منال من جبل الزيتون...عاشقة التصاميم وسيدة التدوير

06.11.2019 02:39 PM

وطن- كتبت: ربى عنبتاوي

في بيت قديم بجبل الزيتون شرقي القدس، وعلى بعد أمتارٍ قليلة من أشهر وأبرز كنيسة في جبل الزيتون "البرج الروسي"، تقطن سيدة أربعينية جمعت (القرش على القرش) حيث صنعت الحلوى وعملت بالتعليم، وصنعت الدمى والأشغال اليدوية، تعلّمت الخياطة، ومن ثم تصميم الأزياء، وانتهجت منذ صغرها مبدأ "إعادة تدوير كل ما يمكن تدويره" وبخاصة الأقمشة، فأصبحت أشهر سيدة في القدس تصمم الفساتين والأثواب التراثية من خامات مستعملة.

"منال أبو اسبيتان" الأم لثلاثة أبناء تتحدث مع "مجلة آفاق البيئة والتنمية" بابتسامة دائمة تشي عن روح مرحة، وتعبّر عن مسيرتها بفخر عبر فيديو لفتاة تزوجت مؤخراً وقد ارتدت في حفل حنائها فساتين من تصميم منال. تخبرنا منال بأن زبائنها أصبحن كُثرٌ، ويأتينها من القدس وحتى أميركا، طالباتٍ شراء أو استئجار الأثواب التي تصممّها بلمسات تجمع بين التراث والعصرية.
تعلّمت منال دبلوم تصميم الأزياء في معهد دير اللاتين في بيت ساحور عام 2010، وذلك بعد تخرج أبنائها من المدرسة، حيث قرّرت السعي وراء شغفها (القديم الجديد) وهو فن تصميم الملابس، فكانت البداية نحو عالم الاحتراف، وانطلاق أفكار جديدة في التصميم القائمة على مبدأ "إعادة التدوير".

وجع الوطن...وتحدي صعوبة العيش
تزوجت منال عام 1987 بسن صغير ( 17 عاماً)، وتغربت في المملكة العربية السعودية حيث كان زوجها يعمل مندوبَ مبيعات للأزياء. تقول عن تلك الفترة القصيرة جدا: "تعلمت فن طهوِ الحلويات من صديقاتي السوريات واللبنانيات، الصنعة التي فادتني لاحقا في توفير دخلٍ للبيت".

وتذكرُ لنا بعضاً من ذاكرة الغربة: "كنت اجلس في بيتي بالسعودية، وأشاهد نشرة الأخبار باللغة الانجليزية وإذا بصورة أخي رياض الصغير وكان صبياً بالـ15 من عمره يعتقل ويشدُّ بعنف إلى سيارة الشرطة، كان وقع الصدمة كبيراً علي، وقررت أن أكون سفيرةً لبلدي في حينه أحدثهم في أوقات كثيرة عن فلسطين والقدس،  وفي ذات الوقت أجمع تبرعات من أهل الخير ومغتربي فلسطين لإعانة أسر الأسرى والجرحى".
في قلب منال غصّة، حيث فقد أخوها الأكبر غير الشقيق إحدى عينيه في الانتفاضة الأولى ما جعلها على تماس مع نضال وكفاح شعبها.

وسادة "زهر اللوز"
لا تنسى منال قصة قالتها لها والدتها عن جدتها "زهر اللوز" وذلك خلال نكبة عام 1948، فأثناء رحلة اللجوء من يافا إلى رام الله والذي أصبح لاحقا مخيم الجلزون، أخذت جدتها وسادة قماشية طولية (جنبية) كانت مليئة بملابس أبنائها الشتوية والصيفية، حيث وضعتها على حمار اشتراهُ لها زوجها مقابل بيع مسدسه ليريحها نظراً لكونها حامل، وكانت جدة منال كما كثيرٌ من اللاجئين، تعتقد أن الحرب قصيرة وسيرجع النازحون إلى بيوتهم، الأمر الذي طال وتعقّد، ما سبب حزناً شديداً لجدتها وجعلها تفارق الحياة مبكراً في أوائل الثلاثين.

تروي منال أن تلك الوسادة المليئة بالملابس التي عكست عادة الأجداد في السابق من حيث رفض إلقاء أي قطعة  ملابس، بل حِفظها للأخوة أو للأقارب كلٌ حسب حجمه، كانت بمثابة إنقاذ لأمها وأشقائها من برد رام الله حين طالت مدة بقائهم في المخيم وأصبح امراً واقعاً.
"تعلمتُ من هذه القصة الإدارة السليمة وتوفير القرش الأبيض لليوم الأسود، والأهم أن كل شيء قابل للتدوير والاستخدام، وان لم تظهر قيمته في الحاضر فستظهر مستقبلاً" تقول منال.

من "خرابة" إلى مسكن جميل
بعد اغتراب قصير جداً عادت منال لأرض الوطن عام 1990، وقررت السكن في بيت عائلة زوجها القديم في بلدة جبل الزيتون، والذي كان عبارة عن غرفة واحدة بمساحة 60 متراً مربعاً. تقول منال وهي ترتشف القهوة: "كان حال البيت يُرثى له فالبلاط قديم ومتشقق، والبيت بلا تشطيبات بسيطة، والحمام تالف، والسقف كثير الرطوبة والتعفن، ظروف قاسية أجبرتني على تدبر أموري والتفكير بطرق توفير دخل بسيط لأُعين به زوجي المتعثر في عمله (كان يعمل في السياحة)، وأعلّم أطفالي في مدارس خاصة".

في البيت القديم الذي كان يفتقر أيضا للماء والكهرباء، كانت رحلة التحول "الصعبة الممتعة" بالنسبة لمنال من بيت مهجور إلى آخر مفعم بالحياة، كانت تنظر لكل أثاث قديم تلقيه حماتها على انه كنز يصلح للاستخدام، فأخذت منها مطبخاً قديماً، ستائر...وغيرها. وكانت تفصل بين الغرف بخزائن، وصبرت على هذا الحال حتى جددت كل البيت وغيرت الأرضية والمطبخ وقسّمت المنزل بالطوب، واستغلت السطوح المدببة لبيوت الجيران لعمل ساحة مستوية من خلال استخدام أخشاب كان مصيرها الإتلاف، وحين كبرَ أطفالها؛ وضعت سلماً في مدخل البيت وأسست لغرف علوية لأبنائها، ما جعلهم يعيشون حياة مريحة مع متسعٍ للخصوصية.

ولتوفير شراء ملابس إضافية لأطفالها كانت منال تتفنن في التدوير، فتحول بنطالاً لابنتها إلى تنورة، ومن بلوزة إلى دمية قماشية أو فستان. وللمنزل تحوّل الشراشف القديمة إلى أغطية موائد، وقناني العصير إلى مصابيح، ومن فرش أرائك إلى وسائد...وهكذا كانت منال تستمتع بفن إعادة التدوير وترى فيه مساحة للإبداع، ومتنفساً من مسؤوليات البيت وتدريس الأطفال.

"عملتُ في مدرسة قريبة كمعلمة بديلة للمعلمات الغائبات، كانت فرصة بسيطة لتوفير مبلغ بسيط لي من المال، كما عملت في صناعة الكعك والحلويات البيتية، وكنت أبيع أعمالا فنية كالسراميك والدمى من مواد معاد تدويرها، وبرعت في صنع وسائل تعليمية من خامات الكرتون". تقول منال التي كانت سعيدة بمبلغ بسيط جداً تتلقاه من خلال عملها في المدارس.

القناعة كنز
علّمت أم منال ابنتها "معنى القناعة" حيث نصحتها بأن تكون حكيمة وترضى بالموجود وتقارن دائما وضعها بآخرين أسوأ منها حتى تقنع، وشددت عليها بأن تكون زوجة وفيّة تساند زوجها في أحلك الظروف، وهذا ما جرى فعلياً حيث ساندت منال زوجها في مصروف البيت وعلّمت أبناءها في مدرسة الإبراهيمية التي تعد من أهم مدارس القدس.
"القرش على القرش" كان نهج منال، وفعلا حلّت البركة وجاء الفرج بعد صبرٍ طويل، حيث أصبح لديها مدخرٌ جيد من المال بنَت من خلاله ثلاثة طوابق فوق بيتها لتوفر مساكن مُلك لإبنيها وابنتها بعد الزواج لتريحهم من كلفة الإيجار العالية في القدس المحتلة، كما اشترت بيتاً في بيت ساحور وحولته لمشغل للخياطة.

الاحتراف
كانت ماكنة خياطة بـ 20 ديناراً هدية من أم منال لابنتها، بداية احتراف الخياطة، ومن ثم وبصدفة بحتة سمعت عن معهد في بيت ساحور لتصميم الأزياء تابع للمصمم هاني مراد، فترددت في البداية لأنها اعتبرت سنها كبيراً بعض الشيء، لكن ابنتها فاطمة هي من أقنعها بالتسجيل، وفعلاً بدأت التعلم في عام 2010 وتخرجت بعد عامين، وخلال التعليم اكتسبت الكثير من الخبرات في الخياطة والتصميم، وكان مشروع تخرجها وكان مستوحىً من تصاميم الغابة الأفضل على مستوى مشاريع الخريجين.
تبحث منال عن المواد الخام التي تعيد تدويرها من حسبة رام الله حيث تجد فلاحاتٍ يعرضن أثوابهن القديمة للبيع فتشتريها منهن بمبالغ زهيدة، كما تستقبل في مشغلها في بيت ساحور سيدات يقدمن لها فساتين قديمة، وتذهب لمصانع قماش وجلود وتأخذ مخلفات غير صالحة للاستخدام لتشكل منها فستانا أو مفرشا أو أغطية أو حقائب ..الخ.

"ما يميز أعمالي أني خرجت عن التقليدي، فلا أصمم ذات شكل الثوب القديم بل آخذ عروقه وجوهره وأعيد تصميمه على ثوب عصري، لذلك تستهوي تصاميمي الشابات الباحثات عن لمسات عصرية في الملابس".
تفخر منال التي عملت ثلاثة معارض لعرض أزيائها في أعوام 2014، 2016، 2018 في القدس ورام الله، بتصميم الثوب العثماني الأول في فلسطين، كما تتفنن في وضع أبيات من الشعر من قصائد شقيقتها الشاعرة رانيا أبو اسبيتان على الفساتين والأثواب. قوبلت معارض منال بحفاوة كبيرة من الجمهور والإعلام.

التدبير المنزلي للطالبات
حب منال للرسم والأشغال اليدوية والفن عموماً يعود إلى معلمتها في مدرسة دار الطفل "باسمة الحسيني" التي كانت شديدة على الطالبات ومصرّة على تعلمهن مهارات الخياطة والتطريز والحياكة في مساق التدبير المنزلي، ما خلق، وفق منال، أجيالا قادرة على الاعتماد على نفسها من خلال حرفة ما، عكس جيل اليوم الاتكالي والذي يفضل الجاهز على المصنوع بجهده وتعبه.
"أنا شخصيا افرح وأشعر بقيمة أكبر للعمل الذي صنعته بيدي، أدمنت تلك السعادة النابعة من بين أناملي" تقول منال وهي تشير إلى وسائد وستائر ومفارش في منزلها أعادت تدويرها، ما أكسب منزلها دفئاً ما أو كما قالت قريبة لها قادمة من أميركا: Your house is cozy
تكره منال في قريتها المكتظة والصاخبة "جبل الزيتون" حجم الاستهلاك الكبير الملوّث للبيئة، والتسبب بالأذى للممتلكات العامة والمتنزهات، والتبول في الشوارع وإلقاء النفايات على الأرض، مشيرة إلى أن نظافة البيت من الخارج تدل على نظافته من الداخل، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ورقي.
تختم منال حديثها وهي تطعم قطط الحيّ بعضاً من اللحوم: "وراء كل رجل عظيم امرأة صبورة وقنوعة، فالقناعة كنز، وكنزي كان إعادة التدوير".

انتهجت منال أبو اسبيتان منذ صغرها مبدأ "إعادة تدوير كل ما يمكن تدويره" وبخاصة الأقمشة، فأصبحت أشهر سيدة في القدس تصمم الفساتين والأثواب التراثية من خامات مستعملة.
"منال أبو اسبيتان" الأم لثلاثة أبناء تتحدث مع "مجلة آفاق البيئة والتنمية" بابتسامة دائمة تشي عن روح مرحة، وتعبّر عن مسيرتها بفخر عبر فيديو لفتاة تزوجت مؤخراً وقد ارتدت في حفل حنائها فساتين من تصميم منال. تخبرنا منال بأن زبائنها أصبحن كُثرٌ، ويأتينها من القدس وحتى أميركا، طالباتٍ شراء أو استئجار الأثواب التي تصممّها بلمسات تجمع بين التراث والعصرية.
تعلّمت منال دبلوم تصميم الأزياء في معهد دير اللاتين في بيت ساحور، وذلك بعد تخرج أبنائها من المدرسة، حيث قرّرت السعي وراء شغفها (القديم الجديد) وهو فن تصميم الملابس، فكانت البداية نحو عالم الاحتراف، وانطلاق أفكار جديدة في التصميم القائمة على مبدأ "إعادة التدوير".

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير