ما بين المهد واللحد ..

26.07.2019 07:49 AM

كتبت: اسماء سلامة

عاد كما ولدته أمه " سمعتها فتساءلت ، كما ولدته أمه ، أم كما ولدتنا أمهاتنا ؟ ألم نكن جميعنا على نفس الهيئة عندما ولدتنا أمهاتنا ؟ ، ولدنا أطفالاً أنقياء لا حول لنا ولا قوة ، نبكي ونضحك بنفس الطريقة ، نتغذى ونكبر بنفس الأسلوب ، نتعلم الكلام والمشي والاعتماد على النفس كذلك بنفس الآلية . فمهدنا واحد وإن اختلفت الأماكن . ونموت جميعاً في النهاية ، نكفن ونودّع وندفن ، وإن اختلفت أسباب الموت فالموت واحد في النهاية ، فلحدنا واحد .

وما بين المهد واللحد ... تبدأ الفروقات والاختلافات في الحياة ، ناس فوق وناس تحت ( إن جاز التعبير ) ، أناس يكدون ويتعبون ويعانون في سبيل البقاء ، وأناس يولدون وفي فمهم ملعقة من ذهب ، كل شيء متوفر ، وطلباتهم أوامر ، أناس يعانون ويلات الحروب والفقر والمجاعات ، وأناس يعيشون في رغد العيش وترفه . هكذا خلق الله الأرض والناس ووزع الأرزاق . لم يختر الفقير فقره ولا الغني غناه ، لم نختر أين ومتى سنولد ، لكن لنا نصيب في المشاركة في اختيار كيف سنعيش ، وكيف ستكون حياتنا من المهد إلى اللحد .

بالنسبة لكل مقومات الحياة هناك فعلاً تفاوت بين الناس ، ولكن ما يعنيني أو يثير اهتمامي ، هو النفس البشرية بذاتها ، هل الناس درجات ومستويات ؟؟ إن كان جميع البشر هم من أصل واحد( آدم وحواء ) ، ولهم نفس التركيبة الجسدية ، نفس عدد الأرجل والأيدي والعيون و ... و... ، وكل لديه ذات المشاعر والأحاسيس : فرح و حزن وخوف وألم و.. ، ونشترك أيضاً في الرغبات والغرائز ، فلم يكون هناك نظرة غير متساوية لإنسانيتهم ؟؟ أليسوا متساوين في كونهم بشر ويلزمهم نفس المقومات للبقاء على قيد الحياة ؟ لماذا هذه النظرة الدونية من بعض الأشخاص على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية لغيرهم ؟ . لم التعالي في التعامل ، وإشعار الآخرين بالنقص الإنساني على جانب النقص المادي ؟ ليس بالضرورة حين يكون الإنسان على مستوى معين من الغنى أو التعليم أن يكون على ذاك المستوى من النزاهة والشرف والكرامة والكبرياء ، ولا أن يكون إنساناً حقيقياً بكل معنى الكلمة ، فالمال والشهادات ليست مقياساً للأخلاق ولا للنجاح ولا سبباً في فرض الاحترام والمكانة المرموقة في المجتمع ، لا يعتبر هذا حكماً مطلقاً على الجميع ، ولكنه كلام بالعموم . كما أن الفقر أو تندي المستوى الاجتماعي ليس دليلاً ولا سبباً للجريمة والانحطاط الأخلاقي ، وليس دليلاً على الجهل والمرض والانتهازية ، كما أنه في الجهة المقابلة ليس سبباً ولا دليلاً على العفة والقناعة والطيبة ، كذلك هذا كلام بالعموم وليس المطلق . فإن اتجاه بعض الأشخاص إلى الجريمة يكون بدافع نفسي داخلي ليس له علاقة بالمستوى الاقتصادي ، أو البيئة التي يعيش فيها الإنسان ، كذلك الإصابة ببعض الأمراض النفسية والجسدية ، واللجوء إلى بعض العادات السيئة كالإدمان مثلاً ، فهو هروب من الواقع بغض النظر عن طبيعة هذا الواقع ، الفقراء يهربون من عوزهم وفقرهم إلى عالم الخيال ، والأغنياء يهربون من أجواء الملل والفراغ إلى عالم آخر أيضاً . وموت بعض المشاهير بسبب جرعات كبيرة من المخدرات أو بسبب المهدئات هو أكبر دليل على أن الغنى ليس سبباً لتحقيق السعادة . وأن الفقراء ليسوا هم المدمنون فقط . أعود إلى النظرة الدونية من أفراد كل طبقة تجاه أفراد الطبقة الأقل منها ( تصنيفاً ) ، وهي ما يثير حنقي ورفضي وعصبيتي في بعض الأحيان ، عندما ترى سائق سيارة ينظر باحتقار لعامل نظافة في الشارع ، أو أحد رواد المطاعم يتعامل بتعالي وفوقية مع النادل في المطعم ويشعره أنه لا يطلب منه بل يعطيه أمراً . ( الناس الواصلة ) والشخصيات المرموقة ، لا يلتزمون بالدور في أي مكان – هذا إن حضروا – ولم يرسلوا من ينجز لهم أعمالهم ومعاملاتهم ، فتراهم يتجاوزون عن الجميع ، ويرحب بهم بطريقة مبالغ فيها من قبل الموظفين ، ومعاملاتهم تتم بسرعة كبيرة ، تفتح لهم الأبواب المغلقة ، في حين يجلس البقية في انتظار دورهم ، وقد يتعالى بعض الموظفين في التعامل معهم ( مش فاضيلك ، هي الموجود ، هيك القانون ، إرجع بكرا ) وغيرها من العبارات التي لا وجود لها في قاموسهم عند التعامل مع كبار الشخصيات . ازدواجية التعامل أو هو فصام في الشخصيات ... ألا يكفي ( للمرتاح مادياً ) أن معه ثمن كل ما يحتاج ، وأن باستطاعته تحقيق أحلامه ( المادية ) ، يركب أفخم السيارات ويرتدي أرقى الملابس ويأكل أشهى أنواع الطعام .. فيزاحم الفقراء أيضاً في أبسط حقوقهم .. فيعتدي على أحقيتهم في الدور في معظم الأماكن ، ويحاول الاعتداء على إنسانيتهم باحتقارهم أو التعالي عليهم أو الانتقاص من قدرهم ، وعلى الملأ دون خجل أو حياء . ولا أريد أن يفهم أنني أقف ضد الأغنياء ، إطلاقاً ... فليس كل متوسطي الحال أو المعدمين في الجهة المقابلة هم دائماً المستضعفين والمغلوبين على أمرهم ، والمنزهين عن الوقوع في الأخطاء ، أو أنهم دائماً مقهورين ومسحوقين في المجتمع ، فحتى الطبقات الفقيرة فيها من الأمراض الاجتماعية الكثير وفيها من النظرات غير الصحية للآخرين ، فبعض أفراد الطبقات الأقل حظاً ينظرون بعين الحسد لغنى البعض ، ويتعمدون في بعض الأحيان أن يهينوا الأغنياء بغير سبب إلا لكونهم أغنياء ، فهم يفترضون مسبقاً أن كل غني يستحق الهجوم أو الأذية ، كما أنهم يلجأون في بعض الأحيان إلى استغلال الأغنياء فتراهم يبيعون السلعة بسعر يتناسب مع فخامة الزبون مثلاً . ( راكب سيارة كذا خليه يدفع ) . ولكنني قد أعطي بعض الحق لتصرفات الفقراء هذه ، فلا اعتبر هذه التصرفات جريمة ولا أحملها إلا بعض معاني المكابرة ومحاولة إخفاء الشعور بقلة الحيلة ، وإتباع أسلوب " خذوهم بالصوت " إن المنظومة الاجتماعية السائدة في الوقت الحالي ، هي منظومة فاشلة ، لا تقوم على أسس العدل والمساواة بين البشر ، هذه الأسس التي تفرضها الأديان ، وتنطلق من تساوي الناس في الخلق والإنسانية ، يولد الناس سواسية ، لا فرق بين شخص وآخر ، ولكن الناس هم من يوجدون الفروق فيما بينهم ، أن يبادر الشخص بالتعالي ، وأن يسمح الآخر بأن يُعامل بهذه الطريقة، فأنا لا أستوعب أن ترضخ لأي نوع من أنواع الاستهانة بك وبمكانتك في المجتمع مهما كانت متواضعة أو بسيطة ، فلتعلم ولتؤمن أنه لا يمكن الاستغناء عنك ، وأن لك دوراً مهماً وكبيراً في المجتمع مهما كانت مهنتك ، وأن هذا الغني ( صاحب الشخصية المرموقة ) هو من بحاجة إليك ولست أنت من بحاجته . تعامل مع الجميع بالندية التي ولدت عليها ، ولا تترك مجالاً لأي كان أن يسبب لك إهانة أو انتقاصاً ، فعندما خاطب الله الناس خاطبهم جميعاً في التكليف وفي الثواب والعقاب ، فكلنا عند الله سواء ، لا فرق بين شخص وآخر إلا بعمله ، لا بماله ولا بعلمه ولا بحسبه ونسبه ولا بوظيفته . لو عمل كل إنسان من أجل الإنسانية جمعاء ، ولو كان الهدف من العمل هو المجموعة وليس الفرد بعينه ، لكانت الأمة في نهضة ، ولكان المجتمع أكثر تطوراً وازدهاراً ، ولكان أكثر مناسبة للعيش بسعادة وراحة ، عندما ترى الرضا في عيون الجميع ، فلا ترى حسداً ولا حقداً ، ولا إحساساً بالظلم ، ولا نظرة غرور أو تعال . ليست هذه النظرة للمجتمع مثالية ولا بعيدة عن التطبيق ، ولكنها بحاجة فقط للاقتناع والإيمان بها ، وأن يبدأ كل شخص بنفسه قبل أن يطالب الغير وينتقدهم على سلوكياتهم الخاطئة . لست من دعاة الاشتراكية ، ولا أنطلق في رؤيتي لتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع من أي منهج فكري ، وإنما هي فقط رؤيا نابعة من تفكير ذاتي منطقي ، يرى الأمور ويردّها إلى أصلها ، فيعزل المقبول عن غير المقنع للعقل ولفطرة الإنسان التي ولد عليها ، وتتماشى مع جوهر وظيفة الإنسان التي خلق من أجل القيام بها على هذا الكوكب . ليس غريباً إن اتفقت هذه الأفكار أو الرؤى مع أي عقيدة أو مبدأ أو نهج فكري ، إن كانت المصلحة في النهاية واحدة والهدف ذاته . فجوهر الأديان كلها يتفق ، ومبادئ الحركات الفكرية أيضاً تلتقي في بعض الجوانب مع بعضها البعض ومع غيرها من العقائد أيضاً . ليس من العيب ولا المرفوض أن يكون هناك تفاوت في المستويات بين شرائح المجتمع الواحد ، إن كان هذا التفاوت يقتصر على مستوى وطريقة الحياة ، ولكن دون أن يتعدى ذلك إلى التفاوت في مدى أحقية الإنسان في العيش بكرامة وحرية ومساواة ، كلنا في الآخر يا جماعة " ولاد تسعة . "

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير