رحم الله ايام العمل التطوعي... بقلم: د.حسن عبد الله

12.07.2011 11:53 AM

كان الناس في بلادنا وبخاصة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، يتبارون في ميدان العمل التطوعي، انطلاقاً من قناعة راسخة مفادها "ما حك جلدك غير ظفرك"، في ظل احتلال يهيمن على المرافق ويتحكم في مستوى وحجم الخدمات، حيث كان المتطوعون يصلون الليل بالنهار، على قاعدة ان الشوارع والساحات للجميع، وان المؤسسات هي ملكية عامة، وتنظيفها وصيانتها وحراستها والارتقاء بمستواها، يشكل واجباً لكل مواطن فلسطيني على هذه الارض.

كانت النوادي والنقابات والجمعيات والجامعات والمراكز الشبابية حافلة بلجان العمل التطوعي، التي تستقطب الشباب والفتيات على حد سواء، بغية العمل من اجل خدمة مجتمهم. وكان اليسار الفلسطيني بكل اطيافه نشيطاً فاعلاً على هذا الصعيد، منطلقاً من ان العمل التطوعي، هو احد مكونات فلسفته المجتمعية. لذلك تعددت لجان العمل التطوعي تحت مسميات مختلفة. وبفضل الجهد التطوعي، كانت شوارعنا وساحاتنا نظيفة تحيط بها الاشجار اليانعة، نتيجة المتابعة والعناية.

وقد غابت عن المشهد حينذاك اكوام النفايات، التي اصبحت هذه الايام مظهراً عاماً في مدننا وبلداتنا، رغم الجهود الجبارة التي يبذلها العاملون في حقل النظافة، الذين ليس بمقدورهم وضع حد لعبث من حوّلوا الاماكن العامة الى مكب لقاذوراتهم، فذلك يحتاج الى جهات تتابع وتتصدى بحزم لكل من لا يحترم حرمة الملكية العامة، ولكل اولئك الذين شوهوا المنظر العام في بلادنا. وقبل ذلك يحتاج الى اعادة تثقيف مجتمعية تبدأ من روضة الاطفال وصولاً الى الشيخ الطاعن في السن.

والعمل التطوعي، يضرب جذوره بعيداً في تاريخنا، من خلال ما كان يسمى "العونة"، إذْ لا احد في القرية يشيِّد بيته بمفرده، الكل يبادر ويساند، لأن اضافة بيت جديد، يعني ضخ دماء اضافية في شرايين الحياة في القرية، اي انها ولادة جديدة.

اما موسما الحصيدة والزيتون فقد كانا  بمثابة "ام العونة"، فمن ينهي حصد محصوله وجني ثماره، لا ينتظر دعوة من جاره، بل يبادر ويهب لمساعدته واسناده، اذ من العيب ان ينظر الجار الى جاره وهو منهمك وحده في العمل، دون ان يقدم له يد العون.

اما في السنوات الاخيرة، سنوات البحث عن الذات، والركض خلف المصالح الفرديه، والغرق من الرأس حتى اخمص القدمين في الحياة الاستهلاكية، في هذه السنوات تراجع العمل التطوعي الى ادنى مستوى، وبتنا ننظر للتطوع كحالات فردية استثنائية تشذّ عن السياق.

وليس مفاجئاً ان نصل الى هذه النتيجة، بعد ان حاصرت وهمّشت الـ "أنا" المضخمة الـ "نحن" الجماعية. لتغرز المصلحة الفردية انيابها في جسد العام، تنهشه، تمزقه، تدميه. الـ "أنا" المضخمة تجعل الرجل والمرأة يجتهدان من أجل ان يكون بيتهما نظيفاً انيقاً مترفاً، مزيناً بالتحف والمزروعات البيتية، منتظرين تلقي اعجاب واطراء الزائرين. اما النفايات المتراكمة على الشارع امام المنزل فلا تعني لهما شيئاً، فالبيت هو بيتهما، والشارع للآخرين. وما دام الأمر كذلك، فليكن ساحة مفتوحة تتكدس فيها كل مخلفات اليوم، فالقمامة لا عنوان لها، ولا احد يستطيع ان يثبت من اين جيء بها.

وكما ان الشوارع والساحات عامة، فإن المؤسسات التي تقدم الخدمات الاجتماعية والتنموية والتثقيفية والتمكينية والتربوية للمواطنين، هي ايضاً عامة، وان استمراريتها وتطورها، تمثل احد اهم مظاهر استمرار وتطور المجتمع. لاسيما وان المؤسسة هي حجر الزاوية في المجتمع الحديث، فغياب المؤسسة، يدفع عجلة الحياة الى الخلف عقود وعقود، ويجعل المجتمع يركض مترنحاً هزيلاً خلف الحضارة فلا يدركها ولن يدركها.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، هل نحن الآن بحاجة الى العمل التطوعي، كما كنا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي؟

الجواب أجل، وربما تفوق حاجتنا ذلك اضعافاً، فالاحتلال صعَّب حياتنا، وهمش ريفنا، وقطَّع اوصال وطننا، كما ان الزيادة السكانية المضطردة تتطلب توظيف اكبر قدر من الامكانات والجهود، ومنها التطوعية، لكي يتسنى لإنساننا ان يواجه التحديات ويصمد امامها، وبالتالي يبقى منزرعاً في وطنه.

لكن تفعيل وتنشيط الامكانات التطوعية، بعد سنوات من القطع، ليس امراً تلقائياً، ولا يتم بـ "كبسة زر" او استجابة سريعة لدعوة كاتب حركه الحنين للعمل التطوعي، وانما يتطلب جهداً مجتمعياً بمشاركة السلطة والمؤسسات غير الحكومية والجامعات التي كان بعضها في يوم من الأيام يخصص ساعات معتمدة لجهد الطالب التطوعي، وبالتكامل أيضاً مع الدور الذي من المفروض ان يضطلع به الاعلام. اي اننا بحاجة الى خطة تثقيفية ممنهجة، لنعيد الاعتبار تدريجياً للعمل التطوعي، من خلال تجنيد الطاقات المهدورة في المقاهي وامام شاشات التلفزة تتابع الافلام والمسلسلات التي لا معنى لها، او في قتل الوقت بحلقةً في شاشات الكمبيوتر في استعمال سلبي للفيس بوك او البرامج الأخرى. بدل ان يقتصر العمل التطوعي على بعض الاجانب الذين يأتون الى بلادنا، بعضهم ينطلق من ايديولوجيا وتوجهات حقيقية جدية لمساعدة شعب مضطهد والتضامن معه، والبعض الآخر يتطوع ليتغلغل في مؤسساتنا لأهداف استكشافية او بحثية او دراسة سلوك ومزاج الشعب الفلسطيني والتعرف على واقعه عن قرب لحاجة في نفس يعقوب او ريتشارد او مايكل.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير