حقائق لم يَفُتْ أوانها...بقلم:خيري منصور

23.10.2011 08:05 AM

عندما صدر كتاب ديفيد ميلر المكرس لافتضاح أكاذيب الميديا والتضليل الإعلامي في ما يتعلق بالحرب على العراق، كان من المتوقع أن يثير صدى أوسع مما أثار، وأن يدفع البعض منا إلى مراجعة أعوام الإعلام العجاف، عندما كنا نصدّق كل ما يصل إلى مسامعنا بلا تمحيص، لكنّ هناك نمطين من البشر في التعامل بأثر رجعي مع أي موقف، نمطاً تأخذه العزة بالإثم ويصرّ على البقاء على موقفه خشية الوقوع في التناقض، ونمطاً يتعامى عن كل ما يصدر بعد اتخاذه موقفاً ما كي لا يزعج نفسه بالمقارنات والتشكيك بمعصومية الموقف الذي تورط به .

لم يكن كتاب ميلر هو الوحيد الذي افتضح أكاذيب الميديا، لكنه قد يكون الأهم في سلسلة من الكتب صدرت خلال العقد الماضي تباعاً وبمختلف اللغات، فهو سمّى الأشياء بمسمياتها، وكما يقول المثل الإنجليزي “امسك بالمعول وصوب على الجذر”، فالسّبب الوحيد لتلك الحرب ألْبِسَ عدة أقنعة وحُشدت له ذرائع لم يكن صعباً تلفيقها، ورغم أن مذكرات قادة تلك الحرب ومنهم توني بلير صدرت بعد كتاب ميلر، فإنها تبدو على النقيض منه، لأنها جاءت لتبرر ما جرى، وتبتكر أحداثاً تخلط حابل الحرب بنابل الديمقراطية، لكنها تحاول النأي عن الأسباب الفعلية للحرب .

والمفارقة هي أن الغرب بقيادة أنجلوساكسونية هو الذي حشد لتلك الحرب، لكن مثقفيه وشهوده من الصحافيين والكتّاب كانوا له بالمرصاد، وهذا ما يدحض جذرياً أوصافاً أيديولوجية خالصة للحروب، كالقول مثلاً إنها حملات صليبية تأخرت قروناً لتلحق بسابقاتها، فميلر وغيره من الكتّاب الأمريكيين والإنجليز هم من المسيحيين أيضاً، لكنهم غرّدوا خارج أسراب الغربان وطائرات الفانتوم والميراج وال”بي 52” .

نعرف أن الغرب حارب بعضه مرّتين على الأقل في عصرنا وعلى نحو كوني، وكان مسيحيون يقتلون مسيحيين، فالحروب قلما تسمى بالأسماء التي تليق بها، إذ لابد من تبريرها وتمريرها على الرأي العام تحت شعارات حاشدة وجاذبة للناس .

وحين نقرأ كتباً من هذا الطراز يدهشنا كيف أسلمنا الوعي لميديا تابعة ومسلّحة بأطروحات شبه نووية لفرط ما تدمّر من الإدراك، وتتلاعب بالعقول .

ولم يكن أمامنا في عصر المعلومات والاتصال السّريع، أن ننتظر ثلاثين عاماً ما سَيُفْرج عنه من وثائق المتحف البريطاني أو البنتاغون، فالزمن تغير وكذلك إيقاعات التواصل والكشف، لكن ما يحيّرنا بالفعل هو أن هذه السلالة بين الكتب الفاضحة للحروب ذات الذرائع الملفّقة، لا تجد أي صدى خارج المدار الصحفي أو المتابعات الفضائية العابرة . فما من مساءلة بأثر رجعي، وما من اعتذارات أو حتى مراجعات للمواقف، رغم أن ضحايا الميديا الكاذبة قد يصل عددهم إلى مئات الألوف من البشر .

وكان غوستاف لوبون قد أصدر كتاباً عن سايكولوجيا الجماهير قبل نحو القرن، وتشاء المصادفة أو ربما ما هو أبعد منها، أن يعاد طبع الكتاب وترجمته إلى العربية هذا العام، لأن سطوة الميديا لا يمكن رصدها بدقة وتحديد منسوبها إلا على أسس نفسية أولاً، فهي تسعى إلى التهييج، ومن ثم إلى التسويغ، وأخيراً تتحول إلى سلاح مدمر يضاف إلى أسلحة الحرب في الميادين .

إن أسوأ ما يمكن أن يلحق بالوعي هو الإصرار على أن ما حدث كان يجب أن يحدث كما لو أنه قضاء وقدر، أو ما جدوى الاعتذار والندم إذا كان الأوان قد فات؟ إن تزييف الوعي وتجريف الذاكرة على هذا النحو، يحرم البشرية من أهم بعد من أبعاد التاريخ وهو البعد الأخلاقي .

                                                                 جريدة الخليج

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير