تدوير بقايا الطعام.. بين روعة الأفكار وتحديات التطبيق

16/04/2018

وطن للأنباء- عمر عاصي:

مع أننا نعيش في عصر نتخيّل فيه أنه لم يعد هناك شيء عصيّ على التكنولوجيا والماكينات، إلا أن الواقع مُختلف. واقع النفايات ومُعالجتها يؤكد أن الحلول التقنية يُمكن أن تكون نافعة، فقط عندما تتعاون الأطراف كُلها، ابتداء من المواطنين الذين يُساهمون في الفرز وانتهاءً بالحكومات التي تسن القوانين والعقوبات، ولأن الأمور ليست ورديّة غالبًا فإن الكثير من الأفكار لا تزال بحاجة إلى المزيد من التطوير، كي تكون قابلة للتطبيق صناعيًا، ومُجدية إقتصاديًا، وغير ضارة بيئيًا .. ومقبولة اجتماعيًا!

خرسانة غزّاوية .. من النفايات العضوية
لأن الحصول على مواد البناء في غزّة، مسألة صعبة وصعبة جدًا، فقد كانت فكرة تحويل النفايات العضوية إلى إسمنت فكرة مُلهمة لثلاثة مُهندسات من غزّة، ومن ثم للصحفيين الذين سارعوا للكتابة عن هذه "الفكرة الجهنمية". نحن غالبًا لا نعرف عن نفايات المطبخ إلا رائحتها الكريهة ولا نتخيّل مثلًا أن نبني منازلنا منها.. وبحسب ما جاء في مقابلة معهن فإن المسألة لا تحتاج إلا إلى فرن تصل درجة حرارته إلى 1000 درجة مئوية، حيث تُدخل النفايات العضوية فيه وتمكث ليومين قبل أن تتحول إلى رماد، ويُمكن لهذا الرماد أن يُشكّل بديلًا لـ 70% من الرمل المستخدم في صناعة الخرسانة. وللعلم فإن كل 100 طن من النفايات العضوية الجافة يُمكنها أن تنتج طناً من الأسمنت بعد إجراء عملية الحرق.

أين المُشكلة؟ المُشكلة أن غزّة كُلها لم يكن فيها إلا فرن واحد يصل إلى 1000 درجة مئوية وسعته بالكاد تكفي لـ 3 كغم كما أكدت إحداهن، هذا عدا عن أن تطبيق هذه الفكرة على مستوى تجاري قد يتطلّب كميّات هائلة من الطاقة وهو ما لا يتوفر في غزّة.. ولكن العقبة الأكبر تكمن في إشكالية الثقة في جودة هذا المُنتج والأسئلة المتعلقة بالسلامة التي قد تخطر ببال أي رجل أعمال أو بنّاء وهو يُفكر أن مادة البناء التي قام بشرائها أو باستخدامها هي بالأصل نفايات عضوية.. تمامًا كالتي يقوم بإلقائها هو وعائلته كُل يوم.

الديدان.. الذباب والخنازير!

ولأن التفات الصحافة حول فكرة ما لا يعني بالضرورة إمكانية تطبيقها بين ليلة وضحاها، كما أن ابتعاد الصحافة عن فكرة ما لأنها "مملة" لا يعني أنها سيئة بالضرورة.. تمامًا مثل قُدرة الحيوانات على "مُعالجة النفايات العضوية"، فالكثير من الحيوانات التي تعيش بيننا تتغذى على بقايا الطعام وبالتالي تُساهم في التخفيف من العبء المُلقى على البلديات في جمع النفايات والتخلص منها، وهناك حيوانات لها قدرات خاصّة في هذا المضمار.

بحسب موقع ips فإن "الخنازير كانت محور نظام إدارة النفايات التقليدي في القاهرة، لأنها كانت تستهلك ما يصل إلى ثلث الـ 20 طناً من النفايات اليومية التي ينتجها سكان المدينة، البالغ عددهم 18 مليوناً"، ولكن الأمر اختلف بعد انتشار انفلونزا الخنازير عام 2009. أما وكالة شينخوا الصينية فقد نشرت تقريرًا حول تجنيد "ذباب الجندي الأسود" في عملية معالجة نفايات المطابخ، فهذا الصنف من الذباب يعيش حتى 35 يومًا ويتغذى على هذه النفايات وتتم حاليًا معالجة ما بين 3 و4 أطنان مترية من نفايات المطابخ يوميا في معامل خاصة، وسيزداد الحجم إلى 100 طن قريبًا.

المُشكلة أن العواقب البيئية في تطبيق فكرة المعالجة بالذباب، ورغم كُل مُحاولات بث الطمأنينة أن هذا الصنف من الذباب يخاف من الناس ويبقى بعيدًا عنهم وبالتالي فمن الصعب الحديث عن "غزو الذباب" وبالتالي انتشار الأمراض. كل هذا لا يمنع الناس من أن تتخوف من تقبّل تطبيق هكذا فكرة على نطاق واسع، فمن قال أن الأمراض لا تنتشر إلا بالاحتكاك المباشر مع الذباب؟ 
إحدى الأفكار المميزة التي تستحق الاهتمام رُبما في هذا المجال، وهي سريعة الانتشار، هي فكرة "سماد الديدان" وهو معروف بفوائده المميزة للتربة فهو غني بمادتي حامض الهوميك وحمض الفوليك، والتجارب في هذا المجال كثيرة جدًا ولكن أحد معامل السكر التركية قرر أن يقوم بتدوير نفاياته العضوية بمساعدة خمسة ملايين دودة وكانت النتيجة: إنتاج 13 طن من سماد الديدان في العام!

إنتاج الغاز الحيوي.. من بقايا الطبخ

مع أن فكرة الاستعانة بالديدان في عملية انتاج السماد من بقايا الطعام مميزة جدًا، إلا أن فكرة انتاج الغاز من بقايا الطعام أكثرة إثارة، خاصّة عندما نسمع الأرقام التي تذكر في هذا السياق. في الجزائر يتحدث خبير عن إمكانية إنتاج مليار متر مكعب من الغاز الحيوي من النفايات العضوية وهو ما يعادل 2000 جيغاواط من الكهرباء سنويا، وهو ما يكفي لسد حاجة 1.5 مليون مواطن جزائري. أما في مصر فيتحدث سياسي من حزب المحافظين عن النفايات باعتبارها "منجم ذهب" وأن استخدام 12 مليون طن من أصل 20 مليون طن من النفايات سنويًا في إنتاج الطاقة سيقضي على مُشكلة النفايات في مصر. أما في الضفة الغربية وقطاع غزّة فإن التقديرات تذهب إلى أنه بالإمكان إنتاج أكثر من 30 ميغاواط من النفايات العضوية.

فهل المسألة بسيطة حقًا؟ على موقع Youtube مثلًا، كثيرًا ما تبدو الفكرة بسيطة جدًا، وقد يُخيل للبعض وهو يُشاهد فيديو حول معالجة النفايات؛ أن بإمكانه أن يُصبح تاجراً للغاز الحيوي لمجرد أن يبدأ بمعالجة النفايات، ولكن القليل من البحث يؤكد أن الرياح لا تجري كما تشتهي السفن أحيانا، فاستخدام المنظومات المنزلية قد لا يكون ناجعًا في الشتاء وبالتالي فإن التفكير بالاعتماد على أنظمة البيوغاز البسيطة للتدفئة في الشتاء ليست أفضل فكرة، فبحسب الخبير الألماني هارتليب اويلر فإن: "تكنولوجيا المعالجة اللاهوائية، التي تعتمد على البكتيريا لتفكيك النفايات، تحتاج إلى مناخ دافئ. وفي ألمانيا يتم انتاج هذا المناخ الدافئ اصطناعياً بواسطة نظم معقدة للعزل والتدفئة، مما يستهلك نحو 30% من الطاقة المنتجة ويزيد كلفة محطات المعالجة".
من الجدير بالذكر أن "اويلر" يُؤكد أن مناخ المنطقة العربية ممتاز لهذه المعامل بشكل عام، ولكن ماذا عن تكلفة التشغيل والصيانة الدورية التي لا يُمكن للدول العربية تحملها كما هو الحال في ألمانيا، حيث يتحمل المواطن العبء الأكبر من هذه التكاليف من خلال "رسوم النفايات" الباهظة!

التسبيخ والكومبوست

إذا كانت المُعالجة اللاهوائية للنفايات العضوية تُحول بقايا الطعام إلى غاز حيوي، فإن المُعالجة الهوائية تهدف إلى تحويل بقايا الطعام إلى مادة لتحسين التربة وتُعرف باسم سماد عضوي أو "كومبوست". أما العمليّة نفسها فتسمى "التسبيخ" وهي عملية ليست حديثة، بل من أقدم عمليات معالجة النفايات التي عرفها البشر فهي ليست معقدة، ولكنها ليست بسيطة جدًا أيضًا!

الأكيد أن التقنية بسيطة عندما لا نتحدث إلا عن بقايا طعام، ولكن المُشكلة في النفايات المطبخية أنها كثيرًا ما تُخلط بالنفايات البلاستيكية والزجاجية والمعدنية وبالتالي فإنها تتلوث ويصبح الحصول على السماد العضوي الجيّد مسألة صعبة، وصعبة جدًا أحيانًا، والكثير من الأبحاث العلمية تبحث اليوم كيفية رفع جودة الأسمدة المُنتجة من النفايات العضوية. في أوروبا مثلًا، يُسمح بوجود نسبة ضئيلة من المواد كالورق والزجاج والبلاستيك في السماد لا تتعدى 0.5% من وزن النفايات العضوية المُجففة، ومع ذلك فإن البعض يعتبرها كبيرة، خاصّة عندما يتعلق الأمر بالنفايات البلاستيكية وهي خفيفة، وبالتالي فإن عدد القطع البلاستيكية داخل السماد يُمكن أن يكون كبيرًا.. ومما يزيد الطين بلّة أن الكثير من الأكياس "الجديدة" المصنوعة من البلاستيك الحيوي القابل للتحلل لا تتحلل كما يجب فتصبح مُعضلة بيئية بدلًا من أن تكون حلًا، ولا شك أن هناك حلول تقنية مقترحة.. بيد أنه ليس هناك حل مثالي إلا الفصل التام، للنفايات العضوية عن غيرها!
للعلم، في الضفة الغربية وقطاع غزّة، تتراوح نسبة النفايات العضوية من 60%  إلى 70% من أصل 850 ألف طن من النفايات الصلبة بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أي حوالي 500 ألف طن نفايات عضوية فقط، وهناك حوالي 15 محطة لمعالجة هذه النفايات ولكنها لا تستوعب إلا نسبة بسيطة من مُجمل النفايات، هذا غير أن مدينة مثل مدينة رام الله لا تفصل من نفاياتها العضوية إلا 3-4 أطنان أسبوعيًا فقط تتم مُعالجتها في محطة "بيتللو" الحديثة، أما بقية بقايا الطعام فلا يُستفاد منها غالبًا.

خلاصة
سواء كُنا نتحدث عن تقنيات انتاج الغاز الحيوي أو السماد العضوي وحتى المُعالجة بالذباب وتحويل النفايات العضوية إلى رماد لإنتاج الخرسانة فإن لكل تقنية إيجابياتها وسلبياتها. ولكن الحل الأمثل هو بالتقليل منها أو حتى كما يؤكد الباحث البيئي جورج كرزم: "بدلا من "تطبيش" رؤوسنا، كأفراد ومؤسسات، في البحث عن كيفية تدوير كميات "مخلفات" الطعام الهائلة التي تلقى في حاويات ومكبات النفايات، أو ربما استخراج الطاقة منها، فمن الأجدى الامتناع أصلا عن إنتاجها وبالتالي أن نمتنع عن هدر السلع الغذائية أو استهلاكها بطرق مبذرة".

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية