مذبحة القُضاة بين الماضي والحاضر

09.08.2019 09:05 PM

 كتب د. عصام عابدين: حشدت السلطة الحاكمة في مصر قوتها لاكتساح انتخابات نادي قضاة مصر في آذار/مارس 1969 من خلال سطوة وزير العدل ونفوذه، وخاضت انتخابات النادي التي جرت بذلك الوقت من خلال قائمة عُرفت باسم "مرشحي السلطة" تضم أسماء معروفة، واستُخدِمت قوة ونفوذ وإمكانيات الدولة في تلك الانتخابات بالغة الأهمية، ومع كل ذلك لم ينجح أحد من مرشحي السلطة ورموزها الخمسة عشر في انتخابات نادي القضاة آنذاك، وجاءت نتائجها كالصاعقة على النظام.

بتاريخ 31 آب/أغسطس 1969، وهو موعد الحركة القضائية في مصر، وفيه يكون مجلس الأمة في إجازة، جاء الهجوم الشامل من النظام الحاكم على القضاء عبر ما عُرف في ذلك الوقت بــ"مذبحة القُضاة" من خلال خمسة قرارات بقانون: 1. إنشاء محكمة عليا تطورت فيما بعد إلى المحكمة الدستورية العليا 2. إنشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية 3. إعادة تشكيل الهيئات القضائية (مَن لا يجد اسمه من القضاة يعني أنه أُحيل للتقاعد أو نُقل إلى وظيفة أخرى) 4. حل نادي قضاة مصر وتعيين لجنة جديدة لإدارته 5. إعطاء رئيس الجمهورية سلطة التعيين والنقل بقرار جمهوري.

كان عاماً فاصلاً، في تاريخ القضاء المصري، عُزِل فيه نحو (200) قاضياً وأَطلق عليه قضاة مصر تسمية عام "مذبحة القُضاة" للدلالة على هول ما جرى في 31 آب/أغسطس عام 1969، وكان من بينهم المستشار ممتاز نصّار الذي كان آنذاك رئيساً مُنتخباً لنادي قضاة مصر منذ عام 1962 حتى وقوع مذبحة القضاة عام 1969 وقد تبنى المستشار نصّار موقف الدفاع بقوة عن العدالة والقضاء واستقلاله في مواجهة تغوّل السلطة الحاكمة على القضاء ونادي قضاة مصر.

المفارقة، في ذلك الوقت، لم تقتصر فقط على عدم فوز أيّ اسم من الأسماء اللامعة التي طرحها النظام الحاكم من خلال قائمة "مرشحي السلطة" في انتخابات نادي قضاة مصر آنذاك، وإنما أيضاً في أن وزير العدل محمد أبو نصير الذي كان مسؤولاً عن التخطيط والتنفيذ لمذبحة القضاة صدر قرار بإقالته من الوزارة وتعيين وزير عدل جديد وضع اسمه على القرارات التي كان من المفترض أن يُتوجها باسمه، وأتت الرياح بما لا تشتهي سُفن أبو نصير وزير مذبحة القضاة.

استطاع سكرتير نادي قضاة مصر في ذلك الوقت، المستشار يحيى الرفاعي، رغم كلّ الصعوبات والعراقيل التي وضعتها السلطة الحاكمة في طريقه، ومطاردة كل مَن يتعامل معه، أن يطبع طعنه القضائي أمام محكمة النقض، كونه متضرر من تلك القرارات بقانون، وأن يُقدمه في اليوم الأخير من الثلاثين يوماً التي حددها القانون للطعن القضائي، وطالب بإلغاء تلك القرارات بقانون التي صدرت عن رئيس الجمهورية لأنها مشوبة بعيب اغتصاب السلطة وتنحدر إلى مرتبة الانعدام، ولأنه لا يحق لها أن تُعيد تنظيم السلطة القضائية أو السلطة التشريعية بذريعة صفة الاستعجال والضرورة وغياب مجلس الشعب، ولأن تلك القرارات بقانون تتعلق بمبدأ دستوري (الفصل بين السلطات) ولا تحمل صفة الاستعجال والضرورة وإنما يجب صدورها على شكل قوانين وعن طريق السلطة التشريعية احتراماً للمبادىء الدستورية.

قَبِلت محكمة النقض المصرية، الطعن المقدم من المستشار يحيى الرفاعي، خريج كلية الحقوق من جامعة الاسكندرية ومن أهم رموز استقلال القضاء والملقب بـــ"الضمير الثائر" لدفاعه المستمر عن الحقوق والحريات ومواقفه الثابتة، وقد لعب دوراً بارزاً في مواجهة تغوّل النظام الحاكم على السلطة القضائية، وحكمت محكمة النقض المصرية بعد ثلاث سنوات بانعدام تلك القرارات بقانون، وعاد المستشار يحيى الرفاعي إلى القضاء من جديد، وتدرّج في القضاء المصري وشغل منصب نائب رئيس محكمة النقض المصرية، ورئيساً لنادي قضاة مصر بين عامي 1986 و 1991 ثم جرى اختياره رئيساً شرفياً للنادي مدى الحياة، إلى أن توفي رحمه الله يوم الأحد 11 نيسان/أبريل 2010 بعد صراع طويل مع المرض. 

ما أشبه اليوم بالأمس، تعددت الأسباب، ومذبحة القُضاة، واحدة، وقد تجلّت بصدور القرارين بقانون في الحالة الفلسطينية في الشأن القضائي بتاريخ 15/7/2019 بتعديل قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002 الذي أقره المجلس التشريعي الفلسطيني وتشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي، ونشرهما في اليوم التالي مباشرة في الجريدة الرسمية، وما ترتب عليهما من آثار وخيمة طالت السلطة القضائية وشؤون العدالة بإحالة ربع عدد القضاة إلى التقاعد وما تحمله في طياتها من عقوبات بحق قضاة شرفاء نذروا حياتهم دفاعاً عن سيادة القانون والعدالة، وصكوك غفران لقضاة فاسدين أُحيلوا للتقاعد بدل التحقيق والسجن، وانفراد الرئيس بصلاحية تعيين أعضاء المجلس الانتقالي والتمديد لهم بل ومنح المتقاعدين في تشكيلة المجلس الانتقالي مكافآت شهرية غير محددة وبقرار رئاسي، ومنح المجلس الانتقالي صلاحيات هائلة على السلطة القضائية دون ضوابط أو معايير، وتمييز بين القضاة المتقاعدين والمجلس القضائي الانتقالي، وتجاهل قطاع غزة وتجاهل المحكمة الدستورية العليا من كل ما يجري، وحرمان المجتمع من حقه في إصلاح السلطات العامة، في انتهاك صارخ لسيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء ومرتكزات الحكم الصالح.

إن التصدع الخطير والمستمر في النظام السياسي الفلسطيني، وغياب السلطات العامة، وتفرّد السلطة التنفيذية غير المسبوق بالقرار، الذي تجلى في عشرات القرارات بقانون بما يشمل رزمة القوانين القضائية والموازنات العامة التي صدرت خلافاً لإرادة مُشرّعنا الدستوري وأحكام القانون، وآخرها القرارات بقانون والمراسيم والقرارات الرئاسية التي صدرت مؤخراً في الشأن القضائي، وما أعقبها من تصريحات وأداء صادم لرئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، وجلوسه على مِنصة الحُكم وهو قاض متقاعد بقوة الدستور والقانون، وتصريحاته غير اللائقة وغير المسؤولة والتي تستوجب الإعتذار  التي وجهها من خلال وسائل الإعلام للسادة القضاة مُنتهكاً حقهم الأصيل في التعبير عن آرائهم بحرية المكفول في قانوننا الأساسي والمعايير الدولية، وتصريحاته المشابهة وغير اللائقة بشأن مهنة المحاماة ورسالتها السامية، تتطلب من الجميع أن يتحمل مسؤولياته الأخلاقية والوطنية والدستورية في مواجهة كل ما يجري بالإصرار على رفع الصوت عالياً وبقوة لإعلاء سيادة القانون والمبادىء والقيم الدستورية، وليس الاكتفاء بالصمت أو التواطؤ أحياناً في محطات فاصلة.

أَتفقُ مع شهادة حية، عكست تجربة غنية للقاضي الأردني السابق المحامي الأستاذ فاروق الكيلاني، وجاءت في مُولَّفه استقلال القضاء، ضمن إنتاج فكري غزير من دراسات وأبحاث منشورة له، عندما قال "إن استقلال القضاء كقيمة اجتماعية وقانونية لم يلقَ حظاً من الاحترام، وأصبح خرق هذا الاستقلال غير مقتصر على التدخل الذي يتم من قبل السلطتين التنفيذية والتشريعية، بل أصبح يتم من قبل إدارة القضاء نفسها ومن جماعات تمارس ضغطاً على القضاء على نحو بات يهدد العدالة بأفدح الأخطار". أَتفقُ مع أفكار الكيلاني، التي لم تخلوا من أَلم ومرارة ظاهرة بين سطور الكلمات من وحي تجربة عملية، عندما قال "ولعلَّ أكثر الأسباب التي تؤدي للثورات هي فساد القضاء وفقدانه لاستقلاله، إذ عندما يفسد القضاء ويصبح خاضعاً للتأثير يفسد كل شيء، فالحريات تُصبح لا قيمة لها والظلم ينتشر وأساليب القمع والإرهاب تطغى على الشرعية والقانون، وحقوق الناس تكون في مهب الريح. ولمَّا كانت العدالة بالنسبة للشعوب هي مسألة حياة أو موت فإذا افتقدت العدالة كان لا مفرّ من الثورة للقضاء على الظلم ودكِّ قواعده.

لا أرى بيئة جادة للإصلاح، في الحالة الفلسطينية، ولا يُتصور الإصلاح في غياب سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، ولا على أَنقاض القانون الأساسي وإرادة مُشرّعنا الدستوري، وتدهور حالة حقوق الإنسان وغياب المحاسبة والعدالة والإنصاف، وغياب الشفافية والنزاهة ومنظومة الحكم الصالح، وأرى أن الاستجابة لرغبات السلطة التنفيذية وأعوانها في معادلة رديئة كهذه جريٌ وراء سراب ودورانٌ في حلقات مُفرغة وسعيٌ لتأبيد هذا الحال الرديء، وقطعٌ للطريق على دور المجتمع والإرادة الشعبية في إصلاح النظام السياسي والسلطات العامة، لا أرى إصلاحاً ولا أرى مشروعاً وطنياً يتجاهل غزة، هذا وهمٌ وتلك خطيئة كبرى، الإصلاح والعدالة الناجزة كلٌ لا يتجزأ، ولا يُتصور على أنقاض السلطتين التشريعية والقضائية، ولا يُتصور الإصلاح بوجود محكمة دستورية ترى نفسها فوق قانوننا الأساسي وإرادة المشرّع الدستوري، والإصلاح لا يأتي عبر خداع الناس وتجاهل أساس الخلل البنيوي المزمن في القضاء ودور السلطة التنفيذية وأجهزتها وأعوانها والإدارات القضائية المتعاقبة في مُستنقع التردي الحاصل في القضاء ومنظومة العدالة.    

لكني لستُ مُتشائماً، رغم بؤس الحال، ويقيني، أن الجيل الفلسطيني الشاب الذي يُمثل الشريحة الأوسع في المجتمع الفلسطيني الفَتي، الذي عانى طويلاً من التهميش والحرمان، ومعهم العديد من الأحرار من أبناء هذا الوطن الغالي، قادرون على وقف حالة التفرّد والتغوّل غير المسبوق على السلطة والقرار وشؤون العدالة، وأرى أهمية وضرورة إجراء مشاورات مجتمعية جادة في الضفة الغربية وقطاع غزة وتشمل الفلسطينيين إينما وُجدوا لتقرير مصيرهم ومستقبلهم وإصلاح نظامهم السياسي وفي مقدمته إصلاح وتوحيد القضاء ومنظومة العدالة، ضمن سقف زمني محدد وعمل جماعي مُنظم ومثابر وأدوات ضغط ومناصرة خَلّاقة أَساسها سيادة القانون وإرادة مُشرّعنا الدستوري والاتفاقيات والمعايير الدولية، لإجبار السلطة التنفيذية على الامتثال للإصلاح وإجراء الانتخابات العامة كحق دستوري وصيانة الحقوق،  انطلاقاً مِن أن إصلاح النظام السياسي ومنظومة العدالة حقٌ أصيلٌ للمجتمع والإرادة الشعبية مصدر كلّ السلطات.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير