من يركب البحر ... لا يخشى من الغرق

09.06.2019 01:13 PM

كتب نبيل المصري: 

من البديهيات أن من لا يجيد السباحة لا يركب البحر ولا تقلع سفينة بدون قبطان ولن تبقى راسية في الأرض حيث ستنبت آلف قبطان. وكيف لا والبحر له عالمه وقوانينه وأسراره فوق قدرات البشر، رغم تسخير طاقاته ومفاعيله لخدمة البشر. وبين الأمواج العاتية والرياح والتيارات المائية والحموات المائية والأعاصير(تسونامي وما لف لفيفه) التي تهدد البر وتدمر الحياة الإنسانية خارج إرادة ونفوذ الانسان.

في علم البحار ذلك العالم القائم بحد ذاته، نعلم اليسير منها ونجهل الكثير والكوارث البحرية خير دليل على ذلك وتجارب الصيادون والملاحون أكدت على سلسلة من الأبجديات التي يجب اتخاذها قبل الإقلاع، فالبحرية لها مدارسها الخاصة التي تؤهله البحارة لم تكن وليدة الصدفة أو الساعة انها تجارب الأولين الذين دفعوا ثمنها تضحيات جسام.

فكانت الثورة العلمية التي أنتجت المراكب والبواخر والقطع الحربية بالإضافة للغواصات ومع ذلك لم تركب البحر آي قطعة بحرية دون فحصها وتحصينها والتأكد من سلامة محركاتها ومراسيها وتأهيلها بكافة مستلزمات الوقود والطعام والعتاد والوسائل وأدوات الحماية، الأدوية ومشتقاتها مع توزيع المسؤوليات والمهام، كما أنهم يدرسون علم الفلك والنجوم وعلى مر التاريخ أوكلت المهمة لقائد يقف على رأس هرم القبطان (الكابتن) الآمر الناهي والطاقم يتلقى الأوامر وينفذها بدقة متناهية.

قررت الصعود والإبحار مع الجموع بحثت بين الحشود لأرى رجلا مميزا بين طاقم السفينة وركابها، وعلى حين غرة خرج ممشوق القامة عريض المنكبين ذو بشرة حنطيه يلبس زيا لم ار آجمل منه في حياتي تزينه مجموعة من الأوسمة والنياشين ملتحياً وكنت شاخصاً انتظر لاسمع بركان يهدر لكن الوسامة والرقة كانت واضحة على محياها، تكلم بهدوء ورصانة لا مثيل لها حول التعليمات والمهام والأوامر والمعيقات والمخاطر،لكن نبرته تغيرت وكانت عنوانا للتحدي والإصرار على الاستمرارية للوصول الى الهدف مسترشداً بتجارب ماو جيفارا، وكاسترو وعمر المختار وعزالدين القسام وغيرهم.
دون ادنى شك كسبنا المعرفة وانتقلنا إلى العلمية والموضوعية بعيداً عن الغوغائية بالحدود والامكانيات والقدرات الذاتية واعتكف القبطان في قراءته "يدرس يتأمل يبحث يخترع يفكر" ولم نسمح لأنفسنا بالسؤال ننتظر اختراعاً ابداعياً ... تجربة ...  والعاملون جميعاً يعملوا بكل جهد ... والمحركات تدور ..  المخزون ينفذ وتهدر الامكانيات.

على حين غرة غادر قبطان السفينة قصراً  .. طوعاً  لا يهم ... غادرنا  الاستاذ والمعلم  .... ثلاثون عاما من الانتظار والسفينة لم تبعد عن الميناء سوى بعض العقد في لغة الملاحة.

عاد القبطان وقد خلع الزي الرسمي ونزع عنها الأوسمة والنياشين فقدت بهائها ورونقها .. والمحزن أن القبعة نزعت عن راسه ً .. فالموقف واحد كلنا ننتظر آن يجمعنا على ظهر السفينة ليس هناك أقسى وأصعب من الانتظار.

عاد ليس على عادته هزيلاً منحني القامة لا يقوى على جمع الكلمات ويكسر في مخارج الحروف واعلن ان السفينة قد غرقت وغادرها وانه لن يعود إليها مرة آخرى، ترك الأحبة ترك الأصدقاء ترك التاريخ خلف ظهره، بل ترك ذاته ليعيش في اغتراب وغربة .. أيها المعلم الكبير الأستاذ الفذ…

ماذا نقول لأبنائنا وأحفادنا هل نطوي صفحات الشهامة والبطولة والعطاء ؟

التاريخ يحترم ذاته ويحافظ على تراثه ولا يستطيع احد ان يحفر مساره (اي معلمي قرأت في رواية غادة السمان فقرة في روايتها كان حازم يشارك بالنضال بشغف زائد وعندما يلتقي حبيبته يحكي عن النضال والبطولة، التضحية والعطاء وآن حبيبته تنتظر بلهفة وشوق كلمات العشاق والمحبين وبعد فترة اعتقل حازم وبقية على العهد بانتظاره وعندما التقت به بعد تحرره ورأت في كلامه تغيراً واضحا فقالت: الوطن يا حازم تلكأ بالإجابة وأردف قائلا الوطن هراء والمبادىء يا حازم المبادىء يموت من أجلها الفقراء ويتربع على عرشها الأغنياء).

أن سفينة الوطن لا ولن تغرق لأنها ملك الشعب ولن تقوى قوة على وجه الأرض على اغراقها لأنها الآمل والمستقبل،إنها الحق والعدل، ستبقى راسية في الميناء تنتظر قبطانها، الاسماء لا تعد ولا تحصى .. عمر ومهند وحسن وحسنين ويوسف ومن هو قابع برحم أمه ولم يسمى بعد،  والشيخ ركب البحر وحده أيها المعلم القابع في صومعتك دون وجل أو خوف،  والبقية تعرفها جيداً.

أكثر من ثلاثة عقود والقبطان يحشد الطاقات البشرية ولم يبخل يهدر الطاقات المادية والمعنوية بل سخرها جميعاً من اجل البحر كان ناسكاً زاهداً واعظاً، والبحارة تعمل تحت إمرته ولا تخرج أنملة عن تعاليمه وقراراته حتى أنه تخطى كافة الشرائع والنظم من آجل هذا المشروع كانت التجربة طويلة ومريرة دفع الكثير فيها الدم والعرق على نور الامل القادم، التفاصيل أكبر من السنين، والأحداث بحاجة الى كاتب وألف مؤلف ليكتبها بصدق وأمانة،ولكن اسمحوا لي برسم آلف آلف علامة استفهام والملايين من علامات التعجب والاستنكار من يتحمل مسؤولية الغرق المزعوم والسؤال الثاني كيف يمكن التنقل بين السفن والمراكب؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير