في ذكرى الرئيس الشهيد ياسر عرفات

25/11/2018

كتبت:  المحامية فدوى البرغوثي

يصر الفلسطينيون في كل مكان على إحياء ذكرى استشهاد الرئيس الراحل والقائد المؤسس ياسر عرفات بهذا الشكل أو ذاك وفاء للمبادىء التي آمن بها وقاتل في سبيلها طوال حياته، ولروحه الفدائية التي لم تفارقه لحظة واحدة في حياته حتى استشهاده.

إن الأمم والشعوب تحيي وتحتفي بذكرى الشهداء وتكرمهم بإعتبارهم ضميرها الحي واعترافاً بتضحياتهم العظيمة ولكن الأهم في التكريم يتجلى بالتمسك بالمبادىء والقيم والأهداف التي ضحوا بحياتهم في سبيلها، كما أن التكريم يتجلى ويتجسد في مواصلة طريقهم ومتابعة خطواتهم والسير على دربهم، درب المقاومة والفداء والتضحية ولا معنى لإقامة الطقوس في غياب هذه المعاني الحقيقية.

وبعد 14 عاماً على رحيلك يا سيادة الشهيد نقول لك بكل صدق وصراحة أن المشهد الفلسطيني في أسوأ حالاته وأخطر مراحله، فالاستيطان الاستعماري تضاعف أكثر من خمس مرات لعدد المستوطنين والمستوطنات ومئات آلاف الدونمات تم مصادرتها وعمليات سرقة الأرض تجري في كل يوم، وتتعرض القدس للعدوان والتهويد والاستيطان والتهجير وإغلاق المؤسسات واحدة تلو أخرى ويتعرض أهلها المرابطين الصامدين لأبشع الممارسات من قتل وملاحقة وهدم للمنازل وسحب الهويات والضرائب والغرامات، كما يجري تسريب العقارات والاستيلاء عليها وتزوير تاريخ المدينة وواقعها، ويتعرض مئات الأطفال والشباب المقدسيين للاعتقال والتعذيب و تتعرض المقدسات الإسلامية والمسيحية للتدنيس على مدار الساعة.

ومنذ استشهادكم تعرض للاعتقال والتعذيب أكثر من 150.000 فلسطيني وفلسطينية، والاعتقالات والمداهمات الوحشية واقتحام البيوت والمدن والقرى والمخيمات هو مشهد يومي على مدار الساعة، فلا حصانة لأحد باستثناء شريحة محدودة، والسجون الإسرائيلية مليئة بالمناضلين وأكثر من ألف أسير فلسطيني قضوا عقداً أو أكثر في السجون، وبعضهم عقدين أو ثلاثة والبعض يقترب من إنهاء العقد الرابع في السجن، وما من أحد يكترث، كما أن رفيق دربكم وشريك مسيرتكم القائد المناضل الوطني مروان البرغوثي ما زال في زنازين الاستعمار منذ 17 عاماً ولم يفعل أحد او يبذل جهداً لاطلاق سراحه وأخوانه الأسرى.

أما قطاع غزة الذي ما زال يهتف بإسمكم ويخرج بمجموعه لإحياء ذكرى استشهادكم فقد تعرض لثلاث حروب عدوانية وحشية أدت إلى استشهاد آلالاف وإصابة عشرات الآلاف من أبناءه وتدمير عشرات آلاف البيوت والبنية التحتية. يعيش الغزيون منذ ما يزيد عن 11 عاماً بلا ماء صالح للشرب وبلا كهرباء بسبب الحصار الإسرائيلي وقد بلغت المعاناة الانسانية حداً لا يطاق ووصلت معدلات الفقر والبطالة واليأس لدرجة دفعت بعشرات الآلاف إلى مسيرات العودة بهدف إسقاط الحصار واستعادة استئناف الحياة شبه الطبيعية وحتى الآن فإن ما تعرضه حكومة الاحتلال لا زال مجحفاً كالحصار نفسه.

إن معاناة قطاع غزة لن تنتهي إلا بانهاء شامل للاستعمار والاحتلال والحصار لكل الأرض الفلسطينية المحتلة وأن الحد الأدنى المطلوب لاستئناف حياة شبه طبيعية في غزة يكمن في إنهاء الحصار كلياً براً وبحراً وجواً وفتح المعابر في كافة الاتجاهات بشكل كامل وعلى مدار الساعة وإعادة الكهرباء وإنجاز إعادة الإعمار وبناء البنية التحتية من جديد، وإعادة بناء وتشغيل المطار وبناء الميناء البحري وفتح الممر الآمن بين غزة والضفة، ودون ذلك ستظل أية ترتيبات قاصرة ومعرضة للعودة إلى نقطة الصفر، ويبقى الحل الحقيقي الدائم والطريق الأقصر لتحقيق طموحات أهلنا في غزة وطموحات شعبنا في الوطن والشتات هو إنجاز المصالحة الوطنية وإنهاء الإنقسام، ومن حق أهلنا وشعبنا العظيم في غزة الذي قدم نموذجاً عظيماً في التضحية والفداء أن يحيى بكرامة وأن يحظى بحياة إنسانية كريمة بالحد الأدنى.

إن مشهد الانقسام الأسود يا سيادة الرئيس الشهيد قد أكل الأخضر واليابس وألحق دماراً شديداً بالحركة الوطنية الفلسطينية وبالنظام السياسي الفلسطيني ممثلاً بـ (م.ت.ف) والسلطة الوطنية، وأدى إلى تدمير التجربة الديمقراطية ومزّق وحدة الشعب والقضية والقيادة والأرض، وكل محاولات المصالحة والجهود المخلصة التي تبذلها جمهورية مصر الشقيقة والجهود الفلسطينية من الشخصيات والهيئات والحراك كل ذلك باء بالفشل على صخرة تمسك الفئات المستفيدة من الإنقسام به.

إن السلطة الوطنية التي شيدّتها يا سيادة الرئيس قبل قرابة ربع قرن تحولت سلطة بلا سلطة، وبتنا تحت احتلال بلا كلفة، وفي ظلها تتضاعف وتيرة الاستيطان وتكريس استراتيجية الاستعمار الاسرائيلي بتقويض إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، و لتحويل السلطة من جسر للعبور للحرية والعودة إلى جسر لإدامة الاستعمار والاحتلال وتحويل التنسيق الأمني من آلية جزئية في إطار مشروع سياسي لإقامة الدولة إلى أداة لكبح وشل مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال.

أما (م.ت.ف) التي تحولت تحت قيادتكم من منظمة تابعة وخاضعة للوصاية إلى إطار وطني ثوري جامع وقائدة لمسيرة التحرر الوطني الفلسطيني فقد تحولت الآن إلى إطار هش ومحدود التمثيل للقوى الوطنية الفاعلة حتى الشركاء التاريخيين (الجبهتان الشعبية والديمقراطية) غابوا عن المجالس الأخيرة عوضاً عن غياب قوى سياسية وازنة وفاعلة كحركتي حماس والجهاد الإسلامي وشخصيات فلسطينية وازنة.

العملية الديمقراطية التي دشنتها عام 1996 غائبة ومؤسساتها مشلولة، والحريات وحقوق الانسان تتعرض للمضايقة وأحياناً للملاحقة والمصادرة.
رغم كل ذلك نقول يا سيادة الشهيد إن هناك 13 مليون فلسطيني نصفهم يعيش ويصمد على أرض فلسطين مسكونين بفلسطين ويتمسكون بها وطناً تاريخياً لا بديل عنه، وهم يواصلون رحلة الكفاح في الشتات والمنافي وبلاد الإغتراب ومؤمنون أن فجر الحرية أت لا محالة، وأن الشعوب لا تتنازل عن أحلامها وطموحاتها الوطنية مهما بلغت معاناتها، فلنا في شعبنا العظيم المثال والقوة، فلا تزال القدس عنوان الثبات والصمود وسيرحل ترامب ونتنياهو عاجلاً أم آجلاً وستبقى فلسطين والقدس كما بقيت على مر التاريخ رغماً عن كل الغزاة والمستعمرين والمتواطئين معهم، سيبقى الشهداء والأسرى الأبطال أحياءا في قلوبنا وضمائرنا وعقولنا وكفاحنا ونضالنا.

إن الوفاء لسيادة الشهيد ياسر عرفات وكل الشهداء ولتضحيات شعبنا وصموده يتجسد ويتجلى أولاً في النضال والعمل المخلص لإنهاء الانقسام فوراً وتحقيق المصالحة الوطنية وعقد مؤتمر وطني للحوار الشامل بمشاركة الجميع دون استثناء، وتشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ولعضوية المجلس الوطني، وإعادة الحياة للنظام السياسي الفلسطيني وبناء وتطوير (م.ت.ف) بمشاركة كافة القوى والفصائل، وتكريس مبدأ الشراكة الوطنية الكاملة في مختلف القطاعات والمستويات وإستعادة العملية الديمقراطية واحترام التعددية السياسية والحزبية، واحترام استقلال القضاء وسيادة القانون، وتوحيد المؤسسات في الضفة والقطاع وفق قوانين محددة، ومكافحة الفساد ورموزه، واحترام الحريات وحقوق الانسان وحرية الرأي والاعتقاد وحرية الصحافة، وتكريس حقوق المرأة ومشاركتها الكاملة في الحقوق والواجبات، واحترام شروط وقواعد مرحلة التحرر الوطني وفي مقدمتها تغليب التناقض الرئيسي على الاستعمار والاحتلال على مختلف التناقضات الثانوية.

تحية لسيادة الشهيد ياسر عرفات وإلى شهداء شعبنا العظيم ولأسراه وجرحاه وكل المناضلين القابضين على الثوابت والمبادىء والمناضلين من أجل الحرية والعودة والاستقلال.