قرار رئيس المجلس الانتقالي بتشكيل المحكمة العليا منعدم لانتهاكه القانون الأساسي

23.08.2019 10:17 PM

كتب د. عصام عابدين

قرر رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، تشكيل المحكمة العليا الفلسطينية، بموجب قرار صدر عنه بالرقم (466/2019) بشأن تشكيل المحكمة العليا، وقد ورد فيه الآتي "المستشار/ عيسى أبو شرار، رئيس المحكمة العليا رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، بعد الاطلاع على قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 وتعديلاته، وقانون تشكيل المحاكم النظامية وتعديلاته، وبناءً على ما أقره مجلس القضاء الأعلى في جلسته رقم (14) لسنة 2019 المنعقدة بتاريخ 21/8/2019، واستناداً للصلاحيات المخولة لنا قانوناً، أُقرر، تشكيل المحكمة العليا على النحو التالي ...".

من الضروري، التذكير، بداية، أن كلمة "وتعديلاته" الواردة إلى جانب قانون السلطة القضائية الذي أقره المجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2002 تعني قرار بقانون تعديل قانون السلطة القضائية وقرار بقانون تشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي اللذين صدرا عن الرئيس بتاريخ 15/7/2019 ونشرا في اليوم التالي في الجريدة الرسمية، خلافاً لأحكام القانون الأساسي، وإرادة المشرّع الدستوري، وسيادة القانون، وأحكام القضاء، ومبادىء الشفافية والحكم الصالح.

ومن الضروري، التذكير ، أيضاً، أن صلاحيات مجلس القضاء الأعلى الانتقالي الحالي واردة في القرارين بقانون على نحو واسع وفضفاض، دون ضوابط أو معايير، ومن بينها؛ إعداد "مشاريع" معدلة لقانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002 ورزمة القوانين القضائية وإعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى "الدائم" قبل انتهاء ولاية مجلس القضاء الأعلى الانتقالي ومدتها سنة قابلة للتمديد ستة أشهر، بتنسيب من المجلس الانتقالي لنفسه، وقرار رئاسي يصدر عن الرئيس.

ولأن الشيء بالشيئ يُذكر، وأصلُ الشيء فرعُ تصوره، فقد أكدنا في مقال سابق بعنوان "مذبحة القضاة بين الماضي والحاضر" على موقف تاريخي للمستشار يحيى الرفاعي رحمه الله في العام 1969 الذي سُمي وقتئذ بعام "مذبحة القضاة" في مصر بفعل الاعتداء الصارخ الذي شنه النظام الحاكم في ذلك الوقت على السلطة القضائية ونادي قضاة مصر بقرارات بقوانين استهدفت تعديلات واسعة في السلطة القضائية عبر إنشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية وإنشاء المحكمة العليا وإعادة تشكيل الهيئات القضائية وحل نادي قضاة مصر ومنح رئيس الجمهورية سلطة تعيين ونقل القضاة بقرار جمهوري، وقد تمكن المستشار الرفاعي من تقديم طعن قضائي أمام محكمة النقض المصرية وطالب بإلغاء تلك القرارات بقانون التي صدرت عن رئيس الجمهورية؛ لأنها مشوبة بعيب اغتصاب السلطة، وتنحدر إلى مرتبة الانعدام، ولأنه لا يحق لها أن تُعيد تنظيم السلطة القضائية أو السلطة التشريعية بذريعة صفة الاستعجال والضرورة وغياب مجلس الشعب، ولأن تلك القرارات بقانون تتعلق بمبدأ دستوري (الفصل بين السلطات) ولا تحمل صفة الاستعجال والضرورة وإنما يجب صدورها على شكل قوانين عن طريق السلطة التشريعية احتراماً للمبادىء الدستورية، وقد حكمت محكمة النقض المصرية بعد ثلاث سنوات من تاريخ تقديم الطعن القضائي بانعدام تلك القرارات بقانون.

ما يثير الاهتمام، أن مجلس القضاء الأعلى الانتقالي يعقد جلساته، ولا تُنشر القرارات الصادرة عن المجلس بتلك الجلسات، للعلن، في خضم حديث يدور عن الإصلاح القضائي، رغم أن هذا الإجراء مخالفٌ لقرار مجلس القضاء الأعلى رقم (2) لسنة 2006 بشأن قواعد مباشرة مجلس القضاء الأعلى لاختصاصاته المنشور في الوقائع الفلسطينية في العدد السابع والستين في تشرين الأول/أكتوبر عام 2006 في عهد رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي الحالي عندما كان رئيساً للمحكمة العليا ومجلس القضاء الأعلى الدائم في ذلك الوقت، حيث تنص المادة (7) من القرار المذكور على أن "مداولات المجلس سرية، وتصدر قراراته بلا تسبيب ما لم يقرر المجلس خلاف ذلك". والأمر يعني، بوضوح، أن السرية تقتصر على المداولات فقط، بينما جميع القرارات الصادرة بنتيجة المداولات تكون علنية، ما لم يقرر المجلس خلاف ذلك، ما يعني إمّا أن المجلس قد خالف القرار المذكور لأنه لم ينشر جميع القرارات الصادرة عنه، أو أنه اتخذ قرارات بأن تكون قراراته سريه وهذا مخالفٌ لمتطلبات الشفافية والرقابة المجتمعية والحديث - اضمحل فيما يبدو- عن الإصلاح القضائي.

واللافت في الأمر، أنه رغم أن الإصلاح القضائي والرقابة المجتمعية على أداء المجلس الانتقالي يتطلب بالضرورة اعتماد "مبدأ الشفافية والاجتماعات المفتوحة" في جلسات المجلس الانتقالي ومداولاته وقراراته، بما يحقق رقابة فاعلة للمجتمع على أداء المجلس، وهذا ما عانت منه مجالس القضاء الأعلى السابقة (الإدارات القضائية) التي انتهجت السرية للهروب من الرقابة المجتمعية، فإننا نجد أن المجلس الانتقالي الحالي يسير على ذات النهج القائم على السرية، ولم يقم لغاية الآن بتعديل القرار الصادر عن مجلس القضاء الأعلى في العام 2006 بما يجعل اجتماعات المجلس علنية تأكيداً على التزامه بمبادىء النزاهة والشفافية، وتأكيداً على الالتزام بنظام نزاهة وطني، وفضّل الاستمرار بالسير على نهج السرية القائم.

ورغم أن المادة (39) من قانون السلطة القضائية تنص على أنه "وفقاً لأحكام القانون يتولى رئيس مجلس القضاء الأعلى متابعة تنفيذ قراراته، كما ينوب عنه في صلاته بالغير ويمثله أمام القضاء". إلاّ أننا نُلاحظ أن رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي قد تجاوز حدود الصلاحيات القانونية لرئيس المجلس التي تنصب على "متابعة تنفيذ قرارات المجلس" من خلال قراره رقم (466/2019) بشأن تشكيل المحكمة العليا، عندما بدأ الأسانيد القانونية الواردة في مطلع القرار المذكور على نحو غير مألوف بالقول "المستشار عيسى أبو شرار رئيس المحكمة العليا رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي بعد الاطلاع على قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 وتعديلاته وقانون تشكيل المحاكم النظامية وتعديلاته... أُقرر تشكيل المحكمة العليا على النحو التالي ...". وهو أسلوب، يُحاكي فيه رئيس المجلس الانتقالي، فيما يبدو، النهج المتبع في القرارات بقانون الصادرة عن رئيس السلطة الفلسطينية، ودون أن يَلحظ أن الباب الثالث من القانون الأساسي قد ورد تحت عنوان "رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية" فيما ورد الباب السادس من القانون الأساسي تحت عنوان "السلطة القضائية" كمؤسسة قضائية وتناولت نصوصه الدستورية قانون السلطة القضائية ومجلس القضاء الأعلى، ولم تأتِ على ذكر رئيسه، وهي رسالة واضحة من مُشرعنا الدستوري بأهمية التكوين والبناء المؤسسي في السلطة القضائية. كما أنه تجاوز أيضاً أحكام قانون تشكيل المحاكم النظامية الذي ينيط في المادة (28) تنظيم أعمال المحكمة العليا وتقسيمها إلى دوائر متخصصة بمجلس القضاء الأعلى، ولا ينيطها برئيس مجلس قضاء أعلى انتقالي وخلافاً للدستور والقانون.

ورغم أن القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019 قد حمل عنوان تشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي، ومنح المجلس صلاحيات من بينها إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى "الدائم" قبل انتهاء ولايته، إلاّ أننا نُلاحظ أن مطلع قرار رئيس المجلس الانتقالي بتشكيل المحكمة العليا يشير بأنه جاء بناءً على ما أقره "مجلس القضاء الأعلى" وليس بناءً على ما أقره "مجلس القضاء الأعلى الانتقالي" بما يوحي، وكأننا أمام مجلس قضاء أعلى دائم، وليس مجلس قضاء انتقالي.

كما أن رئيس المحكمة العليا (محكمة النقض ومحكمة العدل العليا) الوارد في القرار المذكور رقم (466/2019) لا يحمل صفة قاض، بتأكيد، القانون الأساسي المعدل، وقانون السلطة القضائية، والقرارات بقانون التي صدرت مؤخراً في الشأن القضائي، وذلك لأن سن التقاعد الذي كان وارداً في قانون السلطة القضائية لسنة 2002 هو (70) سنة وقد جرى تعديله بموجب قرار بقانون تعديل قانون السلطة القضائية إلى (60) سنة، وحيث أن رئيس المحكمة العليا الوارد في قرار تشكيلها قد تجاوز - مع الاحترام- سن (80) سنة، وحيث أن بعض أعضاء المحكمة العليا الواردين في قرار تشكيلها قد تجاوزوا سن التقاعد، وحيث أن قرار تشكيل المحكمة العليا الصادر عن رئيس المجلس الانتقالي قد تجاوز أحكام القانون الأساسي وقانون السلطة القضائية، فإننا، والحالة تلك، نكون أمام انتهاكات دستورية (إرادة المشرّع الدستوري) وقانونية مؤكدة، تُرتب انعدام قرار تشكيل المحكمة العليا، لاعتدائه المؤكد على القانون الأساسي، وفي شأن يتعلق بالنظام العام.

هذا مع التذكير، بالقرار الذي اتخذته محكمة العدل العليا التي ترأس رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي هيئتها الصادر بتاريخ 5/8/2019 في الطلب المستعجل والدفع المُثار برفع الجلسة إلى يوم الأربعاء 18/9/2019 والذي كان يقتضي من مُترئس الهيئة القضائية المذكورة، التنحي في مواجهة دفع جدّي مُثار، وأنَّ التاريخ المحدد للجلسة القادمة كفيلٌ بحد ذاته بأن يُفقِد صفة الاستعجال مغزاها وقيمتها، لأنها تتعلق بمسائل يُخشى عليها من فوات الوقت، وتهدف لحماية الحقوق من الأخطار التي تتهددها، وتفترض وجود ضرر مُحدق لا يمكن تدارك آثاره حال وقوعه. وأنه يحظر قانوناً على رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي أن يُمارس أية صلاحية أناطها قانون السلطة القضائية وغيره من التشريعات برئيس المحكمة العليا، لأن الأخير قاض، ورئيس المجلس الانتقالي ليس قاضياً؛ وذلك من قبيل دور رئيس المحكمة العليا في الدعوى التأديبية التي تُقام على القضاة بموجب قانون السلطة القضائية مثلاً، ما يعني أنَّ أيَّ صلاحية يُمارسها رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، كرئيس للمحكمة العليا، أو كقاض، تُرتب الانعدام لمخالفتها القانون الأساسي المعدل.

وفي ضوء التصريحات الإعلامية، المقلقة، التي صدرت عن رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، بشأن حرية التعبير للقضاة والتلويح بالإحالة على التفتيش القضائي، التي انتهكت حق القضاة في التعبير عن آرائهم بحرية المكفول في القانون الأساسي المعدل، وانتهكت الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي انضمت إليها دولة فلسطين بدون تحفظات ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وانتهكت المبادىء والمعايير الدولية ذات الصلة، فإنه من الضروري أن نُشير  إلى قرار مجلس القضاء الأعلى رقم (4) لسنة 2006 بلائحة التفتيش القضائي المنشور في الوقائع الفلسطينية في العدد السابع والستين في تشرين الأول/ أكتوبر 2006؛ الذي صدر أيضاً في عهد رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي الحالي عندما كان رئيساً للمحكمة العليا ومجلس القضاء الأعلى الدائم، فقد ورد في القرار المذكور، من بين أمور أخرى، تعريف "تقييم الأداء" في المادة الأولى (التعريفات) جاء على النحو التالي "فحص أداء القاضي، وأي أعمال أخرى يضطلع بها بقصد معرفة كفاءته القضائية، والقانونية، ومقدرته في الأداء، كمّاً وكيفاً، وانضباطه بالسلوك وانتظامه في العمل". وبالتالي، فإن التعريف المذكور، لا يتسق وتلويح رئيس المجلس الانتقالي، في وسائل الإعلام، بالإحالة للتفتيش القضائي.

وبمناسبة الحديث عن لائحة التفتيش القضائي 2006، التي صدرت في عهد رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي الحالي عندما كان يشغل منصب رئيس المحكمة العليا رئيس مجلس القضاء الأعلى عام 2006، فإنه من الضروري الإشارة، من بين أمور أخرى، إلى ما ورد في نص المادة (13) فقرة (1) من اللائحة المذكورة التي نصت على أن "تقدم الشكوى ضد القاضي من ذي المصلحة إلى الرئيس الذي يحيلها إلى رئيس الدائرة ". أي، أن الشكاوى ضد القضاة، ينبغي أن تقدم إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى (ممر إجباري) وهو مَن يقوم بإحالتها إلى رئيس دائرة التفتيش القضائي. وقد منح هذا النص، المخالف لقانون السلطة القضائية، رؤساء مجالس القضاء الأعلى المتعاقبين، مجالاً واسعاً، للتحكم بالشكاوى المقدمة ضد القضاء، وشكل بيئة خصبة لتضارب المصالح، والتحكم في الشكاوى، التي تُرسل، أو لا تُرسل، من رئيس المجلس للتفتيش القضائي، والواضح، أن هذا النص، سيء الصيت، بقي على حاله، في الإدارات القضائية المتعاقبة، وما زال.

هناك حاجة لمراجعة اللوائح التي صدرت في العام 2006 في عهد رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي الحالي عندما كان يشغل منصب رئيس المحكمة العليا رئيس مجلس القضاء الأعلى في ذلك الوقت، وما زالت سارية حتى كتابة هذا المقال، لأنها لعبت دوراً كبيراً في اجهاض البناء والتكوين المؤسسي للمجالس القضائية المتعاقبة على حساب الاجتهاد الشخصي لرؤساء المجالس، وساهمت في تآزر السلطة التنفيذية وأجهزتها مع الإدارات القضائية لانتهاك استقلال القضاء.

وهناك حاجة للتذكير بالقرار بقانون رقم (2) لسنة 2006 بشأن تعديل قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002 الذي صدر عن الرئيس ونُشر في الوقائع الفلسطينية في شباط/ فبراير 2006 الذي كاد، إلى جانب مشاريع قوانين طالت الشأن القضائي، في ذلك الوقت، أن يُطيح بالسلطة القضائية، ومن بين أمور أخرى، فقد كان القرار بقانون يحتوي على نصوص شكلت انتهاكات صارخة للقانون الأساسي وقانون السلطة القضائية تتيح إمكانية عزل القضاة والاستغناء عن خدماتهم وتنزيل درجاتهم والإحالة على الاستيداع، وتسري على النيابة العامة، وكان القرار بقانون المذكور ينص صراحة على أن يتولى رئيس المحكمة العليا سلطات الوزير ووكيل الوزارة المنصوص عليها في القوانين واللوائح بالنسبة للعاملين في المحاكم، وأن يضع مجلس القضاء الأعلى اللوائح التنفيذية، ويصادق عليها الرئيس، وتنشر في الجريدة الرسمية.

لكن، المجلس التشريعي الفلسطيني، تمكّن من إلغاء القرار بقانون المذكور علماً أن "التشريعي" كان يترنّح في ذلك الوقت قبل أن يغيب بعد ذلك عن المشهد. أجل، تمكن "التشريعي" من صدّ هذا التغول على السلطة القضائية ونجح في ذلك، ومن ثم جرى تغييبه إلى أن أجهزت عليه محكمة دستورية غير دستورية بقرار تفسيري غير دستوري. وبذلك، قررت السلطة التشريعية، وهي تحتضر، بقاء السلطة القضائية والقضاة وأعضاء النيابة العامة تحت حماية القانون الأساسي وقانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002 انطلاقاً من مسؤوليتها الدستورية في حماية النظام السياسي الفلسطيني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير