حلقة مفرغة من تدمير الذات البشرية: تعاظم الانبعاثات.. تفاقم الأحوال الجوية المتطرفة.. ارتفاع الطلب على الطاقة وارتفاع إضافي في الانبعاثات

18.09.2019 12:30 PM

وطن- جورج كرزم

يعد شهر حزيران الماضي أكثر سخونة بمقدار 0.9 درجة مئوية بالمقارنة مع شهر حزيران 2016 الذي ضرب آنذاك رقما قياسيا بسخونته (في المستوى العالمي).  كما أن شهر تموز الأخير أكثر سخونة بقليل من حزيران الذي سبقه؛ علما أن متوسط الحرارة (عالمياً) في تموز زاد بمقدار 0.95 درجة مئوية بالمقارنة مع متوسط الحرارة في القرن العشرين وهو 15.8 درجة مئوية.

اتجاهات التسخين العالمي سجلت هذه السنة مستويات قياسية جديدة؛ فحسب القياسات، تميز شهرا حزيران وتموز باعتبارهما الأكثر سخونة في التاريخ، قياساً بالأشهر المماثلة السابقة.

وفي التفاصيل، أعلنت الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي، في أواخر تموز الماضي، بأن متوسط درجة الحرارة في شهر حزيران الماضي بلغ 15.9 درجة مئوية، أي أعلى بمقدار 0.9 درجة من المتوسط الحراري خلال القرن العشرين؛ علما أن حزيران هذه السنة، بحسب توثيق التاريخ المناخي، أكثر سخونة من حزيران 2016 الذي اعتبر الأكثر سخونة منذ عام 1880.  كما أن شهر تموز الماضي هو الأكثر حرا منذ عام 1880.  وقد توصلت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) ومنظمات أخرى إلى نتائج مشابهة.
درجات الحرارة القياسية سجلت بشكل رئيسي في أوروبا، وكذلك في روسيا وإفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية.  ففي فرنسا سجل شهر حزيران الماضي رقما قياسياً باعتباره الأكثر سخونة في تاريخها.  علماء وخبراء المناخ يجمعون على أن الكرة الأرضية تعاني من درجات حرارة غير مسبوقة بسبب التغيرات المناخية، و"الحبل على الجرار" كما يقال بتعبيرنا الشعبي.

وفي المستوى الفلسطيني، نشرت مؤخرا الدورية العلمية: International Journal of Climatology نتائج بحث جديد أشار إلى أن اتجاه الاحترار يتواصل في فلسطين منذ العقود السبعة الأخيرة، وقد ازداد شدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة تحديدا.  وبالتوازي، يوجد اتجاه واضح في هبوط كمية المتساقطات، ويكون هذا الهبوط واضحا بشكل أساسي إثر ألأحداث المناخية القليلة المتطرفة.  ارتكزت معطيات البحث على تحليل أحوال الطقس المتطرفة التي تم قياسها من حيث درجات الحرارة وكميات الأمطار في مختلف الأنحاء الفلسطينية.

أظهر البحث أيضًا بأنه خلال العقود الثلاثة الماضية، حدثت زيادة كبيرة في عدد فترات الحرارة المرتفعة، وتحديدا، حينما تكون درجة الحرارة القصوى، خلال ستة أيام متتالية على الأقل، في نطاق درجات الحرارة المرتفعة لتلك السنة. فخلال العقود الثلاثة الماضية، ازداد عدد هذه الفترات بمقدار ثمانية أيام  للعقد الواحد، وذلك بالمقارنة مع عددها بين عامي 1961 و1990.

كما طرأ ارتفاع بنسبة 7٪ في حالات الليالي الحارة بشكل خاص، وانخفاض في عدد الليالي الباردة الاستثنائية. وباستثناء خمس سنوات، كان الشتاء خلال العقود الثلاثة الماضية أكثر سخونة من المتوسط االسنوي للفترة بين عامي 1961 و1990.  الزيادة في عدد الليالي الحارة بشكل خاص تسببت بحدوث إجهاد حراري أثر أيضًا بشكل كبير على استهلاك الطاقة ونمو المحاصيل الزراعية.
وأشار البحث إلى حدوث انخفاض في عدد الأيام التي سُجلت فيها كمية متساقطات بارتفاع عشرة مليمترات أو أكثر.   ومن الناحية المكانية، استنتج البحث بأنه في العقود الأخيرة ازداد الإجهاد الحراري في المنطقة الساحلية الفلسطينية خلال ساعات الليل تحديدا، بينما في المناطق الجبلية ازداد الإجهاد الحراري بشكل رئيسي خلال فترة الظهيرة.

وانسجاما مع البحث السابق، تابعت مجلة آفاق البيئة والتنمية الحالة المناخية التي ميزت شهر تموز الماضي؛ فتبين أن الطقس الخماسيني اللاذع بحرارته المتطرفة والذي ساد في السابع عشر من تموز الماضي جميع أنحاء فلسطين، بلغ ذروته الحرارية في المناطق الجنوبية، حيث سجلت درجة حرارة بمقدار 49.9 درجة مئوية. وبحسب مسح التاريخ المناخي في فلسطين، تعدُّ هذه أعلى درجة حرارة تم قياسها منذ نحو سبعين عاما، والثانية (الأكثر سخونة) منذ بدء القياسات في فلسطين في عشرينيات القرن العشرين؛ علما أن درجة الحرارة الأكثر سخونة التي تم قياسها في فلسطين بلغت 54 درجة، وذلك في حزيران 1942 في الأغوار شمالية.

أجواء خماسينية متطرفة
المسح المناخي لمجلة آفاق البيئة أفاد بأن درجات الحرارة المتطرفة تم قياسها أيضا في الماضي البعيد، إلا أن تسجيل ارتفاعات قياسية في درجات الحرارة المطلقة خلال السنوات الأخيرة، يعكس حقيقة أن الاحترار العالمي لا يؤثر فقط على متوسط درجات الحرارة، ولكن أيضًا على قيم درجات الحرارة المتطرفة.

وبالرغم من صعوبة ربط حدث منعزل بتغير المناخ، إلا أنه وفقًا لأفضل التقديرات فإن الاحترار سيتواصل، ومن المتوقع حدوث ارتفاع في عدد موجات الحرارة المتطرفة، وبروز احتمالية أعلى لتسجيل مستويات قياسية جديدة في درجات الحرارة الإضافية.
مصدر الحرارة الشديدة هو منخفض خماسيني غير مألوف لشهر تموز الماضي، أصاب جميع أنحاء البلاد، حيث سجلت في الأغوار ووادي عربة درجات حرارة وصلت ما بين 43-46 درجة مئوية، بينما في مناطق جنوبية أخرى وصلت إلى 48.5 درجة مئوية.  الموجة الخماسينية في شهر تموز سجلت 42-40 درجة مئوية في السهل الساحلي والأراضي المنخفضة والنقب الشمالي والوديان الشمالية؛ 43-42 درجة في وسط النقب، 39-37 درجة في الشريط الساحلي، و34 إلى 36 درجة في المناطق الجبلية.  وكانت درجات الحرارة المرتفعة مصحوبة بجفاف شديد مع رطوبة نسبية تراوحت بين 10٪ و 25٪ في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك الشريط الساحلي.

درجات الحرارة الموثقة في السهل الساحلي والأراضي المنخفضة تعد قياسية لشهر تموز، محطمة الرقم القياسي السابق بمقدار درجة ونصف مئوية.  بل حتى في النقب الشمالي تم تسجيل أعلى المستويات لشهر تموز.  الأجواء الخماسينية المتطرفة من هذا النوع في ذروة فصل الصيف غير مألوفة  في السهل الساحلي والأراضي المنخفضة.  وغالبا، خلال شهري تموز-آب، عندما تسود في الجبال وفي المناطق الداخلية ظروف خماسينية حارة، ، تسود في ذات الوقت، في الشريط الساحلي والمناطق المنخفضة، أحوال جوية قائظة (حارة ورطبة) تؤدي إلى اعتدال طفيف في درجات الحرارة المرتفعة.  إلا أنه خلال الموجات الحرارية في شهر تموز الماضي، وصل الجفاف والحرارة الشديدة إلى السهل الساحلي والمناطق المنخفضة.
الأحوال الخماسينية المتطرفة في ذروة أشهر الصيف في السهل الساحلي تحديدا، كانت تحدث في الماضي كل 5-10 سنوات، بينما في العقد الأخير أصبحت تحدث بتردد أكبر، وتحديدا مرة كل سنتين-ثلاث.

أكبر زيادة في الانبعاثات منذ عام 2011
سجل عام 2018 ارتفاعا في انبعاثات غازات الدفيئة، رغم المساعي العالمية لتقليل الانبعاثات.  وبحسب التقرير السنوي لشركة النفط البريطانية (BP/ بريتيش بتروليوم) حدثت خلال السنة المنصرمة أكبر قفزة في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي، وذلك منذ بداية العقد الحالي.  إلا أن معدي التقرير أشاروا إلى وجود قفزة أيضا في إنتاج الطاقات المتجددة، كما أن القطاع الأخير توسع بسرعة أكبر بكثير من إنتاج الطاقة القائمة على الوقود الأحفوري (النفط، الفحم والغاز).

وفقًا للتقرير الذي يعد المسح الأكثر شمولًا لقطاع الطاقة العالمي، أطلقت البشرية خلال عام 2018 غازات دفيئة إلى الغلاف الجوي، بزيادة مقدارها 2٪ مقارنة بعام 2017، وبخاصة الكربون؛ وفي المقابل، استهلكت طاقة أكثر بنسبة 2.9٪.  كما سجلت زيادة قدرها 645 مليون طن في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.  وخلال عام 2018 بلغ إجمالي الانبعاثات 33,685 مليون طن؛ ما يعتبر أكبر زيادة في انبعاثات غازات الدفيئة منذ عام 2011.

معظم الزيادة في الطلب على الطاقة سجلت في الهند والصين والولايات المتحدة.  ومن بين أمور أخرى، تعزى الزيادة في الانبعاثات إلى سببين أساسيين:  السبب الأول هو ارتفاع مستوى المعيشة في آسيا وربط منازل كثيرة بالكهرباء. أما السبب الثاني فيتعلق بأزمة المناخ التي تولد ظواهر جوية متطرفة، وبخاصة الأجواء الساخنة أو الباردة جدا، ما يتسبب في تعاظم استهلاك الطاقة للتبريد أو التدفئة.

ونقلت صحيفة "الجاردين" البريطانية عن سبنسر ديل كبير الاقتصاديين في شركة بريتيش بتروليوم قوله إن الزيادة في الانبعاثات تعادل زيادة مقدارها 400 مليون سيارة إضافية- بمحرك احتراق داخلي- في شوارع العالم.  وقال إن الظواهر الجوية المتطرفة تزيد الطلب وتشكل دوامة لا متناهية.  وبحسب ديل، في حال وجود صلة بين الزيادة في الانبعاثات والحوادث الجوية خلال عام 2018، فهذا يعزز احتمال حدوث الحلقة المفرغة:  زيادة الانبعاثات تؤدي إلى أحوال جوية متطرفة تتسبب بدورها في ارتفاع الطلب على الطاقة وبالتالي حدوث ارتفاع في كمية الانبعاثات.

تميّز العام المنصرم بحدوث زيادة في الانبعاثات، رغم التزام معظم بلدان العالم بخفض انبعاثاتها لتلبية الأهداف المحددة في مؤتمر باريس للمناخ (2015) والتي أعيد تثبيتها العام الماضي.  وقد جاء ذلك على خلفية حركة احتجاج عالمية اكتسبت زخماً في الأشهر الأخيرة، تطالب باتخاذ إجراءات صارمة لوقف انبعاثات غازات الدفيئة وبالتالي مواجهة أزمة المناخ.  والمفارقة أن هذه الضغوط موجهة أيضًا إلى شركة بريتيش بتروليوم (معدة التقرير) ومنافسيها في مجال الغاز والنفط؛ علما أن شركة بريتيش بتروليوم وافقت في بداية السنة الحالية على تحديد أهداف لخفض انبعاثاتها والمضي قدماً في تحقيق أهداف مؤتمر باريس للمناخ؛ لكن الناشطين يقولون بأن الشركة ينبغي أن تفعل المزيد.

ورغم ذلك، تضمن تقرير بريتيش بتروليوم نقطة مضيئة أيضًا، وذلك فيما يتعلق بتطوير قطاع الطاقة المتجددة: الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، الطاقة الكهرومائية والكتلة الحيوية.  فخلال العام الماضي ارتفع إنتاج الطاقة المتجددة في جميع أنحاء العالم بنسبة 14.5٪.  الصين تحديدا تعد من رواد العالم في مجال إنتاج الطاقة المتجددة، ونمو الطاقة الخضراء فيها خلال عام 2018 أكبر من مثيله في جميع دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

الجدير بالذكر أن الأمم المتحدة نشرت، منذ نحو ستة أشهر، تقرير المناخ الذي أكد بأنه لم يبق سوى 12 عامًا لوقف أزمة المناخ من خلال إحداث خفض كبير في الانبعاثات (بحلول عام 2030).  وفي غياب هذا الخفض سيرتفع متوسط درجة الحرارة العالمية بأكثر من درجتين مئويتين، وستلحق أضرارا مدمرة بالكرة الأرضية والبشر والنظم الإيكولوجية.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير