " حين خرجت علينا سارقة البيت تصرخ في وجهنا لنرحل من أمام المنزل، وكأن صوتنا العربي ولون وجوهنا الملوحة بالشمس أعادا لجدران البيت المسلوب أنفاس صاحبه فاهتزت جدرانه حنينا لصوت حامد أحمد النحوي !

ومن حارة الأكراد إلى الحارة الاسدية فحارة الصواوين

فالقلعة والسوق وحارة النصارى والوطا، تلك حارات صفد التي لم تسقط من ذاكرة من هُجّروا منها، وقد عمّروها حجراً حجراً وذكرى فذكرى في ذاكرة أبنائهم وأحفادهم، حنينا وإمعانا في تأصيل الحكاية والوجود، ولذا وما زال زائر صفد يسأل عن بيت فؤاد حجازي وعائلة الخولي ويرفع الصلاة في ساحة المسجد اليونسي بعد أن يقف أمام شرفة مفتيها أسعد قدورة، ويحاول تهجئة ما بقي من أثر الكتابة العربية فوق باب الجامع الأحمر .. فالبيوت أنفاسٌ لها أصحابها، تبقى في المكان ولا تغادره.

مشينا المدينة كلها، ووضعنا على عتباتها نبض قلوبنا الساخن، وقبل أن نمضي إلى قرية كفر برعم القريبة، أعدنا لصفد أغنياتها الفلسطينية، وعلّق الصدى كلمات أناشيد موطني وهبّت النار  على جدران البيوت والدكاكين، وحين اتقدت الحناجر بمقطع " مين اللي ينسى فلسطين الجنة" بدا الارتباك جليا على وجه إحتلال المدينة .. فمرّوا غرباء من حولنا، وبدت خطاهم خفيفة كلصٍ ينسحب من ضوء الحقيقة إلى عتمة روايته القاتمة..

في الطريق إلى قرية كفر برعم أخذتنا الشاعرة الفلسطينية فاطمة نزال بارتباك واضح إلى الشعر، غرفت لنا ما استطاعت من حنين روحها، من بئر شوق لم تنضب، وسارت بخفّة مثل غيمة فوق انقاض القرية - حين وصلناها - وربما بصوت خفيضٍ هَمَست تنادي " تشي " وفِي المدى بدت قناديل قرى الجنوب اللبناني تتلألأ ..  وكان الغروب يتساقط من عيني فاطمة على قريتين في آن واحد " كفر شوبا " خلف الحدود و " كفر برعم " حيث نقف على أنقاض مجزرة جارحة.. أو أسرّت لأثر البيوت وصيّة شقيقها " تشي " القائد العسكري الذي خاض عملية " إقرث وكفر برعم " في دورة الألعاب الاولومبية في ميونخ، تلك العملية الفدائية التي حملت اسم القرية إحياءً لأنقاضها،  فوحدها روح الفلسطيني التي تتناسخ من بشر إلى حجر إلى بشر .. وربما لهذا يحنُّ الفلسطينيّ كلما اغتربت روحه إلى الحجر.. وبحجرٍ أعلن انتفاضات الحنين!

أخيراً، تقع قرية " كفر برعم " على مسافة ١٧ كم إلى الشمال الغربي من صفد، وهي القرية المارونية الوحيدة في الجليل الأعلى، على بعد ٤ كم من الحدود اللبنانية، وقامت قوات الاحتلال بقصف القرية بالطائرات بعد النكبة، ولَم تبق من منازلها التي سكنها ما يزيد على ألف فلسطيني حتى مطلع الخمسينيات سوى كنيسة صمتت أجراسها من قسوة الدم، وفِي القرية شواهد لمعبد روماني، وأقواس وزهر لوز، وكل ما أثث به الفلسطيني عيشته الدافئة، وحلمه بالحصاد الوفير قبل أن تخصفه مخالب الاحتلال الدموي وتدفنه الأنقاض، لكن جذر الحكاية لم يمت ومن تحت أنقاض القرية نهض عشبٌ رعويٌّ وزهرٌ فوضوي الخيال إيذاناً بالربيع ..

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير