شبابنا .. بين صقل موهبة كامنة .. أو التفرغ لمهنة تؤمن حياة كريمة

09.08.2019 07:22 AM

كتبت: اسماء سلامة

الموهبة من عطايا الله ، يهبها لمن يشاء فيميزه عن  غيره من أقرانه ، قد تكون فنية أو رياضية أو في أي مجال من المجالات ، قد تكتشف في سن مبكرة جداً من خلال الأسرة ، وقد يكون الأمر بعد ذلك من خلال المدرسة ، وقد يتأخر اكتشاف بعض المواهب لأكثر من ذلك.

وتمتع الشخص بالموهبة لا يكفي ليبدع فيها ، بل لا بد من صقلها وتنميتها وتهذيبها ، وهذا لا يحدث في ليلة وضحاها ، بل لا بد من التعب والكد لسنوات لتصل إلى المستوى الاحترافي المطلوب ، وكلما تعبت من أجلها كانت النتيجة أكثر روعة وإبهاراً .  ومن الطبيعي أن تنمية هذه المواهب يحتاج إلى الدعم المالي على جانب تفريغ الوقت الكافي ، وهو الأمر الذي يحول في مجتمعنا الفلسطيني دون تنمية ما يتمتع به أبناؤنا من مواهب كامنة ، لا تقل أهمية عن أكثر المواهب إبداعاً في العالم.

قد نجد في بعض المدن وليس جميعها بعض المراكز التي تعنى بتنمية المواهب ، كتعليم الرسم والعزف على بعض الآلات الموسيقية ، أو التدريب على بعض الرياضيات ، ولكنا لا تعد كافية على الإطلاق ، إذ أن باقي المدن والقرى والمخيمات تفتقد لمثل هذه المراكز ، الأمر الذي يعتبر إجحافاً بحق هذه المناطق وأبنائها ممن يتمتعون بالمواهب ولا يجدون من ينفض الغبار عنها ، ويطلق لها العنان.

أبناؤنا لا يقلون براعة ولا إبداعاً عن نظرائهم في باقي الدول ، عربية أو أجنبية ، لدينا الطاقات والمواهب ، ولكننا نفتقر للإمكانيات لاكتشافها وتبنيها . ناهيك عن نظرة المجتمع للموهبة على أنا مضيعة للوقت و ( ما بتطعمي خبز ) . هذه المقولة التي تقف حاجزاً كبيراً بين تطوير الشخص لموهبته ، ومواظبته على تنميتها والعمل على إبرازها وإظهارها كما يليق بها ، إن الشخص الموهوب في أي مجال من المجالات ، يجد نفسه في موهبته فهي تشبع شغفه ، وتجعله يشعر بالتميز والتفرد عن غيره ، كما أنها في بعض الأحيان تكون غذاء لروحه ومتنفساً له من كل الضغوطات التي تواجهه في حياته ، وعند سن معين تبدأ الحيرة عند هذا الشخص ، فهو يقع بين أمرين : إما أن يبذل قصارى جهده من أجل موهبته ، فيعطيها كل ما يلزم من وقت وجهد ومال ، أن يعطيها الجزء الذي تستحق من حياته ، وأن يراهن عليها كوسيلة للترفيه مثلاً وطريقاً للتميز والإبداع ورما أن تكون مهنته المستقبلية أيضاً التي قد يعتاش منها.

وإما أن يتخلى عن هذه الموهبة في سبيل الحصول على عمل يوفر له ما يحتاجه من أجل حياة كريمة ، أن يتزوج ويبني بيتاً وعائلة ، وفي هذه الحالة سيتخلى عن تنمية موهبته ، لأن العمل سيكون له الأولوية في الوقت ، وبعد العمل سيكون التعب قد أنهك قواه والمشاكل ستأخذ جزءاً كبيراً من تفكيره وتركيزه ، فلا يعود هناك ذلك الجو المناسب لممارسة هوايته أو تنمية موهبته ، فتركن على الرف ويبدأ الغبار بطمس معالمها ، حتى تصبح في طي النسيان.

وبعد مرور الأعوام ، والمشي مع التيار وروتين الحياة ( عمل ، بيت ، عائلة ، ضغوطات ، ومشاكل وصعوبات ) ، يصل الإنسان إلى العمر الذي يجلس فيه مع نفسه بكل صدق ، ويتساءل : ماذا صنعت في حياتي وماذا أنجزت ، ماذا كنت وماذا أصبحت ، ويتذكر أنه وفي وقت مضى كانت له هواية كذا أو موهبة كذا ، يشعر بالحنين إلى تلك الأيام ، ماذا ( لو) تعبت عليها وصبرت وراهنت ؟؟ أكان الوضع سيكون مختلفاً ( أفضل ، أم أسوأ) ، لن يجد إجابة على هذا السؤال أبداً ، لأنه وبكل بساطة لن يقدر أن يعيد الزمن إلى الوراء ، ولا أن يغير الواقع.

ما يعيشه شبابنا هو حالة غير واضحة الرؤيا ، لا للحاضر ولا للمستقبل ، لا نجيد التخطيط لأن لا أرضية قوية نبني عليها خططنا . قد يلجأ البعض إلى الرحيل ( الهجرة ) في سبيل إيجاد الجو المناسب لأحلامهم ، لتكون احتمالية تحقيقها أكثر ، يراهنون على ذلك بدل من التسليم بالواقع الحالي الذي لن يكون فيه أي أمل في تحقيق هذا الحلم ، يغامرون ، إما أن تصيب وإما أن تخيب ، ولكن بنظرهم أن شرف المحاولة عظيم .  وقد ينتظر البعض فرصة يأتي بها الحظ إليهم تحقق لهم أحلامهم وتجعل من خيالهم واقعاً . أما الغالبية فيسلمون بالأمر الواقع ، ويختارون المشي مع التيار ، هذا هو واقعنا وسنعيشه كما هو ، يضعون أحلامهم في صندوق ويغلقون عليه ، فتصبح حياتهم مجرد عمل يومي غاية في الرتابة وتصبح الأيام كلها متشابهة شكلاً ومضموناً.

إن كوننا آخر شعب مازال يرزح تحت الاحتلال لا يعني أن ننظر إلى تنمية مواهبنا على أنه أم كمالي يمكن الاستغناء عنه ، أو أنه عيب ولا يجوز في ظل وضعنا ، ولا أنه يجب الانصراف عنه لأمور يعتبرها البعض ( أهم) وأن من يهتم بموهبته يعتبر إنساناً منصرفاً عن القضية والنضال وأنه ( فاضي أشغال ) ، ولا بد لنا في هذا السياق أن نتذكر بعض الأشخاص الذين ناضلوا بمواهبهم وكان لها أكبر الأثر في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني ، كالشهيد ناجي العلي مثلاً ، ومحمود درويش ، وغسان كنفاني ، ولا ننسى التأثير القوي للأغاني الوطنية التي كانت تشحذ الهمم كفرقة العاشقين مثلاً . إن هذه الأمثلة كفيلة بإثبات أن الموهبة لا تصرف الإنسان عن قضاياه ومجتمعه وهموم شعبه ، بل أنه يمكن توظيفها لخدمة ذلك كله.

أتساءل فعلاً : لو كان لي بنتاً أو ابناً ، لاحظت أنه يجيد الرسم مثلاً ، ماذا سأفعل ؟؟ هل سأرسله أو أرسلها إلى معهد لتعليم الرسم ؟ ثم ماذا ؟ ألن يصبح طبيباً ؟ ألن تصبح مهندسة ؟؟ كيف سيعيشون ، من أين سيكون دخلهم ، أين سيبيعون لوحاتهم أو أعمالهم الفنية ، هل سيجدون فعلاً من يتذوق هذه التحف الفنية التي يضعون فيها جزءاً من روحهم ؟ هل هو فعلاً مستقبلهم أن يصبحوا مدرسين لمادة التربية الفنية في المدارس مثلاً ، في ظل النظرة المعروفة لهذه المادة على جدول الحصص ، يتم التبرع بها لباقي المواد لضمان ختم المنهاج.

أجزم أنني لن أقف مع الرأي الذي يدعم باتجاه إيجاد الوظيفة التي تؤمن راتباً أو دخلاً شهرياً ثابتاً ، ولن أحاول أن أبعد أولادي عن مواهبهم ، ربما ليس التفرغ لها بشكل تام والابتعاد عن تأمين المستقبل ، بل تشجيعهم على تفريغ وقت بشكل دائم لأي موهبة أو هواية يجدون فيها أنفسهم وراحتهم ، لتكون المتنفس لهم من كل ما سيجابهون من ضغوطات الحياة ومتاعبها ، المواهب هي نعمة الله التي أعطيت للبعض ، لا بد من احترامها واستغلالها والحفاظ عليها ، وإن عوملت بما يليق بها ستكون يوماً إلى جانب صاحبها ، لن تخذله ولن تتخلى عنه.

إن حباك الله بموهبة ، يكفيك أن تشعر بالتميز ، وأن لديك قدرة خاصة إما على نقل مشاعرك بكتابة قصيدة أو موضوع ، فتنقل القارئ إلى عوالم أخرى ، أو أن تضع جمال الطبيعة في لوحة ، أو أن تصنع فأصابعك نغماً يغذي روح من يستمع له ، أو أن تمارس رياضة تعلمك ضبط النفس والصبر ... كل المواهب لها آثار سحرية على من يمارسها ومن يشاهدها . نشعر بكل هذه الأحاسيس عندما نشاهد موهبة على التلفاز أو على أحدى وسائل التواصل الاجتماعي ، فنصفق فرحاً وتعجباً وانبهاراً ، لم لا نتخيل أن أحد أبنائنا هو ذلك المبدع الذي يخطف الأبصار والقلوب بأدائه لأي موهبة ، لنثق بمواهب أبنائنا ونحاول تنميتها ، فليست قدراتهم أقل من نظرائهم في العالم ، بل إن ما نوفره لهم هو الأقل ويكاد يصل للعدم ، وهذه الرسالة موجهة لكل ولي أمر ولوزارتي الشباب والرياضة ، والثقافة والفنون أيضاً .  نحن المقصرون ... فلنساهم في إطلاق العنان لهذه المواهب الكامنة .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير