دروس هزيمة الثورة العرابية .. ما تزال حيّة ..! بقلم : أحمد عز الدين

28.09.2011 09:37 PM

هذا شعب قدّر له أن يشّع في الدنيا من حوله على امتداد التاريخ ، أمواجا من اليقظة والمعرفة والإدراك ، فقد ظلّت الظواهر التي يشكلها كالصلصال بأصابعه الخشنة ، قادرة على أن تقفز الأسوار ، وتتخطى الحدود ، وتغمر الشطآن البعيدة ، ولهذا ظل صعوده وهبوطه ترمومترا للتحوّل والتغيّر في أنماط الصراع ، وموازين القوى في البيئتين الإقليمية والدولية ، وكما كانت ثوراته عصيّة على التنبؤ ، تخرج من باطن الأرض دون مقدمات ، كما تخرج الزلازل ، كانت عصيّة على الهزيمة وإن انكسرت ، ولهذا كانت محاولات حصارها ، وفرض الهزيمة عليها ضارية ، تتم بالقوة المسلحة من الخارج أحيانا ، وبالقوة المضادة من الداخل أحيانا ، وبالقوتين غالبا . 

وكما ابتنى هذا الشعب ، أقدم وأطول إمبراطورية في التاريخ القديم ، عندما كان العالم من حوله يتهجّى حروفه الأولى ، في كهوف الجليد الباردة ، وحفر الغابات المعتمة ، استطاع خلال نصف قرن في العصر الحديث ، أن يبتني قاعدتين إمبراطوريتين ، إحداهما تمددت في آسيا ، حتى جاوزت نصف قارة أوروبا ، والأخرى تمددت في إفريقيا ، حتى حازت منابع النيل ، وأدخلت القرن الإفريقي في حوزتها . 

هذا شعب أشعل خمس ثورات كبرى ، خلال قرنين ، هما في عمر الشعوب أقل من جيلين ، وربما عامين في عمر الأفراد ، ولهذا أخذت ثوراته ، رغم تغيّر الأزمنة وتقلّبها ، ملامح يبدو التقارب بينها أكثر من التباعد . 

كان البعد الاجتماعي الشعبي ، ساطع الحضور في كافة ثوراته ، فقد ظلت قواعده الاجتماعية العريضة هي مدد الثورة ، ومصدر الطاقة ، وقوة الدفع ، وقد تحّملت مغارم كل ثورة ، وسددت تضحياتها ، لكنها لم تحصل في كل مرة ، على النصيب العادل من مكاسبها ، وفي أربعة من ثوراتها الخمس ، كان الجيش حاضرا في القلب ، وفي المقدمة ، وعلى قمة الموجة ، قابضا على سارية العلم ، باستثناء ثورة واحدة ، لم يتجسد حضوره فيها ، فقد كان قوام جسده المقاتل ، محتجزا خارج الحدود جنوبا ، رغم أن براعمه الغّضة ، في مدارسه العسكرية ، حطّمت الأبواب ، وانخرطت بملابسها الرسمية ، في غضب شعبها المشتعل بالشوارع . 

وفي كل ثورة من ثوراته ، كانت عوامل النجاح والوصول إلى لحظة الحصاد ، أقوى من عوامل الفشل والانكسار ، لكن انقلاب الموازين ، كان يأتي من القوى المضادة في الخارج ، عندما تنجح في رمي خطافها ، على المواضع الأكثر لينا في بنية الثورة ، والدوائر المحيطة بها ، مستغلة تباطؤ الفعل ، وتلكأ الحسم ، وتغلغل البيروقراطية في روح الثورة . 

وفي كل مرة كانت هذه المواضع اللينة ، أبعد ما تكون عن الشارع المحتسب الصامد ، وأقرب ما تكون من بعض شرائح النخبة ، الباحثة عن مأمن ومغنم . 

( 1 ) 

" كان ظهور الجيش المصري المفاجئ على الساحة السياسية ، أسوأ ما حدث في القرن التاسع عشر " ، تلك كانت رؤية القوى الاستعمارية كلها ، كما عبر عنها " ريفرز ويلسون " وزير المالية البريطاني ، في حكومة نوبار باشا ، التي شهدت مقدمات الثورة العرابية ، وحاولت تطويقها ، ومن ثم تصفيتها . 

وقد أعادت قوى أخرى إقليمية ودولية ، ترديد المقولة ذاتها ، خلال الشهور الأخيرة ، مع تغيير في التوقيت فقط ، فقد استبدلت القرن التاسع عشر ، بالقرن الواحد والعشرين ، رغم أن حضور الجيش المصري ، لم ينقطع بصورة أو أخرى ، فوق الجسر المزدحم بالمتغيرات بين القرنين . 

لقد كان أثمن ما في عقل " محمد علي " هو إدراكه لقيمة مصر ، وكان أعمق ما في رؤيته ، هو مفهوم الدولة المركزية ، ودوائر أمنها القومي ، ولهذا كان البعد الأمني غالبا في خططه وأعماله ، سواء بمعنى الأمن الداخلي أو الخارجي ، ولقد اضطر مع حاجة مشروعه ، إلى بناء جيش قوي ، إلى الاستعانة بالمصريين في الجيش ، بعد محاولة غير ناجحة للاستعانة بالسودانيين ، غير أن الأغلبية من المصريين أصبحت من الجنود ، فقد كانت إجادة القراءة والكتابة ، هي شرط الترقي إلى رتبة الملازم ، وإلى ما بعدها استثناء ، وحتى عهد سعيد ، لم يكن مسموحا للمصريين أن يتجاوزا رتبة البكباشي ، وحتى ثورة عرابي ، لم يكن مسموحا لهم أن يتجاوزوا رتبة القائمقام ( العقيد ) ، وخلال هذه السنوات ، ولد الجيش المصري للمرة الثانية ، وولد هذه المرة أيضا كسابقتها ، في وعاء واحد مع الشرطة المصرية ، فقد كان هناك تقسيم شكلي ، بين جهازين متداخلين ، في القيادات والتنظيم ، بل والوظيفة ، فوظيفة الجيش هي الأمن والأمان ، في الداخل والخارج . 

لقد كانت ثورة عرابي في المرحلة النهائية ، تعبيرا عن تمصير النخبة المصرية ، فقد كان الضباط المصريون ، الذين بدأوا اجتماعاتهم السرية في عام 1876 ، يمثلون جوهريا هذا الزاد المصري الجديد ، الذي صعد في بنية الجيش ، من أبناء الفلاحين ، مترافقا ومتزامنا مع موجتين عارمتين جديدتين ، موجة سياسية صاعدة ، شكّلت الحركة الدستورية ، وموجة ثقافية منحت الاثنتين معا زخما فكريا جديدا ، كان أبرز وجوهها ، الأفغاني والطهطاوي والنديم ، وغيرهم ، حيث كان الفكر المصري ذاته ، يدخل في مرحلة جديدة ، لبناء هوية وطنية ، كان دور الطهطاوي فيها رائدا ، صاحبتها محاولة لتجديد الإسلام من داخله ، أخصبها الشيخ محمد عبده بعد الأفغاني ، ومحاولة لتجديد الشعر العربي ، مضامين ومفردات وموسيقى ، قادها ضابط كبير ، لقب برب السيف والقلم ، هو " محمود سامي البارودي " أعظم شعراء العربية قاطبة في القرن التاسع عشر ، وأكثر رجال الثورة العربية ، جسارة وثباتا وإيمانا بفكرة العروبة . 

غير أن أول تنظيم سري للضباط ، انتهى إلى ضرورة العمل الثوري الحاسم باغتيال الخديوي ، وطرد أسرة " محمد علي " وإعلان الجمهورية ، لكن الأفغاني هو الذي قدّم النصح بالتريّث . 

هكذا كانت جمعية الضباط السرية ، التي رأسها في البداية " علي الروبي " ثم " أحمد عرابي " هي النواة الرئيسية للثورة ، قبل أن يظهر أول بيان بتوقيع الحزب الوطني بعد ذلك في نوفمبر 1879 ، الذي عقد اجتماعه الأول بعيدا عن العيون في حلوان ، وقد استبقته بفترة وجيزة ، جمعية " مصر الفتاة " السرية ، التي أسسها على غرار الجمعية التركية ، التي حملت نفس الاسم ، " مدحت باشا " بهدف محاربة الخديوي " إسماعيل " وتشكلّت من عدد من تلامذة " الأفغاني " ، وكان من بين قادتها " عبد الله النديم ، الذي سيصبح خطيب الثورة العرابية . 

وهكذا تشكّل تحالف واسع شكّل وحدة فريدة ، بين المثقفين والعسكريين ، أصبح " أحمد عرابي " زعيم جناحيها ، المدني والعسكري ، وهي وحدة ظل تماسكها ، أوضح مظاهر مراحل الصعود ، في التاريخ الوطني ، كما أصبح انقسام قاعدتها ، أبرز مظاهر مراحل الهبوط فيه . 

( 2 ) 

في فبراير 1879 ، شهدت شوارع القاهرة مظاهرة عسكرية حاشدة ، ضمت ألفين وخمسمائة ضابط ، يتقدمهم عدد من أعضاء مجلس شورى النواب ، حيث شقّوا طريقهم إلى مقّر الحكومة ، في ميدان " لاظوغلي " بعد أن تم تسريحهم من الخدمة ، وقد قضوا عاما دون رواتب ، واقتحموا مكتب رئيس الوزراء ، وانهالوا عليه وعلى وزير المالية ضربا ، وكادوا أن يجهزوا عليهما ، لولا أن لحق الخديوي بهم ، وصعد أعزل واستنقذهما . 

ثم اضطر إلى أن يرد الاعتبار ، إلى كبار الضباط من الفلاحين ، الذين استبعدهم واضطهدهم ، فعين القائمقام " أحمد عرابي " في المعّية وقائدا للفرقة الرابعة مشاه ( 4 جي بيادة ) واللواء " علي الروبي " في المعّية ، ورئيسا لمجلس المنصورة ، واللواء " محمد النادي " في المعّية ، وقائدا للفرقة الثانية مشاه ( 2 جي بيادة ) ، وكان " إسماعيل " قد وصفهم بأنهم " بتوع سعيد باشا " ، ورد عليه " عرابي " بالقول أنهم " بتوع مصر ". 

كان " ريفرز ويلسون " قد أدّعى أن فصل الضباط هدفه توفير الميزانية ، وهو ما عقّب عليه " ستون باشا " رئيس أركان حرب الجيش المصري ، والأمريكي الجنسية ، بالقول أن الهدف كان " تجريد الخديوي من أي قوة ، يمكن أن يحتمي بها ، أو يدافع عن استقلال مصر . 

لكن رؤية القنصل البريطاني ، لما حدث في مظاهرة الضباط ، كانت ناطقة بما ستخطط له بريطانيا بعد ذلك ، في مواجهة حركة وطنية مصرية متصاعدة ، فقد كانت تقول : " لقد اثبت الضباط المسرحون ، في وجود الوزيرين الأوروبيين ، أن زوجين من السواعد لا يعنيان شيئا في وجود ألفين ، وأن كل ما نملكه من سيطرة ، لا يعدوا أن يكون نفوذا أدبيا ، وهذا النفوذ الأدبي غير الممارسة ، فهو لا يعدو أن يكون مزيجا من الهراء والتهديد والتوبيخ " 

وهكذا كان تعميق التدخل الأجنبي ، هو مقدمة الحل الأوروبي ، في مواجهة اليقظة الوطنية المصرية ، التي فعّلت مطالبها واستحقاقاتها دون انتظار ، بعد أن تبين لها ، أن الغرب يعد مشروعا لإعلان إفلاس مصر ، وتمخض أكبر اجتماع وطني في منزل الشيخ البكري ، ضم النخبة من السياسيين والعسكريين ، والعلماء والتجار ، وأهل الفكر والرأي ، عن تشكيل ثلاث لجان ، لجنة سياسية برئاسة " شريف باشا " ، لوضع دستور وقانون انتخاب جديد ، يؤكد سلطة الأمة ، ولجنة اقتصادية برئاسة " راغب باشا " لوضع مشروع وطني لسداد ديون مصر ، ولجنة عسكرية برئاسة " شاهين باشا " لوضع خطة دفاع ، وإعداد البلاد لصّد التدخل الأجنبي إذا وقع ، وقد استقبل الخديوي " إسماعيل " يوم 7 إبريل ، أعضاء وفد الحركة الوطنية ، وأذعن أمام الطلبات ، وأقال الحكومة ، وعهد إلى " محمد شريف باشا " بتأليف حكومة جديدة ، وأصبح يوم 7 إبريل في الخطاب البريطاني " انقلاب 7 إبريل ، واستيلاء الحزب الوطني ، بجناحيه العسكري والمدني على السلطة ". 

لم تتلكأ الموجة الثورية العالية ، في وضع رؤيتها موضع التطبيق ، فلم يكن دافعها هو السلطة ، وإنما الوطن ، ففي 17 مايو ، قدم " شاهين " مشروعه الدفاعي الاستراتيجي ، بزيادة عدد الجيش إلى ستين ألف ، وإعادة فتح كل المدارس العسكرية ، وإعادة كافة الضباط الذين أحيلوا للاستيداع إلى الخدمة ، وبعد شهر واحد ( 15 يونيو ) كان مشروع الدستور الجديد ، وقانون الانتخابات قد تمت صياغته والتصديق عليه ، كما أن " راغب باشا " قد أعد مشروعا وطنيا مكتملا لسداد ديون مصر ، التي تحولت إلى طوق حول عنقها ، أي أنه خلال شهرين فقد كان بمقدور وحدة العسكريين والمثقفين ، في النواة الصلبة للحركة الوطنية ، لا أن تفرض رؤيتها فحسب ، بل وأن تصوغها ، وتضعها موضع التطبيق العملي . 

( 3 ) 

لم يكن ثمة بديل ، سوى خلع " إسماعيل " الذي أنحنى أمام الموجة الوطنية العالية ، وإصدار مرسوم من الباب العالي ، بتعيين أبنه " توفيق " خلفا له ، وفي أوج الأزمة ، لم يصدق " شريف باشا " ما قاله له الخديوي " إسماعيل " قبيل خلعه ، من أن أبنه " توفيق يتآمر ضدي مع القناصل " ، ولم يلبث أن أخلف " توفيق " وعده بإصدار مرسوم بالدستور الجديد وقانون الانتخابات ، ثم قرر أن يتولى كل السلطات بنفسه ، كانت خيبة أمل " الأفغاني " كبيرة ، فقد كان يحسن الظن به ، بل كان أحد مريديه ، وعندما ندد " الأفغاني " به ، كان أول قرار لمجلس الوزراء الجديد ، القبض على " الأفغاني " ونفيه إلى الهند ، متزامنا مع قرار بحل مجلس النواب ، وكان واضحا أن تصفية الحركة الوطنية الصاعدة ، تتطلب أولا تصفية الجناحين الفكري والدستوري لها ، كمقدمة لتصفية النواة الصلبة ، متمثلة في الجيش . 

كان " توفيق " أكثر عجزا ، بل وخضوعا لمطالب التدخل الأجنبي ، الذي التهبت حواسه الاستعمارية ، تحت تأثير بروز كتلة وطنية ، تلتف حولها دوائر شعبية واسعة ، وبينما كانت هذه الكتلة الوطنية ، تزداد بروزا واتسعا وقوة ، كان " عثمان رفقي " وزير الحربية في وزارة " رياض " يضمّن قانون القرعة الجديد ( 1880 ) ما يمنع ترقية الضباط من تحت السلاح ، متصورا أن العلّة في بروز هذه الكتلة الوطنية ، هم هؤلاء الضباط ، في صفوف الجيش والبوليس ، الذين خرجوا من صفوف الفلاحين ، وترقوا ضباطا من تحت السلاح ، إضافة إلى سلوكه الخشن ، الذي بدا واضحا في معاداته للضباط المصريين ، وتعصبه للأتراك ، وهكذا قدم ثلاثة من الضباط ، عريضة عن جميع الضباط ، يطالبون بحقوقهم وعزل وزير الحربية ، واجتمع مجلس الوزراء وقرر محاكمتهم ( أحمد عرابي – علي فهمي الديب – عبد العال حلمي ) حيث تم اعتقالهم تمهيدا للمحاكمة ، ولكن قوة من الجيش برئاسة البكباشي " محمد عبيد " اقتحمت السجن ، وأطلقت سراحهم ، ثم توجهوا جميعا إلى قصر عابدين ، في مظاهرة طالبت بعزل الوزير ، ولم يكن أمام الخديوي ، سوى أن يستجيب لهم ، وتعيين " محمود سامي البارودي " وزيرا للحربية ، الذي انحاز لمطالب الضباط التالية ، فازدادت الهوة بينه وبين الخديوي اتساعا ، فقدم استقالته ، وعين الخديوي صهره " داوود يكن " في مكانه ليواجه حركة الضباط ، ولكن الضغط الذي مارسه ، ولّد طاقة أكبر للمواجهة ، حسب المنشور الذي أصدرنه الحركة إلى الأمة : 

" لما رأينا كثرة الدسائس ، وشدة الضغط من الحكومة ، وعدم التصديق على القوانين العسكرية التي تم إعدادها ، وعدم الشروع في تشكيل مجلس النواب ، الذي وعدنا الخديوي بتشكيله ، أيقنا أن الحكومة تماطلنا في تنفيذ الطلبات الوطنية ، وصممنا على تحريرها في صورة مظاهرة وطنية شاملة للعسكرية والأهالي ، الذين أنابونا عنهم في محاولة نيل حقوقهم ، وتأمينهم على الأنفس والأموال والأعراض ، وتم إخطار جميع الآلايات والسواري ، والاستعداد للحضور إلى ميدان عابدين ، في العاشرة من يوم 9 سبتمبر 1881 ، لعرض طلبات الأمة العادلة " . 

( 4 ) 

لقد تم إخطار الخديوي ، الذي ذهب قبل المواجهة إلى القلعة ، ليمنع الآلاي الثالث من النزول إلى عابدين ، حيث أخذ يوبخ الضباط ، وأمسك بالبكباشي " فوده حسن " وقال له : " مثلك يعارض أوامر الحكومة " ، ولما رأى العساكر ذلك ، ضرب البروجيه نوبة " سونكي دبك " فركّب العساكر السناكي ، وأحاطوا بالخديوي ، ثم استشار مستر " كولفن " المراقب البريطاني ، فنصحه باستدعاء القوات الموالية له ، واعتقال " عرابي " عند اقترابه من الميدان ، ولكن الخديوي رفض النصيحة ، خوفا من أن سلاح المدفعية وسلاح الفرسان منضمين إلى " عرابي " فضلا عن اكتمال الحضور بقدوم أورطة من المستحفظين ( الشرطة ) بقيادة القائمقام " إبراهيم فوزي ". في المواجهة الشهيرة ، أبلغ عرابي الخديوي أن الجيش قد أتى للحصول على مطالب الأمة ، بعزل " رياض باشا " ، وتشكيل حكومة جديدة ودعوة مجلس النواب للانعقاد ، وزيادة عدد أفراد الجيش إلى 18000 جندي ، وأنه لن يبرح هذا المكان حتى يصل إليها ، قائلا قولته الشهيرة " نحن لسنا عبيدا ، ولن نورث بعد اليوم " ولم يكن أمام الخديوي سوى الخضوع ، حيث كانت بداية الثورة العلنية ، التي واصل خضوعه لها حتى الاحتلال البريطاني ، وفيما بعد لم تتوقف الدسائس ، فقد تمت ثلاث محاولات لاغتيال " عرابي " ومحاولة لدس السم في اللبن لـ " عبد العال حلمي " كما أصدر الخديوي أمرا بعزل " محمود باشا الدرمللي " مأمور المحروسة ، قائد بوليس مصر ، لميله للوطنيين ، فقد كان الإجماع وطنيا ، فكما كان الأزهر وشيخه وقيادته ، على قمة المؤيدين للثورة الوطنية ، التي وضعت عرابي على رأسها ، قام الأقباط وقيادتهم الروحية ، ممثلة في الكنيسة والبطريارك ، بدعم مباشر للثورة ولعرابي ، بدرجة غير مسبوقة من الإجماع . 

في 18 ديسمبر 1881 ، قدم الحزب الوطني ، الذي كان ائتلافا بين العسكريين والوطنيين ، من المثقفين والأعيان وكبار التجار والموظفين ، أول برنامج في شكل وثيقة تألفت من ست نقاط ، في مقدمتها ، عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة ، التي أورثت مصر الذل ، والإلحاح على تنفيذ الحكم النيابي ، وإطلاق الحرية للمصريين ، مؤكدة أنه قد فوض الوطنيون أمرهم إلى أمراء الجهادية ، مطالبين منهم أن يصمدوا على طلبهم ، لعلهم أن رجال العسكرية هم القوة الوحيدة في البلاد ، وهم يدافعون عن حريتهم الآخذ في النمو ، مؤكدة ان الحزب الوطني ، حزب سياسي لا ديني ، فإنه مؤلف من مختلفي العقيدة والمذاهب ، وكل من يحرث أرض مصر ، ويتكلم لغتها ، منضم إليه . 

لم يصبح " عرابي " في أعقاب ذلك وزيرا للحربية فقط ، فقد وصلت الموجة الوطنية الصاعدة إلى نقطة ، لم يعد فيها الخديوي غير واجهة ، بعد أن أصبحت السلطة الحقيقية في يد قوات الجيش ، مؤيدا بحركة شعبية جماهيرية عارمة ، تعكس صحوة مصرية لانتزاع حقوق الحكم والسيادة ، وهكذا أصبح تقدير الموقف في العواصم الأوروبية ، قاطعا بحتمية التدخل العسكري من الخارج ، لقمع الثورة وإعادة مصر إلى حظيرة السيطرة الأجنبية ، وهكذا تقدمت بريطانيا وفرنسا ، بمذكرة إلى الخديوي ، تعارض نظر مجلس النواب للميزانية ، وأرسلت قطعا من أسطولها الحربي ، إلى ميناء الإسكندرية ، في شكل مظاهرة عسكرية ، وقدم قنصلا الدولتين مذكرة ( 7 يناير 1882 ) إلى رئيس الوزراء ، أخذت شكل إنذار ، مطالبة بإبعاد " عرابي " عن مصر بصفة مؤقتة ، وإرسال " عبد العال حلمي " و" علي فهمي " إلى قراهما ، واستقالة الوزارة ، وحاول الخديوي " توفيق " في صراعه ، مع الضغط الشعبي الداخلي ، الذي يتسلح بالجيش ، والضغط الأوروبي الخارجي الذي يهدد بالأساطيل ، أن يقنع مجلس النواب ، بأن المصلحة تقتضي الاعتدال ، والتخلي عن مساندة الثورة ، ولكن المجلس لم يكن قابلا للاقتناع ، فتصرف منفردا وقبل الشروط التي رفضتها الوزارة ، حيث لجأت إلى تقديم استقالتها ، احتجاجا على قبوله التدخل الأجنبي في شؤون البلاد . 

كان واضحا قبيل ذلك للقوى الأوروبية ، أن مصر قد تغيرت من داخلها ، وأن إدارة مصر من داخلها ، مهما تكن الظروف أو الضغوط ، لن تمثل مخرجا ، هكذا طلب " سيمور " قائد الأسطول البريطاني متعللا من " طلبه عاصم " قائد الحامية بالإسكندرية ، وقف تحصين القلاع ، فكان طلبه محل رفض ، فأرسل إلى القناصل أنه سيبدأ بالضرب بعد أربعة وعشرين ساعة ، إلّا إذا سلمت القلاع طوعا للأسطول البريطاني ، ولما لم يكن هناك وطني مصري واحد ، قابلا للقبول استسلاما أمام شروط الإذعان البريطانية ، فقد أخذ الأسطول في قصف حمم مدافعه على حصون الإسكندرية ، يوم 11 يونيو 1882 ، كانت صورة المقاومة في عيون البريطانيين مذهلة ، فقد كانت هناك في عرض البحر ثمانية وعشرون سفينة بريطانية ، تصب حممها مصممة على تسليم الحصون ، وإزالة المدافع أو تدميرها على نحو شامل ، كانت موازين القوة بالغة الاختلال ، ومع ذلك فقد قدّم الميجور " تولوك " من على ظهر المدمرة البريطانية " انفستيل " في أوج المعركة ، شهادة بالغة الدلالة ، فقد كان جانبا من نصها يقول : " لقد شهدت عجائب كثيرة ، ولكن مقاومة العساكر من المصريين ، كانت من الخوارق " . 

لقد نزلت القوات البريطانية إلى الإسكندرية يومي 14 و 15 يوليو 1882 ، وبدأت الخطوة الأولى في احتلال مصر ، ثم تقدمت إلى القاهرة واحتلتها يوم 10 سبتمبر ، بعد معارك ضارية مع الجيش المصري، وعندما استقر الأمر لقوات الاحتلال ، تألفت لجنة للتحقيق مع العرابيين ، بعد إصدار الحكم على " عرابي ، وبعدها بأيام على رفاقه السبعة بالإعدام ، ثم تعديله إلى النفي المؤبد ، ومصادرة الأملاك ، وتضمنت الأحكام التي صدرت بحق المئات من الضباط والصف والجنود ، أحكاما جائرة تراوحت بين الإعدام والسجن المؤبد ، والأشغال الشاقة. 

وتعرضت الحركة الوطنية المصرية ، لأوسع عمليات قمع ، فقد تجاوزت أعداد المعتقلين السياسيين ، ثلاثين ألف رجل ، ورصدت جائزة قدرها خمسة آلاف جنيه ، للقبض على " عبد الله النديم " خطيب الثورة ، الذي كان مأمور الضبطية في الإسكندرية القائمقام " السيد قنديل " قد أواه وهيأ له سبيل الهرب . 

ثم أخذ الخديوي في تنفيذ توصيات اللورد " دوفرين " في شكل مراسيم ، كان أولها يقضي بأن مصر مسئولة أمام الأوروبيين ، عن الخسائر التي أصابت ممتلكاتهم ، نتيجة ضرب السفن البريطانية للإسكندرية ، أما المرسوم الثاني فقضى بحل الجيش المصري ، وتسريح الجنود ، والتحفظ على الضباط ، حتى يُنظر في أمرهم ، وتعيين الجنرال "فالنتين بيكر " قائدا للجيش المصري ، واستبقه منشور بحل مجلس شورى النواب ، واعتقال من شارك في الثورة من أعضائه أو حرض عليها ، وتقديمهم إلى المحاكمة . 

( 5 ) 

لم يكن ممكنا تصفية الثورة الوطنية الشاملة ، بغير وضعها بين فكّي كماشة ، القوة العسكرية الأجنبية والثورة المضادة في الداخل معا ، وقد لعبت الثانية دورا كبيرا في تقويض الثورة ، وبسط مصر أمام الاحتلال الأجنبي . 

عندما حصدت المواجهة مع الخديوي في عابدين ثمارها ، قال " عرابي " : لقد فتحنا باب الحرية في الشرق و ليقتدي بنا من يطلبها من أخواننا الشرقيين ، قطعنا عرش الاستبداد ، وانتزعنا مجلسا للشورى ، لتنظر الأمة بنفسها في شئونها " . 

كان لقبه قد أصبح المنقذ ، والمخلّص الوحيد ، وكان توقيعه قد أصبح " عرابي المصري " ، لقد تغير ميزان السلطة في مصر ، وانتقلت كل السلطات إلى العسكريين ومجلس النواب ، كما قالت مذكرة بريطانية فرنسية مشتركة ، لكن إيمانه بالديموقراطية كان مدهشا ، بل أن " ديليسبس " نفسه شهد لعرابي بأنه ليبرالي صالح ، لأنه أنقذ عشرين ألفا من الأجانب ، وأمّن عودتهم إلى بلادهم ، رغم أن أكبر ما وقع فيه الجيش من أخطاء ، في المواجهة مع البريطانيين ، كان بسبب الثقة في تأكيد " ديليسبس " لحياد القناة على مشارف المواجهة الحاسمة ، انفصلت القشرة الارستقراطية التركية الشركسية من الأعيان ، - التي كانت قد تمصّرت - ، عن الثورة باستثناء حالات نادرة ، وانفصلت معها الشرائح العليا في طبقة الملاك الزراعيين ، بينما بقيت الشرائح و الطبقات الدنيا ، تسكب دماءها وقودا للثورة ، كما انفصلت قشرة أخرى من السياسيين والمثقفين ، الذين ظلوا ينظرون إلى التغيير ، على أن طريقه الوحيد هو الإصلاح ، لا الثورة ، التي عدّوها " تهورا يقود إلى كارثة " ، حسب قول " محمد شريف باشا " رئيس الوزراء الذي كان يوصف ، بأنه أبو الوطنية والدستور ، والذي وصف معاصروه موقفه ، بالخروج من جبهة الثورة ، بأن " عقدة العسكريين قد عاودته " ، أو حسب تفسير " الشيخ محمد عبده " له بأنه : " كان على نزاهته ، ضعيف الشخصية ، وكان من المعتدلين ، الذين يسلمون بالأمر الواقع " . 

رغم ذلك فلا شك أن ثمة أخطاء ، يمكن أن تلحق بعرابي نفسه ، ساعدت قوى الثورة المضادة ، على توسيع جبهتها ، والالتحاق بقوات الاحتلال ، وفتح الطريق أمامها . 

لقد ذهب " عرابي " مبكرا إلى " راغب " باشا وزير المالية ، والذي وصفه بأنه " عرف بحسن السياسة وكمال الأهداف " يسأله المشورة ، وكان رد الرجل عليه صاعقا ، فقد أوصاه بجمع الأسلحة وإرسال بلوك من العساكر إلى الخديوي وقتله ، ثم التفكير في الخطوة التالية ، ولكن " عرابي " استعاذ بالله من مشورته ، وفي مرحلة تالية جاءه " محمود سامي البارودي " – كما يروي " عرابي " في مذكراته – " ... أطنب على قيامي بنشر راية الحرية في مصر ، بعد خمسة آلاف سنة على المصريين ، وهم يرسفون في قيود الاستبداد والاضطهاد ، ثم أقسم أنه – أي البارودي – مستعد لأن يضحي بحياته ويجرد سيفه ، ويجود بآخر أنفاسه ، وآخر نقطة في دمه ، وينادي بي خديويا على مصر ، إذا ما أردت ذلك ، وقلت له : يا محمود باشا ، أنا لا أريد سوى تحرير البلاد ، ولا أرى سبيلا لذلك ، إلا بالمحافظة على الخديوي ، وليس لي أصلا طمع في الاستئثار بالمنافع الشخصية ، وقال محمود باشا : أنا لا أقول ذلك إلا حقا ، وأنت أحق بهذا الأمر مني ومن غيري". 

لقد تربّع " عرابي " وحده على قمة السلطة ، وكان التأييد الشعبي له ، غير مسبوق في تاريخ مصر ، كما كانت كافة القوى العسكرية والسياسية والثقافية والشعبية ، تصطف من خلفه ، كأنه سارية العلم ، وفي لحظة تردد الخديوي ، في قبول الإنذار البريطاني بضرب الإسكندرية ، تجمع الآلاف من الضباط والأهالي ، وهم يهتفون " أعزلوا الخديوي " ولذلك كتب " تيودور روتشين " بعدها ، لو أن الجيش خلع توفيق يومها ، لوجد الأمة كلها وراءه تؤيد ما فعل ، وإذن لتغير تاريخ مصر ، وتاريخ الإقليم . 

هل كان " عرابي " مترددا ، ولهذا لم يلجأ مبكرا إلى الحسم الثوري ، وقد كان متاحا ومطلوبا ، أم أن " البارودي " كان أبعد نظرا ، وأعمق رؤية ، أم أن الأمر في جوهره كان عزوفا عن السلطة ، وثقة في قدرة الجيش والشعب ، على الإبحار بمصر إلى شاطئ آخر ، بغير تقلبات وعواصف؟ . 

إنني أميل إلى أن مشكلة هذا الرجل العظيم ، أنه حارب سيفا عميلا وفاسدا ومستبدا ، بسيف وطني شريف ، تلمع على شفرته كل منظومات القيم الوطنية ، وربما كان ذلك في مرحلة ، هو مصدر مصداقيته وقوته وصعوده الآسر ، وربما كان الأمر نفسه في مرحلة تالية ، هو مصدر تعثر ثورته ، وإخفاقها . 

( 6 ) 

تحية إلى " عرابي " العظيم ، الشجرة الباسقة في حديقة الوطنية ، ومجد العسكرية المصرية ، والبقاء لدروس ثورته العظيمة ، التي ما تزال قابلة للتعلم والاستلهام ، فما أشبه الليلة بالبارحة . 
نعم ما أشبه الليلة بالبارحة ! 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير