رغم الإجماع العلمي الواسع هناك من ينكر واقع التغير المناخي لماذا؟

10.07.2019 09:50 PM

وطن- جورج كرزم

رصدت مجلة آفاق البيئة والتنمية، خلال الأسابيع الأخيرة، أحداثا مناخية متطرفة وغير عادية، واجهت العديد من مناطق العالم:  فلسطين تحديدا سجلت درجات حرارة متطرفة واستثنائية لشهر أيار، تزامنت مع مستويات جفاف مرتفعة، ما شكل أجواءً مثالية لاندلاع مئات الحرائق، خلال أيام قليلة، في المساحات الخضراء والأراضي المفتوحة بمختلف أنحاء الضفة الغربية وفلسطين المحتلة عام 1948. 

الظروف المناخية السائدة في فلسطين، في ظل أزمة المناخ، تعد متطرفة نسبيا، وتشجع على انتشار الحرائق. إجمالا، من الصعوبة بمكان ربط كل ظاهرة جفاف حادة منفردة بأزمة المناخ؛ لكن، لا يمكننا تجاهل عملية تراكم عدد كبير من الأيام الحارة في السنوات الأخيرة بشكل خاص.  الغطاء النباتي في البحر الأبيض المتوسط واجه حرائق كثيرة وطور مرونة وقدرة على الانبعاث من جديد- إلا أن البنية التحتية والمجتمعات البشرية تجد صعوبة في التعامل مع تلك الحرائق.


توفرت في شهر أيار الماضي الظروف المناخية المتطرفة التي حفزت الحرائق الكبيرة، وذلك للمرة الثالثة خلال السنوات التسع الماضية.  ففي كانون أول 2010، اندلع حريق ضخم في جبال الكرمل المحتلة، ما أسفر عن مقتل 44 شخصا.  وفي تشرين ثاني 2016، تسببت ظروف الجفاف القاسية والرياح الشديدة في موجة غير مسبوقة من الحرائق التي اندلعت في جميع الأنحاء الفلسطينية. 


وفي مشهد سريالي متكرر لحريق الكرمل (عام 2010)- حينما أعلنت الحكومة الإسرائيلية آنذاك عجزها أمامه وعدم قدرتها على السيطرة عليه بقواها الذاتية؛ دون توسل المساعدات الخارجية والجسر الجوي المكثف – تكرر في الثالث والعشرين من أيار الماضي مشهد طائرات الإطفاء التي أرسلت من اليونان وقبرص وكرواتيا وإيطاليا إلى إسرائيل، للمشاركة في جهود مكافحة الحرائق.  بل إن مصر والسلطة الفلسطينية سارعتا أيضا لإرسال المساعدات!
هذه الحرائق وعجز إسرائيل المتكرر عن مواجهتها وحدها، كشفا ثغرات وعيوبا بيئية وأمنية إستراتيجية حساسة في إسرائيل لم يتوقعها الكثيرون.


الميزانيات المالية الضخمة التي خصصتها إسرائيل خلال السنوات الأخيرة لمشاريعها العسكرية المعادية للعرب والفلسطينيين، لم تسعفها في مواجهة الحرائق المتكررة التي حاولت قوى الإطفاء الإسرائيلية إطفائها بطرق بدائية؛ علما أن المساحات التي امتدت إليها، تعد بالمقاييس العالمية صغيرة نسبيا؛ لو تمت مقارنتها بالمساحات الاسترالية والروسية واليونانية والأميركية وغيرها الأكبر بكثير، والتي اندلعت فيها مرارا حرائق ضخمة.

نكران الصلة بين التغير المناخي والنشاط البشري
وصلت درجة الحرارة في شمال غرب روسيا (القطب الشمالي) إلى 29 مئوية- أي 17 درجة أعلى من المتوسط في صيف القطب الشمالي؛ كما ضرب جنوب الهند إعصار مدمر، وقبل بداية فصل الصيف في بريطانيا اندلعت في غاباتها حرائق كبيرة.  وغمرت مدينة هيوستن الأميركية فيضانات ضخمة، تسببت في انقطاع التيار الكهربائي عن عشرات آلاف الناس، وفرار تمساح كبير ظهرت صوره في التقارير الإخبارية.


هذه ليست النهاية؛ ففي أواخر أيار الماضي، سجلت اليابان وجنوب شرق الولايات المتحدة موجات حرارة قياسية لشهر أـيار، بينما ضربت الأعاصير مرارًا وتكرارًا شمال ووسط أميركا.  وضربت أستراليا أيضًا عواصف غير عادية لهذا الموسم.
ولتأكيد هذه الاتجاهات المناخية، سُجِّل في أواسط أيار الماضي أعلى تركيز، في تاريخ البشرية، لغاز ثاني أكسيد الكربون (CO2): 415 جزءًا في المليون، علما أنه يعد غاز الدفيئة الرئيسي في الغلاف الجوي.  مثل هذا المستوى،  حسب تقدير العلماء، لم يتم قياسه في الغلاف الجوي للأرض منذ 800 ألف سنة على الأقل.


اللافت هنا، أن علماء المناخ، بغالبيتهم الساحقة، يؤكدون بأن العنصر البشري هو المُتَسَبِّب في الاحترار العالمي.  وبحسب تقديرهم، ما لم يحدث تغيير سريع في مستوى انبعاث غازات الدفيئة، فسيرتفع متوسط درجة حرارة الكرة الأرضية، قبل نهاية القرن الحالي، بمقدار أربع أو خمس درجات مئوية، بالمقارنة مع فترة ما قبل "الثورة الصناعية"؛ علما أن اتفاقية باريس الدولية للمناخ (عام 2015) حددت الهدف الذي يجب أن تسعى نحوه البشرية، هو ارتفاع بمقدار 1.5-2 درجة مئوية كحد أقصى.


ورغم الإجماع العلمي الواسع، هناك من ينكر واقع التغير المناخي، أو الصلة القائمة بين التغير المناخي والنشاط البشري.  ويتكون معسكر الناكرين من أقلية هامشية من العلماء، فضلاً عن بعض الشركات والأفراد الذين لديهم ما يخسرونه إذا ما طبقت الإصلاحات اللازمة لوقف تغير المناخ.  شركات النفط والغاز، مصنعو السيارات، منتجو الطاقة، سياسيون وصحفيون شعبويون يمينيون؛ أصحاب نظريات المؤامرة وثلة من الجهلة وشرائح كبيرة من الناس الذين يرفضون رؤية الواقع أو يرفضون التعامل معه- جميع هؤلاء يعدّون من معسكر الناكرين.


في ظل هذه الخلفية، لا بد أن ندرك بأن النقاشات الدائرة حول التغير المناخي هي سياسية واقتصادية وليست علمية فقط. فجميع أولئك الذين لديهم مصلحة في إدامة النظام الاجتماعي-الاقتصادي الحالي، وفي مقدمتهم منتجو النفط ، سيواصلون تحدي تأكيدات العلماء وتقييماتهم بشأن وجود تغير المناخ وشدته وطرق فرملته. 


الاعتراف العلمي بالعلاقة السببية بين الاحترار العالمي والنشاطات البشرية - مثل حرق الوقود وإنتاج النفايات وتربية الماشية – تطور بشكل تدريجي.  وبالطبع، ليس من المستغرب أن منتجي النفط هم من بين أول من أدرك هذه العلاقة، إذ لديهم المعلومات وأيضا الوسائل اللازمة لتطوير الأبحاث في هذا المجال؛ علما أن بعضهم حدد هذه العلاقة وأخفاها، على غرار ما فعله مصنعو المواد المسببة لتآكل طبقة الأوزون.
منذ ذلك الحين، تعمق البحث، وتم توثيق الظواهر المرتبطة ارتباطا وثيقا بانبعاث غازات الدفيئة.  ومع ذلك، فإلى جانب الأدلة التراكمية لهذه العملية ودلالاتها، فقد تم الكشف أيضًا عن مدى تعقيدها، ما جعل من الصعب أحيانا نقل الرسائل الصحيحة إلى عامة الناس، وسَهَّل بالتالي على أولئك الذين يسعون إلى إثارة الشكوك حول العلاقة بين الاقتصاد والتغيرات المناخية.


فعلى سبيل المثال، آثار التغيرات المناخية ليست موحدة، وتختلف بين المناطق المختلفة. فبعض المناطق تشهد جفافا وتناقصا كبيرا في هطول الأمطار، بينما تشهد مناطق أخرى ارتفاعا كبيرا في كميات الأمطار.  كما أن النظام الإيكولوجي في بعض أنحاء العالم أكثر مرونة، ويستطيع بالتالي استيعاب الأنواع الهاربة من المناطق الأكثر إشكالية.  في مناطق أخرى، لن تتمكن أنواع كثيرة من الاستمرار في الوجود.


آليات التغذية الراجعة القائمة في النظام المناخي والتي تتأثر من النشاط البشري، تزيد المشهد تعقيدا.  فعلى سبيل المثال، يولد تلوث الهواء غطاء من الجسيمات في الهواء، تعمل على تقليل شدة الإشعاع الشمسي الواصل إلى سطح الأرض، ما يتسبب في أثر تبريدي.  كما يجب أن نتذكر بأن التقييم العلمي لكل ما يتعلق بالتأثير المستقبلي لتغير المناخ، لا يزال يعتمد إلى حد كبير على نماذج مستوى دقتها يتطلب المزيد من الأدلة.


هناك من يستغل هذا التعقيد العلمي كي يسخر من العلماء ويثير الشكوك في أوساط العامة، وفي مقدمة هؤلاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي- خلال موجة البرد الأخيرة الاستثنائية جدا- كتب متهكما: "ماذا بحق الجحيم يحدث مع ظاهرة الاحتباس الحراري؟ أرجوك أن تعودي، فنحن بحاجة إليك".


يجادل معارضو تغيير السياسات وأنماط الحياة، كوسيلة للتكيف مع تغير المناخ، بأن تكلفتها الاقتصادية مرتفعة للغاية.  اقتصاديون كثيرون دحضوا هذه الحجة، وأظهروا أن بالإمكان إجراء مثل هذه التغييرات بأقل ضرر ممكن.  اقتصاديون وخبراء بيئة آخرون يتفقون حول الحاجة لإحداث تغييرات اقتصادية بعيدة المدى، لكنهم يشيرون إلى أن عالمنا، في المحصلة، سيكون محصنًا أمام الكارثة المناخية، وأكثر عدالة في توزيع الموارد البيئية واستخدامها. بمعنى، يستحق دفع الثمن.


حجة أخرى يتذرع بها معارضو التغيير، وهي أن الحلول التكنولوجية المستقبلية ستمكننا من مواجهة التغير المناخي. لذا، لا ضرورة لزعزعة الاقتصاد العالمي الآن.  مشكلة هذه الحجة أن "التفاؤل" التكنولوجي هو الذي قاد البشرية أصلا إلى الوضع المناخي الراهن المأزوم.  التكنولوجيا، بطبيعة الحال، شرط ضروري للتعامل المستقبلي مع تغير المناخ، لكنها ليست شرطا كافيا. على أي حال، لا أحد يضمن العثور على التكنولوجيا المناسبة في الوقت المناسب، لإنقاذ الموقف.  كما لا يمكن لأي شخص التنبؤ بعواقب استخدام التكنولوجيا ذاتها في المستقبل. 

حفنة تراكم ثروات خيالية
مع تراكم الأحداث المناخية المتطرفة والأدلة المثيرة للقلق، أخذت تنمو حركة سياسية شعبية عالمية، داعية الحكومات إلى اليقظة.  وقد أثبتت الحركة قوتها في الرابع والعشرين من شهر أيار الماضي، حين تظاهر مئات الآلاف حول العالم (1800 مدينة في 110 دولة) يطالبون بالتحرك الفوري القوي لمواجهة التغيرات المناخية.


الفتاة السويدية غريتا ثونبرغ التي تعد واجهة هذه الاحتجاجات، قالت في شهر نيسان الماضي لأعضاء البرلمان البريطاني، بلهجة توبيخية: "يباع مستقبلنا كي تتمكن حفنة من الناس من مراكمة ثروات خيالية".  في أعقاب خطابها والمظاهرات الحاشدة في لندن بقيادة حركة "تمرد الانقراض" (Extinction Rebellion)، اتخذ البرلمان البريطاني قرارًا غير مسبوق بإعلان "حالة الطوارئ المناخية"، كما اعتمد البرلمان الأيرلندي قرارا مشابها.


في المستوى الفلسطيني، وباستثناء ثلة من الناشطين في بعض الأطر والمنظمات البيئية، يبدو أن القضية المناخية ليست على جدول الأعمال الفلسطيني.


فصل الشتاء الماضي في فلسطين، الذي تميز ببرودته العالية، وهطلت خلاله أمطار غزيرة بشكل غير عادي، أثار أيضًا المشككين (بالأزمة المناخية)، وبخاصة أن كميات الأمطار التراكمية فاقت المعدل العام في العديد من المناطق الفلسطينية، مثل نابلس وجنين ورام الله والبيرة وبيت لحم.  ربما تتسبب المعطيات والبيانات المقدمة في هذا المقال - والتي تمثل جزءًا صغيرًا جدًا من البيانات التي تشهد على الدراما المناخية التي لم تترك ركنا من أركان المعمورة إلا وصلته – ربما تتسبب في إعادة التفكير لدى المشككين مرة أخرى؛ فيتساءلون عما يجب عليهم فعله لضمان ألا يحيا أطفالهم وسط كارثة مناخية متدحرجة.


بينما تتراكم التقارير والدراسات، يتساءل الكثيرون في الأوساط الأكاديمية وفي وسائل الإعلام العالمية عن سبب عدم مبالاة الجمهور، بشكل عام، بالأخبار السيئة المتعلقة بأزمة المناخ، رغم أن جميع الأطفال تقريبا، سيتأثرون سلبا بتغير المناخ.  ربما الشعور بالعجز عن مواجهة العمليات الهائلة التي تغير الكوكب، هي سبب هذه اللامبالاة.


ومع ذلك، جميع تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) التابعة للأمم المتحدة، والتي تضم العلماء من جميع أنحاء العالم، تقول بأن البشرية لا يزال بإمكانها وقف الكارثة المناخية، أو على الأقل وقف جوانبها الأكثر صعوبة. وبحسب تقريرها الأخير، يجب على البشرية أن تبذل أقصى جهد ممكن للحد من ارتفاع درجات الحرارة، قبل أن تصل إلى درجتين مئويتين بالمتوسط، بالمقارنة مع فترة ما قبل الحقبة الصناعية (حتى الآن ارتفع متوسط درجة الحرارة درجة واحدة)، وفي السنوات القادمة، يحبذ تحقيق هدف أقل من 1.5 درجة مئوية.


لقد تم بالفعل رسم خريطة الطريق من أجل التغيير.  وحاليا، يوجد بحوزة المجتمع العلمي العالمي التقنيات والموارد اللازمة لخفض انبعاث غازات الدفيئة بسرعة وبمدى كبير، بل وحبس بعضها بهدف عكس الاتجاه.  حاليا، الطاقة الشمسية تنافس فعليا الطاقة الأحفورية بنجاح؛ فدول كبيرة مثل الهند والصين تحول موارد ضخمة نحو الطاقة المتجددة.  وفي أوروبا، يتم إنتاج عشرات بالمائة من استهلاك الكهرباء من مصادر متجددة مثل محطات الطاقة الشمسية والطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح؛ أما كوستاريكا (في أمريكا الوسطى) فتنتج حاليا من مصادر الطاقة المتجددة معظم استهلاكها من الكهرباء.


ويمكننا أن نلاحظ التغيير في مجال المواصلات أيضًا؛ فالسيارات الكهربائية تعد منافسة حقيقية للسيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي المبذرة لكميات الوقود المحترق.  المشكلة التي لا حل لها واضحا للعيان تتمثل في الانبعاثات الناتجة عن الرحلات الجوية.
كما وفي مجال استهلاك اللحوم، لا يزال الحلُّ بعيد المنال.  وذلك رغم الزيادة المتعاظمة في عدد النباتيين والخضريين؛ إلا أننا لا نلمس، في المستوى العالمي، انخفاضا في استهلاك اللحوم؛ علما أن صناعة اللحوم تعد من أكثر الصناعات تلويثا.
في ذات الوقت، من الضروري الحفاظ على مناطق الغابات التي تحجز الكربون، وزيادة مساحاتها؛ بل واستخدام تقنيات الهندسة المناخية لالتقاط غازات الدفيئة من الغلاف الجوي، أو حتى حجب الإشعاع الشمسي من خلال السحب الاصطناعية أو غيرها من الوسائل.  إلا أن هذه التقنيات لا تزال مثيرة للجدل، وقد يكون لها أيضًا عواقب بيئية سلبية.


المدن والبلدان، في جميع أنحاء العالم، تسير فعلياً في هذا الاتجاه، ويخطط العديد منها لخفض كبير في انبعاثات غازات الدفيئة بحلول عام 2030، وتصفير تلك الانبعاثات بحلول عام 2050.  مثل هذه السياسة تتطلب إحداث ثورات اقتصادية واجتماعية بعيدة المدى، وهي تواجه معارضة من السياسيين المحافظين. ومع ذلك، يبدو أن هذه الثورة الاقتصادية والإيكولوجية ستندلع في نهاية المطاف، والسؤال هو ما إذا كانت ستكون كافية لمنع وقوع الكارثة.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير