وفاة أنيس منصور../ د. أسعد أبو خليل

29.10.2011 05:32 PM
من دون أدنى شك كان أنيس منصور كاتباً مثيراً للاهتمام. عاش وعمل في ظل أربعة حكام طبعوا وجه مصر الحديث، ألا وهم الملك فاروق والرؤساء عبد ناصر والسادات ومبارك. كان منصور ثابتاً في جبنه السياسي إذ لم ينتقد الحاكم يوماً إلا بعد مغادرته سدّة الحكم. لم ينتقد البتة حاكماً أثناء توليه السلطة. فباتت مدرسته في الانتهازية السياسية، مضربَ مثلٍ في الصحافة السياسية.
تابع منصور دراسته الجامعية في جامعة القاهرة أثناء فترة حكم الملك الفاروق، وتأثر فكرياً بعملاقيْن هما عباس محمود العقاد وعبد الرحمن البدوي. فكان أن ترك البدوي تأثيراً فلسفياً عميقاً في منصور، إذ وجّهه صوب الوجودية. وقد يكون منصور من الكتاب العرب الأوائل الذين كتبوا نصوصاً في الوجودية، أو على الأقل هذا ما ادعاه. ومن ناحية أخرى، كان الكاتب أيضاً وثيق الصلة بالعقاد، وإن سخر الأخير من الوجودية، لا بل إنه لم يفهم يوماً سر انبهار منصور بها.
ما حدا منصور بالاهتمام بشخص العقاد، فكتب فيه أحد أفضل كتبه ألا وهو "في صالون العقاد كانت لنا أيام"، إذ كان منصور قادراً على رصد شخصية العقاد وتأرجحه الفكري. وقد أرّخ الحياة الفكرية في القاهرة حينها، راصداً الحروب التي اندلعت بين المفكرين. إلا إن مؤلفاته الأكثر رواجاً تبقى، ومن دون منازع، تلك التي تناولت أدب الرحلات. كان يعشق السفر، وكتابه "حول العالم في 200 يوم" مازال قيد الطباعة حتى يومنا هذا. فقد كتب ببساطة ومن دون ادعاء، متجاوزاً الأسلوب التقليدي الصارم الذي اعتمده معاصروه. لقد عرف كيف يحكي قصة بقالب بياني أنيق.
أما في مجال الصحافة، فقد تتلمذ أنيس منصور على يد الأخوين مصطفى وعلي الأمين (وهما من أسوأ النماذج الصحافية التي أنتجها كل من الصحافة العربية المكتوبة ومحترفي فن الانتهازية السياسة والإثارة الإعلامية). بعدها مباشرة، بدأ عمله في الصحافة، وشهدت مصر حينها ثورة 23 يوليو. فعمل وتألق أثناء حكم عبد الناصر، وتبوأ مكانة مرموقة في الصحافة، حائزاً على أكثر من مكافأة حكومية، في ظل ذلك الحكم. ففي الفترة ذاتها، عمل في الإذاعة، والتلفزيون والصحافة المطبوعة.
وما أن فارق عبد الناصر الحياة، حتى ابتدع منصور قصة خرافية بشأن شخصه، مفادها أنه كان بطلاً وشجاعاً في دفاعه عن الديمقراطية في ظل حكم الرئيس الراحل، مدّعياً إنه تعرّض للاضطهاد بواسطة ذلك النظام. فما كان من السادات، إذ كان منهمكاً بتفكيك الإرث الناصري في مصر معانياً من عقدة نفسية عميقة اسمها عبد الناصر (تماماً كما عانى صدام حسين ومعمر القذافي، من بين آخرين، من العقدة إياها)، إلا أن افتتن بهذا الادعاء.
وهكذا أمسى منصور مقرّباً من السادات إذ أصبح مستشار البلاط ومهرّجه في الوقت ذاته. وكال المديح للسادات من دون تحفظ، مهاجماً أعداءه بضراوة. إلا إن سياسة الكاتب المصري لم تتسم يوماً بالجدية، إذ إنه كان يلبي مشيئة الحاكم ليس إلا. رافق منصور السادات في رحلته إلى القدس، في حين أن دعمه للسلام مع إسرائيل جعله يتبوأ مكانة خاصة عند السادات، لا عند الطبقة السياسية في مصر.

وتجدر الإشارة إلى أن آراءه في إسرائيل، تماماً كما السادات، أتت متلازمة لمعاداته للسامية. ولطالما تضمنت كتاباته وإشاراته التي تطرّقت إلى اليهود واليهودية دلالات سلبية. وما كان للسادات سوى أن كافأ منصور بمنحه صحيفة خاصة به، اسمها صحيفة تشرين. وكانت من بين الوسائل المتعدّدة الناطقة بلسان نظام السادات، واكتفت أبداً بذلك الدور.
وبعد اغتيال السادات، آثر منصور ألا يعبر عن مواقفه السياسية بشكل صريح وعلني كما تعوّد أن يفعل في السابق؛ فاحتفظ بعموديه في صحيفتي الأهرام والشرق الأوسط، وكان يتقن فن عدم إغضاب رؤسائه. ففي السنتين الأخيرتين، أصر على حضور حفلة زفاف الأمير عزّوز على الرغم من مرضه. أما مقالاته فكانت تقرأ على نطاق واسع: كانت خفيفة وممتعة لا تحمل أي عنصر تحدّ، ولم تكن يوماً أكثر من مسلّية. أما مواقفه المناهضة للمساواة مع النساء إضافة إلى كرهه للنساء، فكانت خرافية (وبذلك كانت مواقفه مماثلة لمواقف توفيق الحكيم من النساء)، تماماً كما كان عشقه للغات وللترجمة. وتماهياً مع سيرته، كان بديهياً أن يدعم أنيس منصور حسني مبارك حتى لحظة خلعه.
ونهاية، تجدر الإشارة إلى أن الصحافي المصري كان أيضاً شخصية تلفزيونية منذ عهد مبكر. فقد أجرى مقابلات تلفزيونية للمحطة الرسمية أثناء فترة تولي عبد الناصر الحكم (أي الفترة التي يدعي فيها إنه كان مضطهداً) وأدار حوارات مع العقاد وطه حسين.
لا شك أن أنيس منصور يمثل نموذجاً للانتهازية السياسية الموجودة في الصحف العربية، إلا أنه، والحق يقال، نموذجاً ناجحاً. تساءل في أيامه الأخيرة إذا ما كان أجدى به لو كان قد تفرّغ للفلسفة التي شكّلت محور اهتماماته في وقت مبكر. إلا أن كتاباته كانت متضاربة، إذ كان يهوى اقتباس الكتاب الغربيين، من دون أن يميز يوماً بين ما هو مثير وما هو جدي، أو يفرّق بين ما هو أكاديمي وما هو ثقافة سائدة شائعة. وقد عانى منصور، مثله مثل صحيفة النهار اللبنانية من عقدة الرجل الأبيض. فكان يعتبر أن كل ما يتفوه به الرجل الأبيض مهماً، وإنه لا بد من أخذ أقواله على محمل الجدية. وكان يبدو مستمتعاً برفقة الرجل الأبيض.
صحيح إن منصور خلّف مؤلفات وفيرة كان ينفد معظمها من المكتبات، إلا أن أغلبية كتاباته لا توفر للقارئ أكثر من التسلية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير