سلامٌ على أسرى نفحة والنقب.. صوت الرصاصة الأخيرة للشهيد خليل الوزير "أبو جهاد"

23.04.2019 10:48 PM

كتب: عيسى قراقع

بتاريخ 16/4/1988 اغتالت دولة الاحتلال الإسرائيلي القائد الشهيد خليل الوزير أبو جهاد، ولم تكن عملية اغتيال عادية، بل هي حرب شاملة خطط لها جنرالات الحرب في إسرائيل بكافة مستوياتهم العسكرية والأمنية والتي اعتبرت الحرب الثالثة بالنسبة للكيان الإسرائيلي باغتيال الرأس المدبر والمخطط للعمل العسكري والانتفاضي في الأراضي المحتلة، وكما وصفته الصحافة الإسرائيلية والأمريكية بأن أبا جهاد مخطط بارع لا يهزم وكان من أخطر أعداء إسرائيل على مدى ثلاثة عقود، وأن بقاء أبو جهاد حياً أصبح أمراً لا يطاق بالنسبة لإسرائيل، وأن غياب أبو جهاد هو ضربة قاصمة للانتفاضة ، هذه الانتفاضة التي توسعت واستمدت روحها الثورية من الدستور الذي وضعه أبو جهاد في رسالته إلى الشعب الفلسطيني تحت عنوان لنستمر في الهجوم حتى تهدم كل ما توهم العدو انه بناه وشيده في سنوات الاغتصاب والاحتلال، فلا تراجع ولا تهاون ولا تعايش مع الاحتلال فلا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة.

الشهيد أبو جهاد كان يربط الداخل بالخارج، وإحدى سماته العبقرية انه أعطى اهتماماً للأراضي المحتلة وركز على ذلك واعتبرها مركز الثقل للعمل الوطني الفلسطيني من خلال بناء الأطر التنظيمية والجماهيرية وبناء المؤسسات والبنية التحتية للمجتمع الفلسطيني وخلق حالة نهوض وطني حولت الأراضي المحتلة إلى الساحة الأهم في مواجهة الاحتلال، وكانت رسالته الأخيرة التي لم تكتمل عشية الاغتيال موجهة إلى القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة.

الشهيد أبو جهاد أول قائد فلسطيني اطل برسائله واهتمامه على الأسرى القابعين في سجون الاحتلال، وكان له دوراً هاماً في بناء المؤسسة الاعتقالية وتنظيمها وتحويل السجون إلى مدارس وخنادق للتربية السياسية والتنظيمية وتخريج الطاقات الوطنية التي لعبت الدور الأهم في الانتفاضة عام 1987، حيث كان معظم أعضاء القيادة الموحدة من الأسرى المحررين.

اخترق أبو جهاد جدران السجون وتواصل مع الأسرى وعائلاتهم وهو أول من أدرك منذ البدايات أهمية الإنسان الأسير المناضل وضرورة الاهتمام به واحتضان أسرته ورعايتها، وشكلت رؤية أبو جهاد للأسرى عقيدة وفلسفة ظلت راسخة وثابته حتى اليوم بعد ان تحولت إلى نهج وطني ومؤسسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد برز ذلك عندما اعتقل أول أسير فلسطيني بتاريخ 8/1/1965 وهو محمود بكر حجازي وحينها قال أبو جهاد: من حق المناضلين علينا وعلى حركتهم ان توفر لهم ثلاثة أنواع أساسية من الحماية وهي:

1- حماية عضويتهم في حركة فتح
2 -حق الحماية السياسة التي تفرض على الحركة تبني كل معتقل أو أسير من بين أعضائها وتعمل على الدفاع عنه وتلتزم بالسعي لإطلاق سراحه.
3 -حق الحماية الاجتماعية التي توفر للأسير وأسرته مستوى لائق من الحياة وتعليم أبنائه والوفاء بالالتزامات المادية لأسرته.

وعلى المدى تحولت رؤية أبو جهاد إلى سمة مشرفة من سمات الثورة وعنواناً بارزاً من عناوينها العظيمة عندما تأسست مؤسسة رعاية الأسرى والشهداء والجرحى ومن ثم وزارة الأسرى وهيئة الأسرى، وأصبحت هذه المؤسسات جزء من المعركة مع الاحتلال في ظل العدوان على الأسرى وقرصنة أموال الشعب الفلسطيني بسبب إعانة عوائلهم ومحاولات حكومة الاحتلال تجريم نضال الأسرى ونزع مشروعية نضالهم الوطني التي رسمها الشهيد أبو جهاد، فروح أبو جهاد بعد 31 عاماً من اغتياله لازالت تقاتل دفاعاً عن الإنسان المناضل وحقه المشروع بالحرية والكرامة الإنسانية.

أعطى الشهيد أبو جهاد منذ انطلاقة الثورة عام 1965 اهتمامه للأسرى وتابع شخصياً أوضاعهم وظروفهم، فعندما وقع الأسير الأول محمود بكر حجازي بالأسر قال أبو جهاد: لقد حركنا العالم كله خلف قضيته وخلال ستة أشهر كنا قد رفعنا مذكرات إلى هيئة الأمم المتحدة وكل الهيئات الدولية الأجنبية التي ترعى حقوق الأسرى، واتصلنا بعدد من نقابات المحامين الأجانب للدفاع عن محمود الذي صدر بحقه حكماً بالإعدام ورفضت سلطات الاحتلال ان يتولى المحامي الفرنسي الشهير (جاك فيرجس) الدفاع عنه والذي كلفناه بذلك.

وقال الشهيد أبو جهاد ان بلاغ القيادة العامة لقوات العاصفة رقم 34 الذي صدر في 22/11/1965 قد خصصناه بالكامل لموضوع الأسير محمود بكر حجازي وأكدنا خلاله على ضرورة تحويل محاكمته إلى محاكمة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي نفسه، وقد أطلق سراح حجازي عام 1971 خلال إجراء عملية تبادل بين م ت ف وإسرائيل مقابل إطلاق سراح الإسرائيلي (شموئيل روزنفر) الذي أسرته حركة فتح بتعليمات من أبي جهاد.

ان الهاجس الدائم للقائد الشهيد أبو جهاد كان إطلاق سراح الأسرى من سجون الاحتلال، وكانت تعليماته دائماً خلال العدوان على لبنان عام 1982 وخلال العمليات العسكرية للفدائيين خاصة الدوريات المتسللة عبر الحدود بخطف جنود إسرائيليين لأجل مبادلتهم بأسرى فلسطينيين، وتنفيذاً لهذه التعليمات تم اسر ثمانية جنود إسرائيليين يوم 4/9/ 1982 خلال الغزو الإسرائيلي للبنان، وعلى أثرها قاد أبو جهاد مفاوضات عملية تبادل الأسرى تم بموجبها إطلاق سراح الأسرى على مرحلتين: الأولى في 27/11/1983 تضمنت إطلاق سراح 6 أسرى إسرائيليين مقابل إطلاق سراح 4800 معتقل فلسطيني ولبناني من معسكر أنصار و65 اسيراً من سجون الاحتلال في الأراضي المحتلة منهم 8 أسرى من فلسطين المحتلة عام 1948، و35 معتقلاً كان قد تم أسرهم في علمية القرصنة البحرية في المياه الإقليمية اللبنانية، إضافة إلى الإفراج عن الوثائق والتقارير والمراجع والدراسات التي صودرت من مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، ثم المرحلة الثانية وهي عملية التبادل التي جرت في 20/5/1985 بين الجبهة الشعبية القيادة العامة وإسرائيل، حيث كانت القيادة العامة قد احتفظت بأسيرين من الثماينة، وبموجبها جرى إطلاق سراح 1150 أسير فلسطيني ولبناني.

المتابع لعملية المفاوضات حول إطلاق سراح الأسرى التي أشرف عليها الشهيد أبو جهاد يكتشف مدى حرصه على التفاصيل وعلى وضع رؤية قانونية إنسانية في التعامل مع ملف المعتقلين، فقد أعلن يوم 19/3/1983 ان م ت ف على استعداد لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الثمانية إذا وافقت سلطات الاحتلال على معاملة كافة الأسرى في لبنان وفي السجون الإسرائيلية كأسرى حرب حسب القوانين والأنظمة الدولية، وطالب أبو جهاد بضمانات بعدم تعرض الأسرى بعد الإفراج عنهم إلى الملاحقة والاعتقال مرة أخرى، وقد اعتبرت الصحف الإسرائيلية حينها ان عملية التبادل التي جرت تعني اعترافاً ضمنياً واقعياً بالمعتقلين الفلسطينيين كأسرى حرب، وان أبا جهاد قائد المفاوضات احدث تغييراً في الذهنية الإسرائيلية السائدة باتجاه الاعتراف بوجود قضية عادلة يقاتل الفلسطيني من اجلها واعتباره إنسانا كسائر بني البشر، وان الفلسطينيين ظهروا أكثر التزاماً من الإسرائيليين بقواعد القانون الدولي في معاملة الأسرى المعاملة الإنسانية اللازمة.

ان كافة العمليات الفدائية التي اشرف عليها الشهيد أبو جهاد والتي كانت تتضمن أهدافها احتجاز إسرائيليين وإجراء مبادلة لإطلاق سراح أسرى فلسطينيين ومنها: عملية فندق سافوي في تل أبيب التي وقعت يوم 5/3/1975، وعملية دلال المغربي التي وقعت في 11/3/1978، العملية البحرية في 21/4/1985 والتي انطلقت من الجزائر تضم 20 فدائياً والتي كان هدفها التوجه إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب والعمل على اسر اكبر عدد من كبار الضباط الإسرائيليين، وعلمية ديمونا يوم 6/3/1988 في صحراء النقب والتي هدفها المفاعل النووي الإسرائيلي واحتجاز رهائن لإطلاق سراح الأسرى، حيث صرح وزير الدفاع الإسرائيلي اسحق رابين ان الفدائيين عرفوا على أنفسهم أنهم من حركة فتح وتابعون لأبي جهاد وان هدفهم اخذ رهائن والمساومة عليهم، وكان حينها يتواجد 9 آلاف أسير فلسطيني محتجزين في السجون الإسرائيلية.

ان عملية ديمونا هي آخر العمليات العسكرية التي اشرف عليها أبو جهاد التي قتل فيها ثلاثة خبراء وتقنيين عاملين في المفاعل النووي، وكانت على مقربة من سجني نفحة والنقب الصحراوي، فالرصاصة الأخيرة لأبي جهاد كانت التحية والسلام على أسرى نفحة والنقب وكل المعتقلين في سجون الاحتلال، فقد وصل أبو جهاد إلى بوابة السجن، اجتاز كل المسافات واقترب من الأبواب الموصدة، واعتبرت إسرائيل ان هذه العميلة هي الأخطر في دلالاتها السياسية والعسكرية وأنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء وان أبا جهاد أصبح هدفاً استراتيجياً للاغتيال، وقد وصفته الصحافة العبرية بأنه عدو من الدرجة الأولى لإسرائيل وان أبا جهاد كاد ان يحول المناطق المحتلة إلى مناطق لا يمكن حكمها من قبل إسرائيل.

اغتيل القائد الرمز ابو جهاد في ليلة 17 نيسان يوم الاسير الفلسطيني وفي نفس اليوم الذي اطلق فيه القائد العسكري لمعتقل النقب المدعو (تسيمح) الرصاص على الاسيرين الشهيدين بسام السمودي واسعد الشوا، فانتفض المعتقلون يبحثون بين الرمل عن الحجارة والحصى، واستمر الهجوم وهو نداء ابو جهاد في قصيدة الصحراء المشتعلة التي اطلقها الاسرى على لسان الشاعر الاسير المتوكل طه:

اعصف فاني عاصفة
ودماء قلبي راعفة
وجموعنا في كتسيعوت الموت
هبت واقفة
لا الموت يكسرنا
ولا رعب الشفاه الناشفة
ولتحذروا
هذه الجموع، سيولنا الغضبى
تهدر جارفة

ايها الناس:
افتحوا خزائن وارشيف ابو جهاد ستجدون رصاصا ورسائل وتحيات الى المعتقلين في السجون، اسماء شهداء مجهولين، ارواح منقوعة بالدم والوعد والانتفاضات.

ايها الناس اغتيل ابو جهاد في شهر القيامة المجيدة، حمل كل الالام في مسيرته الطويلة ليوصلنا الى الحق والعدالة والحياة، سكب دم حياته في الموت فقامت الانتفاضة واشتعلت السجون بالارادات والبطولات والانتصارات، نزلت فلسطين عن صليبها وعلى خطى ابو جهاد داست على الموت بالموت لتمنحنا الكرامة والصمود في سبيل الحرية والاستقلال.

تصميم وتطوير