جرائم بانتظار العقاب

14.06.2019 11:17 AM

كتبت :أسماء سلامة

لطالما ارتبط في أذهاننا منذ الصغر أن هناك عقاب لكل خطأ يتم ارتكابه ، ويتناسب العقاب مع طبيعة الخطأ ، كنا نُعاقب  في طفولتنا ( بالحرمان من المصروف ، أو الحبس في الغرفة لفترة زمنية محددة ، أو منعنا من الخروج للعب ، أو الضرب أحياناً إذا كان الخطأ يرتقي- للجريمة- إذا تم تجاوز أحد الخطوط الحمراء الخطيرة ) . وكانت هذه هي أحد أشكال التربية ، لتقويم السلوكيات الخاطئة فينا ، فلا نعيد الخطأ ثانية ، وقد تصل الرسالة لأشقائنا فلا يقومون يمثل أخطائنا تجنباً للعقوبات المشابهة .

كبرنا وأصبحت العقوبات خارج نطاق المنزل ، عقوبات المدرسين في المدرسة ،  (ما رح أسألك إذا شاغبت ، عصايتين ع الماشي ، اطلع عند المدير ، جيب ولي أمرك ، وناقص علامة )، وكان الهدف كذلك تهذيب النفوس وتعليمنا على احترام النظام والقوانين ، وكان وقع العقوبة في المدرسة أشد على النفوس من عقوبات المنزل، إذ أنها تكون أمام زملائنا في الصف ، فلم تكن نحتمل نظرة الآخرين لنا أثناء معاقبتنا . ثم العقوبات في الجامعة ، والعقوبات الإدارية في العمل .

ومع اختلاف البيئة التي يتواجد فيها الفرد واختلاف عمره فإنه يعيش في مجتمع متعدد الطبقات والبيئات ، ولا بد أن تحكمه القوانين التي تضمن حل الخلافات والنزاعات التي تحصل بين أفراده ،وضمان تنفيذ العقوبات التي تصدر وفق هذه القوانين لينال كل مرتكب للمخالفات والجرائم جزاءه ، لضمان حد معين من الاستقرار والأمن في المجتمع ليصبح مكاناً يمكن للإنسان العيش فيه .

طاسة وضايعة
في الفترة الأخيرة ، ولنكن أكثر تحديداً من بداية رمضان وحتى الأمس القريب ، ازداد عدد الحوادث والجرائم بشكل ملفت جداً للنظر ، وتنوعت بشكل كبير ، من حوادث سير مفجعة ومتكررة ، حوادث قتل ( طعن ، إطلاق نار ) ، انتحار ، وعراك بالأيدي والآلات الحادة ، أسفرت عن أعداد لا يستهان بها من الضحايا . ما الذي طرأ على مجتمعنا فجأة لتنفجر الأمور وتصل إلى هذا الحد . أصبحنا لا نجيد حل أي خلاف بالحوار ولكننا نستسهل العنف المفرط ، لا رادع ولا مانع ، هل وصلنا إلى مقولة غوّار الطوشه ( حارة كل من إيدو إلو ) والشاطر من يأخذ حقه بيده ؟؟

هل فقد المواطن الفلسطيني الثقة بالقانون ورجال الأمن ، أم أن لا مهابة للقضاء، والعقوبات  لم تعد رادعاً ، ولا مانعاً لارتكاب الجرائم ؟؟ ، هل المشكلة في الفرد أم في المجتمع أم في النظام أم ماذا ؟

لا أحد يعي فعلاً ما الدوافع والأسباب وراء هذا التزايد المخيف والمقلق للحوادث في مجتمعنا ، ولكن الكل يجمع على خطورة ذلك ، فنحن ألفنا العيش في عدم أمن بسبب الاحتلال وقواته ومستوطنيه ، ولكننا لسنا بحاجة لفقدان أمننا الداخلي ، أن يخشى المواطن على نفسه من أخيه وأقاربه وأبناء بلده ، أمننا الداخلي  وتماسك مجتمعنا هو مصدر قوة لنا أمام الاحتلال ، أن نكون شعباً واحداً ، كل منا يحمي الآخر ، كل البيوت بيتاً واحداً ، والمصلحة واحدة ، كيف لا والهمّ والوجع واحد .


صُلحة وفنجان قهوة
لا أدري هل لمسألة الجاهات ولجان الإصلاح يدٌ فيما يحصل الآن ، بمعنى أن اللجوء إلى العطوات والعشائرية في حل القضايا الكبيرة يؤثر سلباً على الحد من تكرارها ، ولا يعتبر كافياً لتجنب تكرارها ، فكثير من الأحيان خاصة في قضايا القتل نسمع مقولة ، ( كلها فنجان قهوة ) ، أنا لست ضد التسامح وإسقاط الحق الخاص ، ولكن مسألة أن يقتصر الأمر على جاهة وفنجان قهوة هو أمر مستفز جداً ، خاصة وأن القتل من الجرائم التي ورد فيها نص صريح في القرآن الكريم ، وتعتبر من الكبائر عند الله ، ولكنه  ينتهي الأمر بمجرد عطوة وفنجان قهوة .... ويبقى الحق العام .

لست من الذين ينادون بتطبيق أحكام الإعدام ، ولكني مع التشديد في الأحكام الصادرة في الجرائم من الدرجة الأولى وبشده ، قضايا الشرف والقتل والمخدرات ، لأن عواقبها وخيمة جداً على المجتمع ، مرتكبها يكون قد وصل إلى درجة من الإجرام تجعله يتجرأ على يسلب إنساناً حياته ، أو يسلب بنتاً شرفها ويقضي على حياتها في مجتمع سيحكم عليها بالإعدام لاحقاً  ، أو يسلب شباباً كامل عقولهم ومستقبلهم ، هذه جرائم لا مجال للتهاون مع مرتكبيها ، بل لا بد من إنزال أقصى العقوبات بحقهم ، ليكونوا عبرة لغيرهم .

يا روح ما بعدك روح
حياة الإنسان هي أغلى ما يملك ، قد يتهاون الفرد في التنازل عن أي شيء ، ولكن عندما يصل الأمر لحياته فيا روح ما بعدك روح ، أما أن يقدم شخص على الانتحار وبكل بساطة يضع حداً لحياته، فهو أمر غير مفهوم على الإطلاق ولا يستوعبه عقل ، والأمر الصادم أكثر هو أن يكون طفلاً لم يرَ من مصاعب الحياة شيئاً ،ما الذي سيوصله إلى هذه الدرجة من اليأس ، أن يختار ترك الحياة بكل ما فيها ، أين الأهل ؟؟؟؟ لا أعتقد أن طفلاً يتخذ قراراً بشنق نفسه أو ابتلاع كمية من الأدوية لينهي حياته ، قد اتخذ هذا القرار فجأة وسلكه هكذا بدون أي مقدمات ، ألا يراقب الأهل سلوك أبنائهم ، ألا يلاحظون أي تغير مريب على نفسياتهم ، ألا يتواصلون معهم ؟؟ قد أكون قاسية في تحميل الأهل المسؤولية الأولى على انتحار أبنائهم ، فأنا على يقين أن إهمال الأهل لنفسيات أبنائهم والانشغال عن التواصل معهم والاستماع لمشاكلهم مهما كانت تافهة ، ووضعهم تحت ضغوط كبيرة تفوق طاقاتهم ، هي من أهم الأسباب إن لم تكن الأساس لوصول الأبناء إلى مثل هذه الحالات من اليأس .

أبناؤنا يعيشون الآن في عوالمهم الخاصة والمنعزلة عن العائلة وعن الواقع أيضاً ، عوالمهم الافتراضية ، لن يكون تأثير هذه العوالم واحداً على كل الأبناء ، بل إن ذلك مرتبط بطبيعة العائلة التي ربا وكبر فيها الابن، فطبيعة التربية والجوّ العائلي العام يؤثر على طبيعة تأثير العالم الافتراضي على الطفل وعلى طبيعة ردود أفعالة وتعاطيه معه ، ولكن من المهم أن نعي أن طبيعة دور الأهل هو واحد وعلى نفس القدر من الأهمية مهما اختلف جو العائلة ومستواها الثقافي والمادي والاجتماعي ، في النهاية هؤلاء ما زالوا أطفالاً وبحاجة للتوجيه والمراقبة والتدخل بشدة إن لزم الأمر لتجنب الندم لاحقاً .

وأشرك في موضوع الانتحار ، وهوان الحياة على أصحابها ، قضية حوادث السير المرعبة التي تفتك بالأرواح كل يوم ، لا أظن أن شخصاً بهذا التهور ، لا يعرف من السيارة إلا (دعسة البنزين) ويضرب بكل أولويات وقوانين السير عرض الحائط ، هو شخص بعيد عن الانتحار ، هؤلاء الأشخاص الذين يقامرون بحياتهم وحياة الآخرين ، ينتحرون ويقتلون في نفس الوقت  ، ( جريمة مزدوجة ) ، يقلبون الأعراس والأعياد إلى بيوت عزاء . ولنكن منصفين فإن العقوبات الخاصة بمثل هذه الحوادث هي قوانين فيها نسبة من الصرامة والتشديد  ، ولكن المشكلة في السائقين ونظرتهم لخطورة ما يقومون به من سلوكيات على الطرقات . هي ثقافة سائدة للأسف ، فيها نوع من التحدي للقوانين ورعونة وتهوّر ، لذلك فإن بالإمكان الارتقاء أكثر في شدة مخالفات وعقوبات السير  ، خاصة للمتسببين في الحوادث بشكل مباشر ، مسألة المخالفات التقليدية لم  تعد ذات جدوى . فمن يكون في قيادته لمركبته في سباق نحو الموت ، لا يستحق القيادة نهائياً .

الشّمّاعة
إذا حاولنا البحث عن إجابات لتساؤلاتنا عن أسباب ما يجري ، سنجد أن لكلٍ شماعتة التي يعلق عليها ذلك .

شماعة حوادث السير كانت ( الناس صايمة وعصبية ، والناس مو شبعانة نوم ) مع العلم أن حوادث السير مستمرة قبل وخلال وبعد شهر رمضان المبارك ، من كان صائماً ويشعر بالنعاس من المنطق ألا يسرع . المشكلة ليست في نظام الحياة المختلف في الشهر الفضيل ، ولكنه في السلوك المختلف لبعض السائقين ، وهذا هو الأمر الثابت طوال الوقت .

أما شماعة حالات انتحار الأطفال ، هذا تأثير التكنولوجيا ، هذه لعبة الببجي ، ولكن السبب الحقيقي هو غياب الأهل والرعاية الصحيحة للأبناء وضبطهم لتعلق أبنائهم بالتكنولوجيا وتأثيرها عليهم ، والبقاء بالقرب منهم وتقوية التواصل معهم وفهمهم أكثر ومراقبة التغيرات النفسية لديهم وعدم الاستهانة بها 


وشماعة العراك والمشاكل ، وراء كل مشكلة ( إبحث عن الفتاة ) ، هذا ظلم كبير للفتيات ، أن يكون دائما سبب المشاكل هو الأنثى ، المشكلة هي غياب لغة الحوار بين الناس ، واللجوء للعنف في كل مشكلة ، وفقدان الناس للصبر والحلم ، فالعصبية هي السائدة ، كما أن شعور الأشخاص بأن لهم ( ظهر ) يحميهم يجعلهم يفترون على الآخرين ، فكلنا يسمع ذات الجملة في أي عراك ( طوشة ) الجملة المشهورة ( إنت عارف مع مين بتحكي ؟؟) ، نعم أنا أعرف مع من أتحدث،أتحدث مع مواطن مثلي ، له  ما لي من الحقوق ، وعليه ما علي من الواجبات ، وكلنا سواسية أمام القانون ، هذا هو الأصل .. الندية والمساواة في الحقوق والواجبات ، وليس الشخص بمن يعرف وبمن تربطه صلة قرابة من المتنفذين في البلد، لم نعد في عصر الفتوّات ولسنا في مجتمع ميليشيات . الأصل أن يكون القانون فوق الجميع ، لأن هذه التجاوزات هي المسبب الرئيسي لفقدان القانون لهيبته، وعدم ثقة الناس فيه ، ولجوئهم إلى أساليب أخرى لحل مشاكلهم بعيداً عنه .

فما هي شماعة حوادث القتل ؟ شاب يقتل عمّته ، ويحاول قتل والدة ، أشخاص يطلقون النار على شاب ويقتلونه ، اشتباكات مسلحة وكأنها جبهة ، شقيقان يطعنان بعضهما البعض ، شاب يقع ضحية والده وأعمامه ،  هل الشماعة هي المال ؟ أم الأنثى أيضاً ؟

مهما اختلفت الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحالة من الفوضى ، والتسيب ، وعدم المسؤولية وعدم احترام القانون ، فإن النتيجة واحدة ، عدم استقرار ونقص أمن وأمان ، وخوف أكبر من القادم ، إن لم يتم ضبط الأمور من الآن وبشدة ، فإن العواقب ستكون وخيمة جداً على المجتمع الفلسطيني بشكل عام ، إننا نعيش في فلسطين ولسنا في شوارع الجريمة في الولايات المتحدة ، لا يمكن السماح لتفشي الإجرام والعنف في مجتمعنا ، لأن ذلك سيصرف الشباب والمجتمع بكامله عن أهدافه  الأساسية والأهم وهي الاحتلال وبناء الدولة . يكفينا ما نقدمه من شهداء ، ومن هم خلف القضبان ، كل قطرة دم فلسطينية غالية كتراب هذه الأرض ، اعتدنا أن نروي تراب الأرض بدم الشهداء ، ولن تقبل هذه الأرض دماً غير الذي اعتادت عليه .

لوين رايحين ؟

أتمنى من المختصين ذوي العلاقة إجابتنا على هذا السؤال ، علم الاجتماع والدراسات الاجتماعية ، ماذا ينتظرنا ؟ هل المجتمع الفلسطيني في خطر حقيقي ؟ هل هناك فعلاً تحولات مقلقة في طبيعة بناء شخصية المواطن وطريقة تفكيره وسلوكه ؟ ما هو الحل وكيف يمكننا معالجة ذلك كيف نضع حداً  للتدهور الكبير الذي وصلنا إليه ، ما مدى قربنا من الهاوية ؟

رجال الأمن والقانون ، لا بد من وجود آلية جديدة للتعامل مع حالة شبه انعدام الأمن ، والفوضى المنتشرة في شوارعنا وفي حياتنا ، لا يجب أن يقتصر دور رجال الأمن على  بعد وقوع الحادث أو الجريمة وإنما العمل على الحد من وقوع الجرائم وخفض نسبها بدلاً من ارتفاعها كما هو الحال الآن . لننعم بحياة آمنة ولا نخشى على حياتنا في الطرقات والشوارع . نحن بحاجة فعلاً لإعادة الهيبة للقضاء ، ولرجال الأمن. نحن بحاجة لإعادة النظر في الواقع الحالي بنظرة شمولية ومعالجة مواطن الضعف أينما وجدت، دون تجميل لأي تقصير ، فالصورة باتت غاية في القبح ، مجتمعنا في خطر ولا مجال للتهاون . بحاجة لوقفة جادة من كافة الأطراف وعلى كافة المستويات ، اقرعوا ناقوس الخطر الآن .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير