ألأُسرة الحصن الأخير في غياب المرجعيات ؟

02.08.2019 01:34 PM

 كتب: عوض عبد الفتاح

نبّهني كتابٌ أمريكي اقتنيته، ضمن إهتمامي الخاص بالمطالعة، قبل أربعين عاماً، في بداية دراستي الجامعية  للغة وألأدب ألإنجليزي، إلى فكرة أنّ ألاسرة يُمكن أن تتفكّك بسبب تطورالتكنولوجيا و الحياة الحديثة. لقد أخافني هذا الكتاب وأقلقني وأطلق خيالي فيما ستبدو عليه حياتنا، إذ كشابٍ إبن عائلة فلاحية، ومجتمع قروي، شكلت الرابطة ألاسرية بالنسبة لي ،وبالنسبة لغيري، جزءً عضوياً في حياتي الاجتماعية والروحية والثقافية. بل كانت ألأُسرة، أي الوالد والوالدة، إضافةً إلى الجدّ والجدّة، نبع  التربية، والثقافة الوطنية، الأول، ومحرك نشاطي و فعلي السياسي المبكر، هذا فضل عن كونها نبع الحب والحنان والدفئ .


عنوان الكتاب ، The Pursuit Of Loneliness  ( البحث عن الوحدة، وعمليا العزلة)، وإسم كاتبه ، فيليب سليتر . وصادف أن جاءت عالمة إجتماع أمريكية إلى جامعة بئر السبع، لتجري بحثاً عن علاقات الطلاب العرب واليهود في الجامعات الإسرائيلية . فاستغلّيتُ الفرصة لأسألها عن حقيقة ما جاء في الكتاب، الذي يصف التحولات التي طرأت على الاسرة الامريكية، ففوجئتْ بأني قرأته ، وقالت أنه من أكثر الكتب التي التي تثير إهتمام الناس موخرآً. لم أكن بعد، مطلعاً على ما كتبه مفكرون آخرون قبل هذا الكاتب عن طبيعة النظام الرأسمالي الأمريكي، وعن ظاهرة الفردانية  (Individualism)  التي يُولدها التنافس الحر،  وعن حالة الاستغلال والاغتراب التي تحدث عنها كارل ماركس . باختصار لفت نظري في الكتاب كيف أصبح افراد الاسرة الامريكية منعزلين عن بعضهم داخل البيت. لكل طفل غرفته الخاصة ، وتلفزيونه، وجهاز الراديو، وغيرها من أدوات التسلية والاستهلاك، التي تُضعف التواصل . وكل ذلك جرى على حساب العلاقات الاسرية الحميمية . وليس بالطبع هذا إدانة للحداثة والتطور التكنولوجي والعلمي والحضاري ، انما للنظام الرأسمالي والتنافس الحر الشرس بين الشركات، والطبقات، وبين الافراد، وإدانة للجوانب القاتمة للحداثة .

ولم أتوقع أن تصلنا، نحن المجتمع الفلسطيني، إفرازات الحداثة الغربية، وتحديداً مظاهرها الاستهلاكية والانغماس في المادة، وأن تُلقي بتأثيراتها على نسجينا الاجتماعي، بعد سنوات قليلة فقط . وزاد الطين بِلّة أن الوكيل الناقل لهذه الحداثة هو المستعمر الإسرائيلي، الذي كان يواصل الاجهاز على البنية الاجتماعية الاقتصادية لمن نجا من جريمة التخطيط العرقي ، والذين بقوا في الوطن المحتل  تحت الحكم الإسرائيلي، ومواطنته الكولونيالية . فتلقينا حداثة مشوهة ممزوجة بالاسرلة وطمس الهوية، داهمتنا وفرضت نفسها في فترة قصيرة، وعبر حرق المراحل.
     
ووبموازاة النقلة النوعية في الوعي الوطني الناشئ بعد يوم الأرض، وإرتفاع مستوى المعيشة والتعليم عند فلسطينيي ال 48،  ودخول التلفزيون الى كل بيت تقريبا ابتداءً من أواخر السبعينات، بدأ بيتنا يخلو من الجلسات الاجتماعية، حيث كان الجيران وكبار السن في السابق يتجمعون يوميا تقريبا عند الوالد في المساء، حول كانون القهوة السادة  . كانت معظم بيوت القرية مفتوحة للزيارات في النهار والمساء، والناس يتسامرون ويتناولون الحديث عن الأرض والفلاحة والعمل ، وعن الاخبار السياسية التي يسمعونها من جهاز الراديو . وفي فترة قصيرة ، في غضون سنوات قليلة، تختفي هذه "الجمعات" ، وتختفي معها قيمها ، وتقاليدها ، السلبية والايجابية. ويلوذ الناس في بيوتهم، ويصبح التلفزيون جامع الاسرة ورابطها، عازلا إيّاها عن الجيران والاقرباء .

و نجحتُ في ملاحظة هذا التغير السريع، أي الالتصاق بجهاز التلفزيون بصورة مبالغ فيها، على حساب التواصل الاجتماعي والعلاقات مع الأصدقاء والاقرباء، وبالنسبة لي كان ذلك على حساب المطالعة التي كنت أعتبرها ليس فقط مصدر معرفة فحسب، بل ايضاً وسيلة تغيير ونهضة ونضال ضد الظلم  ، مسترشدا بالاية القرآنية الكريمة التي تخاطب الرسول بتعلم القراءة وطلب العلم والدعوة الى التغيير والثورة ، ومعززا ذلك بما كنت أقرأه بنهمٍ من مؤلفات النهضوي المصري سلامة موسى وغسان كنفاني وغيرهما . وكانت ردة فعلي عندما أدركت، في مرحلة معينة  افراطي في مشاهدة برامج التلفزيون، واني تخلّيتُ عن  قراءة الكتب، حكمتُ على نفسي بمقاطعة مشاهدة التلفزيون رغم سحره الذي كان يصعب مقاومته خاصة وأنه وافد جديد وفي واقع قروي تندر فيه مصادر التسلية، لأعود الى المطالعة .

لقد نجت أسرتنا المكونة من ١٢ نفر، من سلبيات هذه التحولات، ولم تتراجع العلاقات الداخلية، ويعود ذلك أساسا الى دور الوالدين ، والى انخراط الجميع في النشاط الوطني، الى المعاناة الناجمة عن ذلك. وحقيقة، حافظت الأسر العربية بصورة عامة، على علاقاتها الداخلية المتماسكة ، بعد إنحلال قيم العائلة الممتدة ، أي الحمولة، وتحولها الى مجموعات مصالح يظهر قبحها في الانتخابات المحلية . ويعود ذلك الى تزايد وعي الاسرة بأهمية توفير تعليم عالي للأولاد والبنات على حدٍ سواء، وما يترتب على ذلك من إعتماد شبه كلي على الدعم المادي من الاهل . كما أن هناك عامل اخر ، ساهم ويساهم في الحفاظ على العلاقات الاسرية ، هو عامل التربية الدينية كرادع أخلاقي عند الكثيرين . و يظل الوعي، سواء المعبر عنه بوضوح ، او الكامن، بوجود عدو مشترك( المستعمر الصهيوني ) ، عامل كامنٌ في خلفية سلوك معظمنا ، حتى اثناء انشغالنا في عملية تهيئة أبنائنا للتعليم وللتوظيف .

وفي مرحلة ما بعد يوم الأرض، تشكلت مرجعيات وطنية ودينية جديدة عابرة للحمائل والبنية القبلية. وتحققت انجازات سياسية وطنية وثقافية اجتماعية تقدمية، نوعية، تجلى ذلك من بين أمور أخرى في انخراط المزيد من الاسر وابنائها وبناتها في العمل الوطني. وشهدنا مناخا وطنيا، ينتشر، وجماعة وطنية تتشكل ملامحها كمجتمع. وأفرز هذا التطور ، بصورة تلقائية. نوع من الضبط الاجتماعي، والسلوكي والحس بالانتماء إلي ما هو اكبر من الحمولة. وتجلت ذروة الفعل الوطني الشعبي في هبة القدس والاقصى العارمة التي قمعتها إسرائيل بوحشية، مواصلةً سياسات الملاحقة والتضييق، وسن القوانين العنصرية بالجملة التي استهدفت، كلها، تقويض الوعي الوطني الذي تحقق، وتمهيد الفرصة لعودة القيادات التي تعتبرها معتدلة.

وكان يُنتظر أن تدرك القوى السياسية المركزية ، ضرورة تجسيد هذا التطور السياسي والوعي الجماعي، في مرجعية وطنية عليا جامعة، منتخبة وممأسسة، لتكون قادرة على تحقيق البناء الداخلي والاعتماد على الذات وعلى خوض نضال شعبي واستعادة الأرض و تحقيق التطور عليها ، وانتزاع الحقوق اليومية والقومية . لقد توقع التجمع الوطني الديمقراطي ، صاحب هذه الرؤية الاسترا تيجية ، منذ أوائل الالفين، انه بدون ذلك سيتحول المجتمع العربي داخل الخط الأخضر، او أجزاء كبيرة منه إلى أحياء فقر مكتظة، تُشكل تربةً خصبةً للعنف الداخلي. إن الفشل في إعتماد هذه الرؤية، وهذه الاسترتيجية، والتمركز في العمل البرلماني، أبقى المجتمع العربي مكشوفاً أمام هجمات نظام الابارتهايد الصهيوني، المتلاحقة ، والمتصاعدة في شموليتها وشراستها. ورويدا رويدا بدأ المواطن العربي يشعر بغياب المرجعية ، حزبية او تمثيلية قطرية. وهنا تنوعت ردود الفعل على هذا الغياب او الضعف للمرجعيات ، ابتداء من الابتعاد عن السياسة، الى الانشغال بالذات، إلى اللجوء إلى العنف ، الذي بات تهديداً وجودياً لنا كمجتمع . ولذلك يتصاعد الشعور بالقلق والخوف ليس على ما يمكن تحقيقه في الحاضر والمستقبل ، بل على الإنجازات الكبيرة، الجماعية والفردية،التي حققناها منذ النكبة.  

ومن انعكسات هذا الإخفاق، والتحولات العامة الجارفة، هوما نشهده في السنوات الأخيرة من جنوح شرائح متزايدة من الطبقة الوسطى، نحو الانطواء ، والعيش بعيدا عن هموم المجتمع، وتوجيه وتحضير الأبناء لاستيعابهم في سوق العمل لتحقيق النجاح الفردي، بمعزل عن الرسالة المجتمعية، فينشأ فردٌ ذو عالم خاص به متعاليا على المجتمع. ولذلك نشهد انحسارا حاداً في حجم الطبقة الوسطى التي لا تبدي اكتراثا عمليا بالشأن العام ، ويُساهم في هذا الابتعاد، انهيار المرجعيات التقليدية او الحديثة ، كالحمولة والأحزاب والحركات الوطنية، والاطر التمثيلية القطرية .  

مع ذلك يجب رؤية تطور وعيٌ جديد ينشأ عند بعض شرائح الطبقة الوسطي الاخذة في الاتساع ، يتجاوز وعي القيادات التقليدية، ولديها تصورات اكثر تقدما عن كيفية التعامل مع متطلبات الحاضر والمستقبل، وان كانت همومها الاقتصادية والحياتية تزداد، وقلقها مما تمارسه إسرائيل ضد المواطنين العرب . وهذه الشرائح، وأيضا فئات اجتماعية شعبية واسعة، تنظر بقلق شديد إلى أزمة القيادة ، وحالة الفراغ القيادي الذي يتوسع باستمرار ، دون ولادة الجديد ، بعد، من رحم القديم . ما معناه اننا سنعيش في ظل مرجعيات مهزوزة وضعيفة إلى حين، مما يفتح الباب على انحلال وطني واجتماعي قد يصعب وقفه . فهل ألأسرة، في ظل ترهل المرجعيات الأكبر،  تشكل الحصن الأخير امام مزيد من الانهيارت ؟ 

ماذا ارمي من هذا الكلام ؟

قد يكون المراد منه مثاليا، لأنه موجهٌ كمناشدة او موعظة، إلى الاسرة ، أي مناشدة الوالدين في جعل التنشئة الوطنية ، جزءً عضوياً وواعياً من عملية التربية وتنشئة الأولاد والبنات. لماذا لا تكون قصة فلسطين، منذ بدايتها مرورا بمحطاتها المختلفة ، وصولا حتى اليوم، حاضرة في البيت، ومتداولة داخل الاسرة. حدث لي في العام الماضي ان قدمت محاضرتين في مدرسة ثانوية، واحدة في ذكرى يوم الأرض، وأخرى في ذكرى النكبة. كانت المفاجئة أنه لم يعرف  سوى عدد قليل جدا من الطلاب عن هاتين المناسبتين ، وهم كانوا اما من عائلات ُمسّيسة ، او أعضاء في شبيبة بعض الاحزاب .

إن معرفة تاريخ الامة، وثقافتها، ومحطات كفاحها، ومعاناتها، والتعرف على أسباب تأخر نهوضها، هي شرط تطور الفرد، (الابن والابنة ) وبناء شخصيته، وتعزيز انسانيته ، وفرص نجاحه في الحياة، فضلا عن ك ن ذلك شرط لتطور الشعب وتحرره . إن التربية الوطنية المباشرة باتت حاجة وجودية لوجودنا القومي في ظل المحاولات المحمومة التي تتعرض لها فلسطين ، كفكرة، وتاريخ وهوية ، ورواية ، في آطار مؤامرة التصفية الامريكية الصهيونية .

يحتاج موضوع التربية الوطنية إلى اهتمام جدي، وإلى أفكار خلاقة وخطوات فعلية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير