أزمةُ الرَّواتب غير مفتعلةٍ ومُضخَّمة، والآتي أعظم!..بقلم:هاني المصري

12.07.2011 11:04 AM

بعد توقيع اتفاق المصالحة بالأحرف الأولى، قام وزير المالية الإسرائيلي بوقف تحويل العائدات الفلسطينية من الجمارك؛ ما أدى إلى تأجيل صرف رواتب موظفي السلطة عن شهر نيسان لمدة أسبوعين، وعندما حل موعد صرف رواتب شهر أيار، أعلنت الحكومة أنها لا تعرف موعد صرف الرواتب، لأنه يتعلق بوصول المنحة الجزائرية، وبعد هذا الإعلان بأقل من 24 ساعة تم صرف الرواتب.

في بداية هذا الشهر، صرفت الحكومة نصف راتب شهر حزيران بسبب عدم دفع بعض الدول العربية لالتزاماتها، وحذرت السلطة على لسان الرئيس ورئيس الحكومة بأنها مقبلة على أزمة مالية قد تطول، وطالبت بالتقشف لمواجهة هذه الأزمة دون أن تفعل شيئًا في هذا الخصوص. وبررت السلطة عدم لجوئها للقروض بأنها استنفذت إمكانية الاستدانة، ووصلت إلى السقف المسموح به، حيث أنها تغرق في ديون ليست أقل من ملياري دولار.

هناك من اعتبر أن الأزمة مفتعلة، وتساءل عن مغزى ظهورها في هذا الوقت بالذات، وعزا ذلك لأغراض سياسية، حيث تفجرت بعد اتفاق المصالحة لتصب في صالح تزكية ترشيح سلام فياض لرئاسة الحكومة، من خلال الإيحاء بأنه الشخص الوحيد المقبول دوليا، ومن دونه ستعاني السلطة من صعوبات كبيرة، ولن تصرف الرواتب، وقد تصل بها الأمور إلى انهيارها.

ويذهب أنصار هذا التفسير إلى حد القول إن هناك أموالا للسلطة يتم حجبها أو صرفها على بنود أخرى تتعلق بالمزايا والامتيازات والرواتب العالية لبعض الموظفين، وشراء السيارات أو سداد التزامات مهمة أخرى على الحكومة، لكنها لا ترتقي إلى أهمية الرواتب. ويتساءل هذا الفريق لماذا يظهر اليوم حديث الأزمة والعجز والديون بعد أن أغرقنا لمدة عامين بأحاديث عن "المعجزة الاقتصادية" و"النجاحات المؤسسية الباهرة"، وعن الاستعداد للاستغناء الكلي عن المساعدات الخارجية بحلول عام 2013، رغم أن التنمية التي تحقت غير مستدامة، وأن مستويات المعيشة -كما كتب الدكتور محمد نصر- الآن أقل مما كانت عليه عام 1999 البالغة حوالي 8.5%، وهي لا تزيد كثيرًا عن مستوياتها عندما تأسست السلطة عام 1994.

وأما الفريق المدافع عن الحكومة فيعزو الأزمة إلى تأخر تحويل الأموال من الدول العربية، ويعتبر أن الحملة على رئيس الحكومة ظالمة، وتعود إلى أسباب فردية وفئوية وفصائلية تستهدف إبعاد فياض من موقعه لإبعاده عن لعب دور سياسي لاحق. ويضيف: إن الحكومة أبدعت وحصلت على شهادات تفوق من المؤسسات الدولية، وحققت نسبة نمو بلغت 9.3% عام 2010، ما جعلها تحصل على تأييد شعبي غير مسبوق.

ويتابع هؤلاء، إن فياض ورث وزارة مثقلة بالديون للموظفين وللقطاع الخاص والبنوك المحلية وللصناديق العربية استطاعت أن تسدها، وتنتظم في دفع الرواتب، وتقليص الاعتماد على المساعدات الخارجية بنسبة النصف من 1,8 مليار دولار عام 2008 إلى 970 مليون دولار هذا العام.

ويحاول أنصار الحكومة إرجاع الأزمة الحالية إلى سياسة التوظيف السياسي التي قام بها الرئيس الراحل ياسر عرفات، حيث وجد أن التوظيف وسيلة لحل مشكلة البطالة في مجتمع فقير محتل ومحاصر، إلى درجة أن عدد موظفي السلطة وصل إلى 180 ألفا، لكن فياض عمل على تقليصه إلى 150 ألفا عبر إلغاء وظائف وهمية، وإحالة نسبة كبيرة من العسكريين إلى التقاعد المبكر.

ويرى فريق ثالث إن الأزمة حتمية، ومستدامة، وغير مفتعلة، لكنها تقزم أحيانا ( قبل المصالحة) وتضخم بعدها، وهي أزمة إن لم تنفجر الآن ستنفجر لاحقا؛ لأن الحكومة تجاهلت الأزمة سابقًا وتديرها حاليًا ولا تعمل على معالجتها، وتتصرف وكأنها أزمة جديدة مفاجئة، وهذا غير صحيح على الإطلاق.

لقد أخفت الحكومة الحقيقة في حديثها عن النمو والتقدم وبناء المؤسسات والشهادات الدولية، و"إن العالم وقع على ميلاد الدولة الفلسطينية وننتظر حفل التخرج" كما صرح بذلك وزير التخطيط، رغم أن الاستثمار في القطاعات الإنتاجية الرئيسية لا يزيد عن 5% من الناتج المحلي الإجمالي، واستثمار القطاع الخاص شبه غائب، والاستثمار الرأسمالي الثابت يتركز في المباني.

لقد صدّقت الحكومة ما ادّعته، ولا تريد أن تصِّدق الوقائع التي أتت لتكذِّبه، وصدقت أن طريق بناء المؤسسات وإثبات الجدارة سيؤدي إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة، وعندما أعلنت عن استكمال جهوزية مؤسسات الدولة لم تولد الدولة، وإنما ظهرت الأزمة المالية. ويلوح في الأفق أزمة أكبر جراء تجاهل الحقيقة الأساسية وهي أن فلسطين تحت الاحتلال، وأن الشعب والسلطة والقيادة رهينة له، وأن مصير السلطة متوقف على رضى الاحتلال والولايات المتحدة الأميركية عنها. وأنّ التقدم الذي حققته كان ثمنه باهظًا جدًا جدًا مقابل إسهامها في برنامج سياسي يقوم على تطبيق الالتزامات الفلسطينية (خاصة الأمنية) في خارطة الطريق من جانب واحد، ووقف المقاومة ومحاربتها والاكتفاء فقط بتحسين شروط الحياة تحت الاحتلال إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وساهم في وقوع الانقسام واستمراره وتعميقه، ولا يتحمل المسؤولية عما سبق الحكومة ورئيسها فقط وإنما القيادة والرئيس والمؤسسات الشرعية في السلطة والمنظمة.

هل أصبح لدينا مؤسسات دولة، وهل إقامة المؤسسات الجيدة يؤدي إلى إقامة الدولة، أم أن الدولة لا تقام إلا بإنهاء الاحتلال الذي لن يتحقق إلا باعتماد برنامج سياسي قادر على إنهاء الاحتلال؟

لقد حصل جنوب السودان على الدولة، لأنه انتصر على الأرض دون أن يكون له مؤسسات، ونحن لدينا مؤسسات أعلن أنها نموذجية، ولكننا لا نقترب من قيام الدولة رغم اقتراب الوعد بقيامها وفقًا لخطة الحكومة ووعد أوباما.

هناك أسئلة تطرح نفسها تحتاج إلى إجابة صريحة وجريئة عنها.

السؤال الأول: كيف تفسر السلطة انفجار الأزمة عشية الميلاد المفترض للدولة الفلسطينية، الذي كان متوقعا في شهري آب أو أيلول المقبلين، وقبل أن توقف إسرائيل تحويل العائدات الجمركية، وقبل أن تأخذ الإدارة الأمريكية بقرار مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين بوقف المساعدات للسلطة إذا مضت في المصالحة الوطنية واللجوء إلى الأمم المتحدة؟ هل الحل بعدم إنجاز المصالحة وعدم الذهاب إلى الأمم المتحدة أو تخفيف صيغة الذهاب لتجنب الفيتو الأميركي بالذهاب فورًا إلى الجمعية العامة؟

السؤال الثاني: لماذا لم تستعد السلطة في يومها الأبيض لليوم الأسود، الذي كان واضحا أنه آت بعد التهديدات الأميركية والإسرائيلية بوقف المساعدات وتحويل العائدات إذا مضت السلطة في المصالحة واللجوء إلى الأمم المتحدة، وما يقتضيه ذلك من إعادة النظر في الأولويات والاحتياجات والنفقات، وعمل خطة تقشف حقيقية، وبناء "اقتصاد صمود" بقيادة سلطة تحت الاحتلال؟ ولماذا لم يتم خفض نفقات الأجهزة الأمنية التي تراوحت منذ تأسيس السلطة ما بين 22% إلى 35% من موازنة السلطة، بينما موازنة الصحة والتعليم والزراعة والصناعة والثقافة لا تكاد تذكر؟

السؤال الثالث: إذا كانت السلطة قد صدقت ادعاءها بأن الدولة قادمة في شهر أيلول القادم، لماذا استمرت في هذا الوهم حتى بعد تراجع أوباما عن وعده بقيام الدولة، وبعد عجزه عن إقناع إسرائيل بتمديد تجميد الاستيطان ولو لفترة قصيرة؟

السؤال الرابع: لماذا لم تحول الدول العربية التزاماتها، وكيف يمكن إقناعها بتحويلها؟

إن الإنجازات التي حققتها السلطة لا يمكن إنكارها، ولكنها غير مستدامة ويبالغ فيها، ومرهونة بالرضا الأميركي والإسرائيلي.

إذا قاومت السلطة حتى لو بمقاومة شعبية ووحدت الشعب وقواه ولجأت إلى الأمم المتحدة أو أي خيارات بديلة فستحاصر وتعاقب. وبالتالي أصبحت السلطة عبئا على القضية الوطنية، ولا بد من إعادة النظر بوضعها والتزاماتها وموازنتها ووظيفتها كي تصبح في مكانها الطبيعي كأداة من أدوات المنظمة.

وحتى يمكن تحقيق ما سبق، لا بد من وضع إستراتيجية جديدة إستراتيجية وحدة وصمود ومقاومة وتحرك سياسي قادر على تحقيق الأهداف الوطنية.

تأسيسًا على ما سبق، فالمسألة ليست مسألة سلام فياض، وإنما هي مصير سلطة مقيدة تحت الاحتلال، ومفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، وبناء المؤسسات الذي لم يحقق الدولة، والمقاومة المعلقة إلى إشعار آخر، فما العمل؟

المطلوب مسار جديد يوحد الشعب والقوى حوله، مسارٌ قادرٌ على إقناع العرب وأحرار العالم بتقديم الدعم الحقيقي واللازم، وليس التذرع بالانقسام تارة، وبالمصالحة تارة أخرى، وبعدم فهم السياسة الفلسطينية تارة ثالثة ورابعة، والتحجج بعدم زيارة رئيس الحكومة للبلدان العربية واستقوائه هو والسلطة بالإدارة الأميركية كما تزعم هذه البلدان تارة خامسة

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير