مشروع قيس سعيد وفضيلة الاخلاق

18.10.2019 08:32 AM

كتب: عوض عبد الفتاح

موقفه من فلسطين والاستبداد

كان من الممكن جدا أنّ تفرز الانتفاضات العربية، في كل دولة، قيس سعيد. كان من الممكن أن لا تفيض الدماء بحوراً، وكان ممكنا ان يحظى المواطن العربي المقهور، من المحيط الى الخليج ، بما فيه العربي الفلسطيني، بحق إختيار حاكمه، حاكماً رحيماً، متواضعا، ويتمتع بصفات إنسانية، لا بهيمية.

 قبل الانتخابات التونسية للرئاسة، كانت الأنظار مشدودة الى تجدد الربيع العربي في بلدين عربيين عزيزين، السودان والجزائر، (ومؤخراً العراق). وكانت، ولاتزال، الآمال تتجدد، والروح تنتشي، بعودة الأمل ونبض الحياة ، وإنبعاث لفعل السياسي الشعبي، في مواجهة وحوش الفساد والمافيويات الحاكمة ، واذا بتونس تضيف لنا املاً على امل .

كان كل ذلك ممكنا، وأن يدخل العرب الى التاريخ مجدداً، وتصبح ثوراتهم أنموذجاً ملهماً للشعوب المقهورة، في مختلف أنحاء العالم، لو أن الطغاة واعوانهم، في الداخل والخارج، استجابوا لصرخات أبناء وبنات اوطانهم، ولو انّ الخارج؛ الغربي والشرقي ، والعربي الرجعي، لم يعبث بهذه الثورات الجبارة، ويعرقل مسارها الحتمي، بوحشية خيالية .

الاحتفاء بالأستاذ الجامعي، قيس سعيد بفوزه الكاسح، لرئاسة دولة تونس، ليس احتفاء في الأساس بشخصه، وان كان يمثل نموذجًا لمثقف وسياسي جديد مثير للإعجاب، بقدر ما هو احتفاءً برمزية الحدث؛ بترسخ التجربة التونسية الديمقراطية، وصمودها في وجه الرياح العاتية، في وجه محاولات الغرب ، وحلف الثورة المضادة العربي، لقتلها و وأدها. وهو ايضاً تجسيدٌ للأفق الرحب الذي يفتحه هذا الفوز، وهذه التجربة الرائدة ، لعموم الامة العربية، المتعطشة للحرية والديمقراطية والتنمية والحياة الآمنة، الكريمة.

قال البعض عنه، قبل الدورة الأولى للانتخابات، انّه ظاهرة صوتية، وانه لن يصمد أمام ماكنات الاعلام، الضخمة، للمنظومة السياسية التي أدارت الدولة بعد الانتفاضة التونسية، وأعتقدت فرنسا الرسمية، بتحريضها عليه، بانه “خطر داهم يمثل الإسلام الأصولي” كما صرح بعض كبار الإعلاميين الفرنسيين ستُبعد الشعب التونسي عنه ، فكانت دعايةً لصالحه بدل ان تكونَ ضده.

 وهو بالفعل حيّر الباحثين والمراقبين بفوزه، فهو أستاذ جامعي خاض الانتخابات بدون حزب، ولم يكن نجما إعلاميا، أي انه لم يكن ظهوره في الاعلام كبيراً. وفقط في الآونة الأخيرة بدأنا، كعرب، نتعرف على،خصال ومميزات هذا الشخص، وعلى اسباب انتصاره . فعرفنا، ممن عرفوه عن كثب، وخاصة طلابه، بأنه مثقف، متزهدٌ عن أدران السياسة ( الفاسدة ) ومتعففا، ويتواصل مع الناس مباشرة في المقاهي والأحياء الشعبية، ويمثل قيم ومبادئ الثورة التونسية. وكتب عنه بعض المثقفين من دول المغرب العربي ، بأنه مثقفاً ربط بين المعرفة والسياسة، وبين الجامعة والمجتمع، وبين النخبة وقضايا والمجتمع، وأوصل اللامنتمين للأحزاب السياسة بالعملية الانتخابية ، ناخبين ومنتخبين . إنه أعاد الربط بين الاخلاق والسياسة ، وهذا درس تربوي للأجيال الجديدة التي تشهد تهتك السياسيين أخلاقيا.

 ليس بالضرورة ان يتفق المرء مع كل ما يحمله، قيس سعيد، من أفكار وتصورات، وبالتأكيد هناك أمور إشكالية في بعض توجهاته، وأن المصوتين الذين دعموه في المرحلة الأولى ، ينتمون الى توجهات من اليمين واليسار، فضلا عن عموم الناس غير الحاملين لايٍ توجهٍ ايدلوجي سوى مطلب الحرية والعدالة الاجتماعية. كما أن القوى المنظمة ، من أحزاب وحركات  التي دعمته في المرحلة الثانية ضد المرشح الاخر، نبيل القروي، أيضا تنتمي الى توجهات ايدلوجية مختلفة ، إسلامية ويسارية وليبرالية ولم يمنعها ذلك من التصويت له . كما أن طريقه لن تكون سهلة، بل تنتظره تحديات ومخاطر وضغوط، خارجية وداخلية . في كل الأحوال ، إنّ فوز شخصية بهذه الخصال والتوجهات الفكرية والسياسية، وفِي هذه الشروط يشكل مدماكاً قوياً في التجربة التونسية ، وترسخاً لمشروع الثورة.
             
 تجريم التطبيع والاستبداد

احتفى الفلسطينيون، ليس نظام او نخبة أوسلو بالطبع، بفوز قيس سعيد ، بصورة مضاعفة عن الشعوب العربية وقواها الديمقراطية، الأخرى. وذلك لكونه أعلن انحيازه القاطع والواضح والمبدئي، لقضية فلسطين، وتحديداً بسبب تخوينه لعملية التطبيع . وبالفعل كان المشهد مؤثرًا، وهو يعبر، خاصة بعد فوزه، بصورة مجلجلة عن هذا الموقف العروبي القوي، حيث تمنى أن يكون أنصاره جلبوا العلم الفلسطيني ليرفرف فوقه وهو يعلن النصر . وهو بذلك ألقى صخرة في مستنقع التطبيع الذي يعمل حلف الثورة المضادة الدنس، السعودي الإماراتي ، على تحويله الى تحالف وتنسيق امني وثيق،علني ووقح، بصورة لم يسبق لها مثيل منذ بدء مرحلة الهزائم، والانحطاط العربي. وهذا الموقف الحازم، من شأنه أن يشجع ويعزز الهيئات واللجان الشعبية المناهضة للتطبيع ، مثل تلك التي تشكلت داخل دولة قطر مؤخراً، وغيرها، ودول خليجية أخرى، للضغط على الحكومات والحكام لوقف التطبيع مع المستعمَر الصهيوني  بكل اشكاله، ومنها الرياضية ايضاً .

 لكن ليس هذا الجانب الوحيد الذي يجب أن يُفرح الشعب الفلسطينني، بل كون الفائز برئاسة دولة عربية، على خلاف حكام آخرين الذين استبدوا وبطشًوا بشعوبهم، يمثل قيم الثورة التونسية المجيدة، وانه لا يستخدم قضية فلسطين كشعار يسعى من ورائه لزيادة الشعبية، او لاستعماله أداة في القمع والبطش، وتكريس سلطة استبدادية، مافيوية . إن الغضب الشعبي العربي العارم الذي تفجر قبل ثمانية أعوام، عرى أصحاب الشعارات الكبيرة عن فلسطين ومحاربة الإمبريالية، وأظهرت حقيقتهم، كجبناء امام العدو المستعمر، ووحوشاً كاسرة تجاه شعوبهم . لقد عبرت الشعوب، من خلال ثوراتها المجيدة ، وملحمتها الأسطورية، عن كشفها لهذا التضليل والخداع  الذي تراكم على مدار عشرات السنين، كما كشفت حجم المعاناة والبؤس الذي تعيشه في ظل أنظمة مجرمة متوحشة .

شعبنا الفلسطيني لا يعيش الانقسام الداخلي الكارثي فحسب، بل أيضا يعيش، وعلى مستوى الأحزاب والفصائل ، اليسارية والقومية والإسلامية ، وعلى مستوى العائلة الواحدة ، انقساما في الموقف من الثورات العربية، بين مؤيد للاستبداد ومؤيد للديمقراطية وحرية الفرد . هذا مافعلته بنا أنظمة الاستبداد، من تخريب وهدم أخلاقي وسياسي واجتماعي ، وهو تخريب لا تزال اثارها مستمره .

إن الفلسطيني، كصاحب قضية عادلة ، قضية تحرر انساني ووطني من استبداد استعماري، يتوجب عليه فهم و تمثّل ، معادلة الربط بين تحرير فلسطين وإسقاط الاستبداد الداخلي، كما عليه أن يرى حق التونسي ، واليمني ، والسوري ، والسعودي ، وغيره بالحياة الديمقراطية، والحريّة ، والعيش الكريم ، مثلما يرى في حقه في التحرر من الاستعمار ، ومن النخبة الفاسدة التي تحكمه .

هذا ما يشكل،عادة،  المنظومة الأخلاقية المتسقة عند أصحاب قضية التحرر الوطني، الذين ينشدون الحياة الحرة والعدالة ، والعيش الإنساني، ولا يعيشون حالة انفصام أخلاقي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير