كيف يؤثر التلوث البصري على الصحة النفسية للفرد؟

25.05.2019 05:41 PM

وطن- نورس كرزم

تعجّ البيئة من حولنا بالمثيرات البصرية التي نُعاينها يومياً، إذ يقدّر العلماء أن دماغنا يتعاطى مع آلاف المثيرات البصرية في كل دقيقة من الزمن، إلا أنه يقوم بفلترة انتقائية لهذه المثيرات مُبقياً على تلك التي قد تكون ذات إفادة للسياق والمهمة قيد الممارسة (Vuilleumier et al., 2007).  لكن ما الذي قد يحصل عندما نفرض على دماغنا مجموعة من المثيرات البصرية غير المتناسقة والتي يضطر الدماغ للتعامل معها بشكل متزامن؟

تُدعى هذه الحالة علمياً بالتلوث البصري (Visual Pollution)، والذي يمكن تعريفه على أنه نوع من التشويش البصري الذي يؤثّر على مقدرة الفرد على الاستمتاع بالشيء/ المشهد أمامه.  وهنا نرى أنه من الواجب التمييز ما بين مصطلحين أساسيين في هذا المضمار: الآفة البصرية (visual blight)، والتي تشير إلى كل ما هو مزعج بصرياً في المشاهد الكبيرة، من قبيل البنايات العشوائية والدعايات المكتظة، أما مصطلح الفوضى البصرية (visual clutter) فيشير إلى كل ما يزعج البصر في التفاصيل اليومية الصغيرة، مثل المكتب الشخصي غير المرتب (Banerjee, 2015).  عندما ندقّق في تلوث المساحة البصرية في نطاق المُدُن، نرى أن وجود بعض العناصر بشكل مبالغ فيه قد يؤثر على تناسق المشهد البصري، من قبيل: كثرة الإعلانات العشوائية، عدم التناسق المعماري في الأبنية، عدم التناسق في تخطيط بنية المدن (أماكن تواجد أسلاك الكهرباء أو الاتصالات مثلاً) وسواها.  تحاول هذه الورقة المقتضبة تسليط الضوء على هذه الظاهرة بشكل موجز.

أبرز مسببات التلوث البصري
تتعدد مسببات التلوث والتشوش البصري، وخصوصاً في المدن، كما أشرنا في المقدمة آنفاً.  ولكثرتها، يمكننا الوقوف على أبرزها.  بدايةً، هنالك التوزيع العشوائي للإعلانات الدعائية والتجارية المبالغ بها، حيث تفرض هذه الإعلانات على المواطن النظر إليها والتنقل بين مواضيع متعددة في نفس الوقت.  ومن ناحية أخرى، قد تشكل أنظمة الاتصالات وما يرتبط بها من أسلاك وأبراج تشويشاً للناظر في حال أنها كانت موزعة بين المناطق السكنية بشكل أقرب للعشوائية.
إضافة إلى ما سبق؛ تنتشر في بعض المناطق أراضٍ خالية أو مهملة بجانب المرافق الحيوية أو المناطق السكنية، والتي من شأنها أن تكون مصدرَ تشويشٍ بصري للفرد المتواجد في المنطقة.  أما عندما نأتي للمشهد العمراني للمدينة، فإنّ التصميم السيء لبعض المباني، إضافة إلى التوزيع غير المتناسق للبنايات قد يندرج ضمن التلوث البصري بشكل عام.  وأخيراً، نلاحظ أن بعض الجدران في مناطق معينة تعجّ بالرسومات والكتابات العشوائية (Graffiti)، والتي إن لم يتم ضبطها قد تشكّل إزعاجاً بصرياً.

التلوث البصري والجوانب النفسية لدى الفرد
لا مناص من القول أن للتلوث البصري تداعيات سلبية على الصحة العامة للفرد، وبالأخص صحته النفسية.  وفيما يلي ستة من أبرز التداعيات السلبية التي قد يعاني منها الأفراد عند تواجدهم في بيئات "ملوّثة" من الناحية البصرية:
أولاً، التشتت وانعدام التركيز
كثيراً ما نلاحظ في حياتنا اليومية أن وجود فوضى بصرية من حولنا، من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف قدرتنا على التركيز، وخصوصاً عند القيام بمهمات تتطلب منسوباً عالياً من التركيز.  يعتبر بعض الباحثين أن وجود مشتتات بصرية من حولنا يؤدي في أغلب الأحيان إلى تشتت موازٍ من الناحية الفكرية.  لذا ينصح الخبراء بترتيب بيئة العمل من أجل كفاءة أكبر.  إلا أنّي لا أعمّم هذا الزعم على الجميع، فهنالك نماذج إبداعية كانت في أوج تركيزها بغض النظر عن الفوضى المكانية من حولها، مثل العالم الفيزيائي ألبيرت آينشتاين، والفيلسوف باشلار.  ومع ذلك، تفيد نتائج الأبحاث السيكولوجية إلى أن طبيعة العقل البشري تتكيف في أغلب الأحيان مع طبيعة ترتيب المحيط من حوله.
ثانياً، التوتر (Stress)
تشير نتائج بعض الأبحاث في هذا الشأن إلى أن الفوضى المكانية البصرية ترتبط سلباً بمنسوب التوتر لدى الأفراد.  وقد تم إثبات ذلك من خلال عدة دراسات تجريبية وميدانية، أشارت جميعها إلى وجود علاقة دامغة ما بين التلوث البصري والمكاني وما بين منسوب التوتر عند الفرد.
ثالثاً، الشعور بالقلق (Anxiety)
على الرغم من التشابه البيّن ما بين أعراض التوتر والقلق، إلا أن الأخير يختلف من الناحية السيكولوجية في كونه عاماً ومزمناً، وقد يشتمل على مكونات ذهنية بشكل أكبر وفق التصنيفات السيكولوجية المعروفة.  تشير بعض الدراسات إلى أن التواجد في بيئات مزعجة بصرياً قد يؤدي إلى قلق مزمن، مشاكل في النوم، وأفكار تساهم في الشعور بالهلع.  إذ يبدو أن العقل البشري يفضّل –بشكل فطري- الترتيب من حوله، لذا يبدأ بالاضطراب، مما ينعكس على الحالة الفيسيولوجية، وذلك لارتباط الجوانب الذهنية بالجوانب الفيسيولوجية.
رابعاً، خلل في المعالجة الذهنية للمدخلات البصرية (Disturbance in visual processing)
من المعروف علمياً، كما قلنا آنفاً، أن الدماغ يعالج كمية كبيرة من المدخلات البصرية في الثانية الواحدة، ولكن المشكلة تكون حينما يكون كم المدخلات البصرية هائلاً، وغير منظم.  في هذه الحالة، من المرجح أن يعاني الدماغ من صعوبة في التعرف على الأشياء في المحيط، إذ تبدأ الأفكار بالتداخل، ويصعُب على الدماغ ربط الأشياء الموضوعية بالمعاني المرتبطة.  يؤدي كل هذا إلى بطء في العمليات الذهنية، مما ينعكس سلباً على طبيعة تعاطي الإنسان مع المحيط من حوله.
خامساً، مشاكل في التفكير والصحة النفسية
كنتيجة للنقاط السابقة، يؤدي التلوث البصري في المحيط بشكل شبه حتمي إلى مشاكل على مستوى الأفكار.  يقدّر بعض الباحثين أن هنالك علاقة ما بين الترتيب المكاني وما بين بعض الاضطرابات الذهنية، من قبيل بعض اضطرابات الشخصية واضطرابي الفصام وثنائي القطب.  يميل من يعاني من هذه الاضطرابات وشبيهاتها إلى إهمال النظام والترتيب في بيئته، مما ينعكس سلباً على التوازن الداخلي.

خلاصة:
إذن، التلوث البصري هو أحد اشكال التلوث والذي لا يقلّ خطورةً عن أنواع التلوث الأخرى المنتشرة (مثل التلوث السمعي، التلوث الهوائي وسواها).  ويتخذ التلوث البصري أشكالاً متعددة، إلا أنها تشترك في جوهرها من حيث علاقتها بالتشوش في المعالجة الدماغية للمدخلات البصرية غير المتناسقة، مما ينعكس سلباً على صحة الفرد عموماً، وبالأخص صحته النفسية والعقلية.  ولعله من المهم أن ننتبه إلى تداعيات هذه الظاهرة في السياق الفلسطيني تحديداً، لما نشاهده من إهمالٍ في هذا الجانب.  وهنا، تقع المسؤولية على عاتق الفرد أولاً، من حيث اهتمامه بترتيب وتناسق المحيط الضيق من حوله، ومن ثم يأتي دور الحكومات والمنظمات المحلية، والتي عليها أن تراعي راحة المواطن وسلامته عبر اتخاذ إجراءات جَمعيّة من شأنها تقليل منسوب التلوث بأشكاله، دون التقليل من شأن الأنواع المختلفة للتلوث، والتي تشكل –مجتمعةً- خطراً حقيقياً على سلامة الفرد وتوازنه.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير