مفارقة خطيرة..!..بقلم: ميشيل كيلو

23.10.2011 06:08 PM

يبدو أن التطورات التي نعيشها ستكون على قدر من العمق والجذرية، والدليل أنها بدأت تغير منذ اليوم بعض المواقف التاريخية لقوى مجتمعية مختلفة، رغم أنها استمرت طيلة عشرات القرون ونظمت، ليس فقط علاقاتها بعضها مع بعض، وإنما كذلك نمط إعادة إنتاجها في حاضنة حضارية عربية/ إسلامية أنتجتها بالتعاون والتفاعل فيما بينها، أي بصورة مشتركة.

ثمة جديد نلاحظه في عالم الإسلام السياسي، يتجسد في ظواهر وتطورات جديدة أهمها التالية:

1: بعد حقبة، خال مسلمون كثيرون خلالها، أن التطرف يجب أن يكون سبيلهم إلى التعامل مع العالم، وتبنوا رؤى ومنظورات مجتمعات آسيا الإسلامية الأكثر تأخرا وتخلفا، وخاصة منها تلك التي عرفتها باكستان وأفغانستان، وقامت على قطيعة عدائية مع الآخر، بمن في ذلك الآخر المسلم، وارتكزت على تعيين من هو المسلم وعلى الشك في إسلامية المؤمنين، الذين جعلت قسما كبيرا جدا منهم أبناء جاهلية لا بد من ردهم إلى الهدى والإيمان، الأمر الذي شحن علاقاتهم بقدر كبير من العنف، وأضفى عليها الكثير من سمات اقتتال أهلي ما لبث أن نشب بالفعل في كل مكان. شرع هذا التطور، القائم على الخروج من العالم والانكفاء على الذات، يتقلص ويتراجع، وأخذ تعبيره النظري والسياسي، كما تجلى في البن لادنية، يتراجع ويتكور على ذاته، ويتحول من رد إسلامي على تحديات الخارج الدولي إلى نظرية نبذتها قطاعات متعاظمة الأعداد من المسلمين، نجحت في استعادة موقف الإسلام التاريخي والصحيح، الذي قام على التسامح والتفاعل مع الآخر، وعلى الثقة بالنفس وعدم الخوف من الحوار مع المختلف، ودفع أغلبية المسلمين إلى التعامل السلمي مع الغير باعتباره الطريقة الناجعة لإقناعه بما يريدون، أو لكسب تأييده وخطب وده، وجعلهم يعاودون الانخراط من جديد في تنافس مدني وحضاري معه، خاصة بعد أن انتشروا في ديار الاغتراب، وبلغت أعدادهم هناك عشرات الملايين، حتى إنه ليصح القول: إن دور هؤلاء كان كبيرا جدا وحاسما في دحر البن لادنية، خاصة بعد «غزوة نيويورك» التي وضعت مسلمي الغرب هؤلاء أمام تحد فائق الخطورة، أرغمهم على اتخاذ موقف جدي من أحداث على هذا القدر من الإجرام، وعلى الابتعاد عن النظريات العنيفة والمتطرفة، التي ما لبثت أن شهدت تراجعا حثيثا في حجمها وانتشارها وتأثيرها، عززته بقوة الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا، التي فتحت أبوابا واسعة وجديدة تماما أمام خروج المسلمين والعرب من احتجاز كانت قد فرضته عليهم علاقات مع الغرب قامت على التحدي والغلبة والعدوان، أقنعتهم أن لا أمل لهم في تخطيها ضمن أية حاضنة مشتركة، فقالت الثورات العكس: وهو أن القيم الكونية مشتركة بين الإسلام والعالم الحديث، وأن في هذه القيم وحدها نجاة المسلمين ونجاحهم في الدخول إلى العصر، وفي تجاوز تحدياته.

2: تعبيرا عن هذا التطور واستباقا له، تبنت أحزاب وحركات وجماعات إسلامية مختلفة مواقف تتخطى على الصعيد السياسي، وتاليا الإنساني، ما كانت تتخذه من مواقف في مواجهة مجتمعها والآخر. من ذلك على سبيل المثال التطور الذي عرفته جماعة الإخوان المسلمين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وقام على قبول خيار الدولة المدنية / الديموقراطية، والإقرار بحق الآخر في الاختلاف، وعلى اعتبار الشعب مصدر السيادة وتاليا الشرعية، والقبول بالحرية الفردية والشخصية وبما يترتب عليهما في المجالين السياسي والعقائدي، والإقرار بالأساليب التمثيلية الحديثة في تعيين نمط السلطة وشكل الحكم، ورفض العنف كوسيلة تستطيع ويجب أن تنظم المجال العام، وبالنتيجة قبلت الجماعة فصل المجال السياسي عن المجال الديني في ما يتعلق بحرية الشعب والآخر، وإن أبقت عليه في حيزها الخاص، باعتباره خيارا يلزمها لا تترتب عليه نتائج تتخطاها إلى الحقل السياسي المشترك، أي المجتمعي.

3: بالتقاطع مع هذا التطور، وبالتزامن مع ثورة الشعب، أصدر الأزهر وثيقة على قدر كبير من الأهمية، تشرعن ما عرفته النظرة السياسية الإسلامية من افتراق عن طابعها المذهبي الصرف السابق، وتلقي بوزن أكبر مؤسسة دينية إسلامية وراء الثورات الشعبية وما رفعته من شعارات وتبنته من مطالب وسعت إليه من أهداف، فكان إصدارها علامة فارقة في تطور النظرة الإسلامية الرسمية إلى العصر وأحداثه، وتغيرا جليا في رؤيتها لقواه، وتخل عن أولوية رأت الشعب بدلالة شرائع غير سياسية، وها هي تراها بدلالته أو تمنحه أولوية حيالها لم تكن تقر بوجودها في السابق.

قطع العقل الإسلامي شوطا لا يستهان به نحو العصر وقيمه، واعترف بضرورة الانضواء فيه وبالفرص العظيمة التي يتيحها له وللمسلمين، فكان تطوره هذا نقلة حقيقية في رؤيته لنص الإسلام وواقعه، كما في قراءته لهما، ومراجعة في العمق لمواقفه لطالما تاقت إليها قطاعات وشرائح إسلامية مجتمعية حديثة، طالبت بها خلال نيف وقرن، وها هي تبدو وكأنها تحصل أخيرا عليها، حيث تنفتح أمامها أبواب العالم والحداثة والعصر، ويتاح لها مبارحة الانغلاق الفكري والروحي والتخلص من ركائز الاستبداد في النظر والعمل. كان الإسلام يتهم بالميل إلى الاستبداد، ويعير بالجنوح إليه و إنتاجه، وكان يرمى بالعمل على الالتصاق بنظمه وبحمايتها، وها هو يعلن رغبته في الابتعاد عنه ويعاديه جهارا نهارا، بل ويخوض مع الشعب البسيط معركة الخلاص منه، ويضع نفسه في خدمة كل من يعمل من الشعب على إسقاطه، ويبدي رغبته في التحالف معه.

في مقابل هذا التطور، الذي أخذ إسلاميين كثيرين من شعارات «الإسلام هو الحل»، و«القرآن دستورنا»، و«الحاكمية لله»، إلى مطلب الحرية والدولة المدنية والديموقراطية والمواطنة والفرد ... الخ، وقع تطور مقابل أنجزته بعض الأوساط الكنسية، أخذها من هذه المطالب، التي لطالما قالت إنها محايثة للنشاط الكنسي وملازمة منطقيا وواقعيا لأية فاعلية تقوم هذه بها، لأنها في صلب العقيدة المسيحية ذاتها، ولأنه لا يجوز لها دينا التنكر لها أو التخلي عنها، وإلا خانت رسالتها والفلسفة التي ترتبت على ديانتها التي أنجبت مبدأ ومفهوم الحرية، كما قال هيغل، وأحل محلها إعجاب جلي بالاستبداد وخوف ظاهر على نظمه من الإسلام والمسلمين، كأن أرباب هذه الكنائس لا يلاحظون ما وقع عندهما من تطور أو كأنهم لا يصدقونه ويخافون على المسيحية منه، متجاهلين حقيقتين خطيرتين هما: أن الإسلام لم يسبق له أن نظم مجازر جماعية ضد المسيحية خلال تاريخنا الحديث كله، وأن ما قد يكون فعله ضدها هنا أو هناك لا يعادل واحدا من ألف مما فعلته مذاهبها بعضها ضد بعض في ألمانيا وحدها خلال القرن السادس عشر وحده، وأنه ليس في وارد خوض معركة ضد أي دين، وأن مسيحيي العراق لم يكونوا ضحية الإسلام بل القاعدة، التي قتلت من المسلمين أضعاف ما قتلته منهم، وأن العراق كان محتلا من الأميركيين، الذين راهنوا على تفجير تناقضاته وخلافات مذاهبه وأديانه ليسهل لهم حكمه، ولم يكونوا ضحايا ثورة قامت بأعمال كتلك التي تعرضوا لها ويستنكرها ويدينها أي إنسان له ضمير.

4: ان دعم الاستبداد لا يتناقض فقط مع تاريخ المسيحيين والمسلمين المشترك، الذي جعلهم جزءا تكوينيا من شعبهم المسلم في أغلبيته، بل هو يمثل تحديا له قبل غيرهم واكثر من غيرهم، لكونه يضعهم في سياق مخالف لما ألفوه من تاريخ حفظهم، ناهيك عن أن دعما كهذا يجعل منهم أقلية معزولة تقف ضد حرية شعبها، الذي لطالما اتهمته بعدم السعي إليها والعمل في سبيلها بل والموت من أجل إحرازها، وها هي تقف ضده أو تتخذ منه موقفا يتسم بعدم التفهم، عندما شرع يضحي فعلا من أجل بلوغها.

هذه المفارقة الغريبة وغير المقبولة يجب أن تنتهي تماما وفي أقرب وقت، كي ينسجم موقف مجتمعاتنا بإسلامها ومسيحييها من قضية الحرية والمدنية والديموقراطية، ويكون الاستبداد العدو الذي جميع مكوناتها التخلص منه، وتتحد اليوم ضده لتكون موحدة غدا في بناء المجتمع البديل: الحر والمدني.

إنها واقعة أحببت لفت الأنظار إليها، كي لا تسوق قلة كنسية الشعب إليها، أو يقال: إن أحدا لم يلفت أنظارنا إلى نتائجها. ولقد قيل دوما: صديقك من صدقك، واحرص على أن لا تندم حين لا يفيدك ندم!

                                                                                   عن جريدة السفير/ بيروت

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير