بين الانتماء إلى المعركة الاجتماعية وأدلجة ضيق الأفق !...بقلم: عصام مخول

06/08/2011

المعركة الاجتماعية المتدحرجة الآخذة بالتراكم في إسرائيل اليوم، تشكل علامة فارقة وتطورا نوعيا غير مسبوق، يضع أكثر من علامة استفهام على المقولات التاريخية المؤسّسة للخطاب الفكري والاجتماعي المهيمن في إسرائيل ، وعى ذلك المشاركون في هذا الحراك الشعبي الواسع أم غفلوا عنه.

والحقيقة أن السياق الذي يجري فيه هذا الحراك ويمده بهذا الزخم ، ليس سياقا محليا إسرائيليا وإنما سياق العولمة الرأسمالية المأزومة،  وفشل الليبرالية الجديدة ، التي نشرت الوهم بأن إطلاق أيدي الاقتصاد الحر (حرية رأس المال وعبودية العمل) ، كفيل بتحقيق جنة الرأسمالية على الارض وتعميمها ، ولكنها في الواقع عمّقت الفقر والاستغلال والتبعية والحروب، بشكل مرعب ومتواصل ومتراكم .

ولم تقتصر الليبرالية الجديدة على التنكر لحقوق الطبقة العاملة التقليدية، ولكنها وجهت ضربة قاصمة، لأوهام الطبقات الوسطى التي اعتقدت للحظة أنها "عماد" الرأسمالية المعولمة و"الاقتصاد الجديد"، فما لبثت أن اكتشفت أنها ليست أكثر من حطب في جحيم سياسة الخصخصة وتعميق التقاطب الاجتماعي، في خدمة أرباح رأس المال الكبير وهيمنته، على حساب أوهامها هي .

 وإذا كانت الأزمة الرأسمالية قد اتخذت أشكالا مختلفة في مواقع متفرقة من النظام العالمي ذي القطب الواحد،  من أزمة الديون الأمريكية مؤخرا، وأزمة دول الاتحاد الأوروبي التي انفجرت في اليونان واسبانيا والبرتغال ، مرورا بدول أمريكا الجنوبية والعالم العربي، ووصولا إلى إسرائيل، فإن أشكال المقاومة الشعبية والطبقية لتبعات هذه الأزمة اختلفت أشكالها هي الأخرى من موقع إلى آخر، ولكنها احتفظت بجوهر مشترك تلتف من حوله الطبقات الشعبية وضحايا الليبرالية الجديدة بكل شرائحها، بما في ذلك في إسرائيل، وفي صلبه رفضها أن تحمل عبء الأزمة الرأسمالية العالمية وعجزها عن أن تدفع ثمنها، واستعدادها  للنزول إلى الشوارع وميادين التحرير بهدف إسقاط النظام القائم وفرض سلم أولويات اجتماعي – اقتصادي- سياسي بديل .

إن ما يميز هذا الحراك الاجتماعي في مواجهة الأزمة الرأسمالية العالمية ويزيد من أهميته ، لا ينحصر في كونه حراكا متزامنا في مواقع متفرقة من مراكز العالم الرأسمالي ومن أطرافه ،  وإنما يميزه أيضا، أنه حراك مترابط ومتواصل ومتكامل.  وإذا كانت العولمة هي الطابع المميز للرأسمالية الجشعة في المرحلة التاريخية الراهنة ، فإن ما نشهده اليوم من زخم الحراك الاجتماعي والشعبي وامتداده عالميا بما في ذلك إلى إسرائيل ، يوحي بفرصة حقيقية لم تصل أوجها بعد، لبلورة مقاومة اجتماعية معولمة بدورها أيضا، تكفر بالليبرالية الجديدة وتعلن المواجهة مع قواعد اللعبة التي فرضتها وتطالب بعقد اجتماعي بديل.

ومن المفارقات أن ميادين التحرير العربية المنطلقة من القاهرة  وتونس والتي لم تنه مهماتها بعد ، تحولت إلى مصدر وحي وإلهام عالمي لثقافة مقاومة اجتماعية وسياسية مبدعة في هذا السياق، وباتت تشكّل نموذجا ومصدر وحي وإلهام، للهبة الاجتماعية غير المسبوقة في مراكز المدن والبلدات في إسرائيل أيضا ، مهما أنكر رئيس الحكومة نتنياهو هذا الرابط ومهما نأى عن نفسه منه ("هآرتس" – 5.8).

الاحتجاج الاجتماعي والتفكيك الايديولوجي

إن تطور الاحتجاج الاجتماعي الآخذ بالتراكم في إسرائيل اليوم ، وسعته وسياقه العالمي ، يزعج أكثر ما يزعج المؤسسة الصهيونية الحاكمة في إسرائيل.  وهو يتناقض جوهريا مع مقولاتها الفكرية والسياسية السائدة، وينسف فكرها القومي الضيق، الذي يرفض التعامل مع المجتمع الإسرائيلي كمجتمع رأسمالي طبقي عادي، خاضع لقوانين التطور الاجتماعي العامة.

وعوضا عن ذلك، فإن الفكر والممارسة الصهيونية تقوم على نشر الوهم والتضليل، بأن الصراع الطبقي والتناقضات الاجتماعية لا تنطبق على الشعب اليهودي في إسرائيل ، فاليهود ، كل اليهود ، يشكلون حالة تاريخية استثنائية تلاحقها لاسامية أبدية، تقع خارج دائرة الصراع الطبقي والتناقضات الاجتماعية الطبقية . واليهود في المفهوم الصهيوني القومي الضيق، يقبعون في قارب قومي واحد بين فكي الصهيونية المستندة إلى منطق التخويف، والعدوان وإثارة الأحقاد العنصرية ، بينما العرب كل العرب يقبعون في قارب نقيض. والغريب أن بعض "القوميين" العرب يستطيبون الوقوع في شراك الفكر الصهيوني المأزوم ، يتقمصون مقولاته الأساسية ، ومن موقع الأفق القومي الضيق نفسه، يكررون مقولاته المتنكرة لوجود تناقضات طبقية بين اليهود، ليصبح هؤلاء "القوميون" الوجه الآخر للعملة الصهيونية ذاتها. يتغنّون بالتسطيح الفكري والسياسي و"يأدلجون" ضيق الافق ، ويسألون سؤال المستنكر: كيف يمكن الحديث عن صراع طبقي في اسرائيل ؟  في ظل صراع قومي دام ؟  وكأن الموقف من الصراع القومي ليس موقفا طبقيا. ان فهم الصراع القومي ليس معزولا عن المنطلقات الطبقية في قراءته ، وإلا لما اختلفت مواقف الرئيس المصري "القومي" المخلوع ورموز حكمه الطبقي، عن مواقف ثوار ميدان التحرير، ولما اختلفت مواقف الطنطاوي والعدلي عن مواقف الشيخ إمام وعمال المحلة الكبرى وشركة قناة السويس .

إن التوجه الطبقي والأممي لا يتجاهل الصراع القومي بل يواجهه بالتزام وطني ومثابرة أكثر من أي توجه آخر، ولكنه يقسّم العالم بطريقة مغايرة. ان التقسيمة الأساسية بالنسبة لنا في إسرائيل ، ليست بين اليهود ،كل اليهود من جهة، والعرب، كل العرب من الجهة الاخرى، وإنما بين أولئك الذين لهم مصلحة في الحفاظ على النظام الطبقي والاجتماعي والسياسي الصهيوني القائم ، وأولئك من اليهود والعرب ، الذين لهم مصلحة في تغييره تغييرا جذريا. إن هذا التغيير لن يحدث بمعزل عن وزن الاقلية القومية العربية ، ولكنه لا يمكن أن يحدث بفعل نضالها وحده ومن دون إحداث التغيير في داخل شعب الاكثرية. ومهمتنا الصعبة والمعقدة لا تقتصر فقط على النضال لتحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال والهيمنة الصهيونية ، إن الشيوعيين اليهود والعرب يناضلون إضافة إلى ذلك من أجل تخليص الشعب اليهودي نفسه من براثن الهيمنة الصهيونية الأيديولوجية والسياسية. وهذا لا يتم بتقديس وتكريس ضيق الافق. 

  يأخذ علينا بعضهم اننا نشيد بالمقاومة الاجتماعية في إسرائيل بينما تمارس اسرائيل اضطهادا قوميا ضد العرب. ليس هناك أي تناقض بين قيام التقدميين العرب واليهود بمقاومة سياسة الاضطهاد القومي ، ومقاومة الاحتلال، والدفاع عن الحقوق القومية للشعب الفلسطيني والتصدي للتدهور الفاشي من جهة، وبين الانضمام بقوة إلى مقاومة الظلم الاجتماعي الرأسمالي اللاحق بالعاملين والمنتجين العرب واليهود. العكس هو الصحيح ، فإن ربط المعركة على التغيير الاجتماعي  بالمعركة على التغيير السياسي وما يرافق ذلك من تغيير في الوعي، يشكل شرطا أساسيا للنجاح في المعركة الاجتماعية والسياسية سواء بسواء. ولكن أولئك "القوميين العروبيين" الذين يضيقون ذرعا، ويتأففون بسبب تفاعل الجماهير العربية مع المعركة الاجتماعية العامة، فإنهم يلعبون بشكل طوعي بائس على ملعب  غلاة اليمين الإسرائيلي المتطرف، المشغول في هذه الأيام بسن القوانين العنصرية لإقصاء الجماهير العربية المنهجي وحرمانها بالقانون ، من حقها بإلقاء وزنها والتأثير على الساحة الإسرائيلية اجتماعيا وسياسيا وفكريا .

إن الفرصة لإحداث التغيير في إسرائيل من خلال الحراك الاجتماعي المتصاعد ، ليست فرصة لليهود مقابل العرب ، وليست فرصة للعرب مقابل اليهود ولكنها فرصة ضحايا النظام القائم وضحايا سياساته الليبرالية الجديدة، بما فيها الاقلية القومية العربية الفلسطينية وحقها بالمساواة الكاملة في الحقوق القومية والمدنية، من العراقيب وما بعدها جنوبا وحتى سخنين وما بعدها شمالا، في مواجهة النظام اليميني المتطرف اجتماعيا وسياسيا .  وهي فرصة مرهونة بمدى جاهزيتهم ، عربا ويهود، للنزول إلى الشوارع ونصب خيام الاحتجاج ، والانخراط  في هذه المقاومة الاجتماعية الزاخرة التي لا تنحصر في مطالب فئة محددة أو قطاع واحد، بل ترتقي الى مطلب أساسي جامع : تغيير النظام وتغيير السياسة السائدة وتحقيق العدالة الاجتماعية. 

نحن ننتمي باعتزاز الى هذه المعركة الى يهودها وعربها ، الى المتظاهرين في ميادين التحرير العربية، الى المتظاهرين ضد الليبرالية الجديدة في شوارع اثينا ومدريد وباريس وكراكاس وهافانا وريو وتل ابيب، اولئك اخواني واولئك شعبي. هل يغضب هذا أيديولجيي ضيق الافق؟ نحن الذين حفرنا في الوعي في وثيقة السادس من حزيران 1980 مقولة : "إننا جزء حي وفاعل ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني ، لم ننكر ولا يمكن ان ننكر حتى لو جوبهنا بالموت نفسه انتماءنا الى شعبنا الفلسطيني العريق .." إن الانتماء الى المعركة الاجتماعية لا ينتقص من انتمائنا الفلسطيني بل يزيده انسانية وفخارا.