وردة حمدان

11/01/2018

كتب عبد الله ابو شرخ: هجم الجندي على حمدان مدرس التربية الفنية بمدرسة القرية، وشده من القميص البرتقالــي الكئيب ودفعه بقوة لينضم إلى بعض رفاقه المعتقلين منذ أيام في أحد السجون الإسرائيليـــــة. كانت الأنفاس محبوسة وسرعة ضربات القلب في علو وانخفاض، وظـل السـؤال عالـقا فـي الأذهان: لماذا أخرجونا من نظارة الحجز؟

كان هاجس التحقيق وما يتخلله من اختناق وتعذيب يملأ القلوب، ويرتسـم عـلى الوجـوه التـي بدت صفراء نحيفة لقلة الطعام - على سوئـه - لكـن الهواجـس تبـدلت فـجأة. ذلـك أن الحـراس قد اقتادوهم في الممر الطويل إلى فناء السجن ولم ينعطفوا بهم إلى الدهليز المؤدي إلى أقبيـة التحقيق، وبعد لحظات تبين أن المقصود هو تكليف من مدير السجن بأن يقوم بعض" الحثالــة العرب " بتنظيف روث الخيول التابعة للضباط - بجمعـه ومن ثم حملــه في حاويـات لإلقائـه فـي الساحة الرملية الواسعة.
لم يشعر حمدان بمرارة يمكن أن تضاف لما حدث في قريته ليلة الاجتياح فهو حتى اللحـظـة لا يعلم على وجه التحديد الكثير من التفاصيل حول المآسي التي أوقعها الفاشيون لكـن شـيئـا ما تحرك في أعماقه حول الطريقة التي يفكر بها الجنود الإسرائيليون. كان كـل مـا عــرفـه عن العنصرية الصهيونية يتجسد أمام ناظريه في كل لحظة، فالعرب في نظر هؤلاء ليســوا سوى " كائنات ضارة " لا علاقة لهم بالمدينة والحضارة وحدث نفسه حول شراهة القتل الإسرائيليـــة ومصادرها التربوية فقرر الرد على الفور وبأي وسيلة كانت.

لم يفهم رفاق حمدان لماذا كان مصرا على أماكن بعينها لدلق القمامة ولكن حبهم له جعلهــم ينفذون طلبه من دون الكثير من التردد. وفي نهاية الأسبوع بدأ الرفاق ليحظون ما ينــفــذه حمدان. فقد كان يبني وردة هائلة تغطي الساحة كلها و فهموا أبضا لماذا كان مصرا حـتــى على تـحدـيد أمـاكن بعينـها للروث الخـشن وأخـرى للأنـواع الأقـل خشونة. وبعد بضعة أيـام حدثت جلبة و ضجة من بعض الجنود عند نقطة المراقبة في نهاية الساحة، وبـعد دقائق كان حمدان وباقي فريق التنظيف رهن التحقيق !

كانت الشمس تعكس أشعتها الحمراء الذهبية، في الوقت الذي كـان فيه مـديـر السجـن يتأمـل الوردة العملاقة من نقطة المراقبة. كان الضوء ينعكس على الأكوام الداكنة فيكسبـها حــركة وهمية تزيدها سحرا؛ تراءت له ابنته التي تحـب الورود وتمنـي للـحـظـات لو أنهـا بـرفقتــه لتسعد برؤية هذه الوردة العجيبة؛ تمني أيضا لو أن أمه تراها.

وفجأة هبط مدير السجن درجات السلم الحديدي الرفيع بسرعة. واتجه بخطى متسارعة إلـى غـرفة مـكتبه فـوجد المـأمور قـد تـرك ورقة كتـب عليـها " انتهى التحقيق وتم التعرف علـى الشخص الذي رسم الوردة، وما زال معزولاً لدينا .. بانتظار أوامركم " .. فتح سدادة قلمـــه وكتب على نفس الورقة: " دعه يعود إلى الحجز حيث رفاقه "، ثم تناول ورقة جديدة وبدأ يكتب" تحياتي وتقديري سيدي الجنرال .. تم العثور على فنان تشكـيـلي معتقل لديـنـا منـذ اجـتـيـاح بـعـض المـناطق التي يسكنها العرب، وقد رسم وردة عجيبة في منتهى الروعة مستخدما روث البهائم .. سيدي لم أرى مثلها في حياتي .. ما زلت أذكر جيدا كلام مدرس المدرسة والحـاخـام عن العرب وقذارتهم و وحشيتهم .. تعال وشاهد بنفسك كيف قام هذا الفنان بتحويل القذارة إلى وردة ساحرة بقدرة وإبداع يعز نظيرهما .. سيدي أتوسل إليكم تدبير أي إجراء من شأنه إن يساعد في إطلاق سـراح هذا الفنـان .. أو أن تـتـكرموا بقبول طـلبي الاستقالة ".

صرخ مساعد وزير الداخلية ساخرا وهو يقلب أوراق الملف: شيء رائع بالفعل .. إسرائيل في حالة حرب مع " الإرهابيين "، وقد تندلع الحرب ضد سوريا وتحـتـرق حدودنا مع لبنان و باقي العرب؛ كل ذلك والأحمق يتعاطف معهم .. شيء ممتع فعلاً.

بعد دقائق كان الاجتماع الطارئ منعقدا في وزارة الداخلية لينتهي بصدور قرارين، يقضــــي الأول بنقل فوري للسجين الرسام إلى سجن آخر وتشتيت باقي رفاقه إلى سجـون أخــــرى، فيما يقضي الثاني بالإيقاف الفوري لمدير السجن عن العمل وإحالة الملف إلـى المـحكـمــة العسكرية المختصة مرفقاً بطلب النيابة العسكرية للنظر في القضية بصفتها خيانة عظمى.