أمل أخضر... من أسطح عين الحلوة

26/05/2019

وطن للأنباء- سعد داغر

لم يكن دخول المخيم عادياً، تتقاذفك أحاسيس مختلطة وأنت تقف على بابه، دون معرفة الأسباب، تقدم جواز سفرك ثم يُسمح لك بالدخول، بعد رحلة طويلة من البقاع نحو دير القمر، مع انتهائي من دورة تدريب في بلدة "سعد نايل" قرب زحلة استمرت عدة أيام. كانت دورة مميزة من حيث جمهور المشاركين، الذين جاؤوا من المغرب، الجزائر، تونس، مصر، سوريا، لبنان وفلسطين. هناك بالقرب من "سعد نايل" زرنا "بيت البذور" في بلدة "تعنايل"، أنشأته جمعية "بذورنا جذورنا"، التي تضم في عضويتها سوريين ولبنانيين

في بلدة "دير القمر" نلتقي بالصديق كريم، الذي بدأ رحلته لتجربة إنتاج الخضار على المساطب المرتفعة، منتهجاً أسلوب الزراعة البيئية، يبحثون في التطبيقات العملية ويبنون فلسفتها. التجربة الفلسطينية في الزراعة البيئية تلقى صدى في لبنان، كما في بلدان عربية أخرى، يتابعون ما يجري عندنا باهتمام.


نخرج في جولة في البلدة الجميلة، لنلتقي بمزارع مصري يعمل في بستان، مزروع بأشجار مختلفة، لكن المساحة الأكبر تحتلها شجرة الزيتون. يسألني: بماذا تنصحني لعلاج أشجار الزيتون هذه، التي تتدهور صحتها رغم كل ما أقوم به من أعمال للعناية بها من تسميد، ري وتشحيل (تعني تقليم باللهجة اللبنانية)؟ نظرت للأشجار وتأملت حالها المحزن، وعدت بنظري لصديقنا المصري: أنت تستخدم مبيدات الأعشاب على أقل تقدير منذ أكثر من عشر سنوات، أليس كذلك؟ فأجاب: بل منذ حوالي عشرين سنة!!!
أنصحك يا صديقي بما يلي:


أولاً: توقف عن رش مبيدات الأعشاب، فهي التي أوصلت الأشجار لهذا الحال، وسيتفاقم الوضع أكثر مع الاستمرار بتسميم الأرض، التي تحتضن هذه الأشجار. بدل ذلك قم بقص الأعشاب واتركها تغطي السطح.
ثانياً: استخدم السماد الطبيعي ولا تستخدم الكيماوي.
ثالثاً: استمر في التقليم الجيد وهذا يكفي.
ينتهي نهار ذلك اليوم، ونتجه جنوباً، لنصل إلى "صيدون"، أعود مرة أخرى لتلك البلدة الوادعة الجميلة بطبيعتها الخلابة وبجمال أهلها، وصلنا والصديقة ريتا في انتظارنا، وموقد النار مشتعل فالبرد شديد ولا بد من شيء من الدفء.


ننتقل في الصباح إلى البساتين بعد أن جاء العزيز الصديق بسام، المبدع في مجال تربية النحل، وذهبنا في رحلة مشي، ومرة أخرى … حقول الزيتون. ريتا تزرع البرسيم تحت أشجار الزيتون لتقصه وتتركه يغطي الأرض، بينما جارها يستخدم مبيدات الأعشاب، أي ضلال هذا؟ الفرق واضح بين الأشجار، فزيتون الجار بدأ يفقد أوراقه، وتميل الأوراق إلى اللون الأصفر، والعكس في بستان عائلة ريتا. رش مبيدات الأعشاب يقلق بسام كثيراً، فهو مربي نحل ويدرك تماماً الخطر الكبير لمبيدات الأعشاب السامة على هذا المخلوق الرائع-النحل وعلى التوازن الطبيعي ككل، وبنفس المستوى يُقلق ريتا وأماني وكريم وأليكسي فهم جميعاً من أركان جمعية التراب اللبنانية، التي تركز نشاطاتها في مجالات حماية البيئة ونشر الأساليب البيئية في الزراعة، وتعمل الجمعية مع غيرها لمنع مشروع بناء سد بِسري، الذي سيدمر منطقة طبيعية وأثرية من أجمل مناطق لبنان.


في لبنان، كما في فلسطين، شباب متحمس لنشر الأساليب الزراعية البيئية، لقد ضاقوا ذرعاً بما يجري من تسميم لكل ما يحيط بنا، وتسميم أجسامنا، شباب نذر نفسه لإحلال سياسة الحياة مكان سياسة الموت، الموت البطيء بتلك السموم التي تسمى كيماويات زراعية ويرفضون ذلك التضليل الكيماوي في الزراعة.
في المخيم
هناك في لبنان كما هنا في فلسطين، بدأ حرفيو الأرض بالاختفاء، وأعدادهم تتراجع، فليس سهلاً أن تجد من يتقن بناء السناسل بلهجتنا الفلسطينية أو الحيطان باللهجة اللبنانية، أو من يتقن فن تقليم الزيتون أو إنتاج البذور البلدية، وحل محلهم أناس ينشرون السموم في الحقول، الحقول التي رعاها الآباء والأجداد منذ عشرات، بل مئات السنين وأطعمت أجيالاً وأجيال.
مع الظهيرة، ينتهي اللقاء وأودع صيدون مرة أخرى على أمل لقاء قريب، لننتقل عبر طرق جبلية تكشف عن مزيد من جمال تلك الطبيعة، إلى هناك … إلى أسطح عين الحلوة.


تلتقينا على باب المخيم وفاء، أسير في الشارع الرئيسي وأحس برحابة المكان، ليس لأن الشارع واسع، ولكن إحساس يحتل  كيانك وآنت القادم من أرض فلسطين، لتعبر المكان، حيث الفلسطيني مثلك، صاحب أرض فلسطين، يقبع هنا، مع كل حنينه لهذه الأرض، التي أُخرج منها والده أو جده بالقوة بفعل العصابات الصهيونية، وما تزال روح الابن أو الحفيد معلقةٌ هناك. هذا خباز سمع بمجيئك، فطلب أن يلقي عليك تحية، أدخل فرنه، فيلتقيني ونحضن بعضنا دون أن نعرف بعض … إنه هوى هذه الأرض النازفة.
ووسط الشارع هناك بائع ورد …. أتبيع الورد هنا يا هذا؟ نحن في هذا المكان نحب الورد وأنا هنا منذ عشرين عاماً، مذ قدمت من سوريا!! من سوريا؟ نعم، أنا سوري، تزوجت من فلسطينية وانتقلت للعيش هنا، أعشق المخيم ولن أغادره إلا إلى القبر أو فلسطين. وأنا مثلك، اهتمامي وشغفي معلق بالزراعة وللورود نصيب من حياتي واهتماماتي، نحن نتشارك الوظيفة والرسالة أخي.
رايات مختلفٌ ألوانها واجهات مبانٍ تروي حكايات وحكايات، مُطرزة بثقوب صنعها رصاص حربٍ خارجية أو اقتتال داخلي …. لا يهم، النتيجة واحدة: رائحة بارود وموت. ولكن للحياة هنا مذاق مختلف، أسير في الأزقة، التي "يمخر عُبابها" سيل بشري، شباب وشابات، باعة في وسط الشارع ومحال تجارية ضيقة، يستهوني في "عين الحلوة" خاتم بلون فضي، أشتريه ليلتف حول إصبع يدي لأبقى هناك ويبقى هنا.


نصعد الدرج، هنا "ناشط": مؤسسة ترى عين الحلوة خضراء، نأكل كعك القدس بسمسم، فقد جاءوا بالوصفة من القدس، لصناعة كعكها هنا في عين الحلوة. تحدثنا حول الزراعة …. نعم الزراعة في المخيم، حيث لا أرض للزراعة، ولكن هناك المساحات …. مساحات واسعة للزراعة …. لإنتاج الغذاء …. ليمارس اللاجئ ما اعتاد جده ممارسته هناك في فلسطين… ولكن هنا في عين الحلوة حيث تضيق المساحات وتكاد السماء تطبق على الأرض لضيق المكان، يبقى للزراعة متسع ومتسع …. مساحات واسعة من الأسطح، تمثل متنفساً لأصحابها.


الحدائق المعلّقة
بعض أسطح عين الحلوة تحولت إلى حدائق تنتج الخضار لأصحابها، وتجهد أماني داغر، إبنة "تنورين" على جعل هذه الزراعة زراعة بيئية، فإيمانها بهذ النهج الزراعي عميق وراسخ رسوخ أرز لبنان. نصعد لسطح المؤسسة، داخل الخيمة (البيت البلاستيكي باللهجة اللبنانية) محاصيل متنوعة، تنمو بصحة ممتازة، داخل خليط من التربة الغنية بالمادة العضوية، السماد الأساسي المستخدم هو السباخ/الكمبوست. خليط النباتات والريحان يبقي النباتات محصنة أمام الآفات. الفلفل، البندورة، الخيار والفاصوليا وغيرها تتواجد في نفس الوقت في نفس المكان داخل الدفيئة، وكذلك هو الحال خارجها في المساحة المتبقية من السطح، وهذا مبدأ من مبادئ الزراعة البيئية. يتحدث القائمون بحماس عن مشروعهم الناجح بكل المقاييس. فالمنتج صحي، والإنتاج عالي ومتنوع وكثير من الناس ترغب بعمل مشروعها الخاص على سطح منزلها.

ننتقل إلى سطح جديد، لنجد الخضار من كل الأنواع مزروعة عليه: البندورة، الخيار، الباذنجان، البصل والثوم، النعنع والجرجير والسبانخ والزعتر، إلى جانب شجرة ليمون وعنب. تجد ذلك الفرح والافتخار لدى صاحب البيت وهو يتحدث عن مزروعاته، وعن محلول السماد الطبيعي الذي ينتجه ويروي به النباتات، ينتج ما يحتاج لأسرته ويزيد.


هذه الزراعة على تلك الأسطح الرمادية في عين الحلوة، تشكل متنفساً لأهلها، وعليها ينتج أصحابها ما يحتاجون من الغذاء الصحي السليم بلا سموم كيماوية، ليحققوا نوعاً من الاكتفاء الذاتي من الخضار الموسمية، وليوفروا المال الشحيح أصلاً.
استلهمت مؤسسة "ناشط"، التي ترعى وتتبنى مشروع زراعة الأسطح في عين الحلوة مشروعها، من تجربة هنا في فلسطين، تجربة زراعة الأسطح في مخيم الدهيشة، جنوب بيت لحم، حيث قامت مؤسسة "كرامة" بتنفيذ هذا المشروع في مخيمات جنوب الضفة الغربية. يزرعون التربة على الأسطح، لتبقى أعينهم على تراب الآباء والأجداد هناك، في تلك الأماكن، التي هُجِّروا منها قبل عقود من الزمن، ولكن الحنين والسعي للعودة لم يغادرهم يوماً.


وما بين مخيم عين الحلوة ومخيم الدهيشة يقع في المنتصف مخيم الفارعة، مع تجربة فردية مُلهمة يقودها هناك الصديق عمر منصور في شمال الضفة الغربية، الذي ينتج على سطح منزله وسط المخيم، كل ما يحتاج من خضار موسمية ويوزع ما يزيد عن حاجته. ويبدو أن هذا الإلهام في المخيمات الثلاث سينتقل بعدواه إلى اللاجئين الفلسطينيين في طرابلس شمال لبنان.
ولا تغيب زراعة الأسطح وإنتاج الغذاء عن قطاع غزة، فمشروع مركز العمل التنموي "معا" في مخيم البريج مع جمعية "البيت الفلسطيني" ومشروع مراكز العائلة، إضافة إلى مبادرات كثيرة جداً هناك تشكل ظاهرة، تميز قطاع غزة، الذي يعاني من حصار ظالم، لتصبح زراعة الأسطح، رافداً من روافد الدخل للأسر المنضوية في هذه الأنشطة، ومحطات إنتاج غذاء للأسر. هي صحوة نحو تعزيز مبدأ الاعتماد على الذات، بإنتاج الغذاء والاستقلال في هذا الإنتاج، والتي تعمّ العديد من أماكن تواجد اللاجئين الفلسطينيين، وتشكل حالة فريدة في تعزيز مبادئ الاعتماد على الذات.

 


خاص بآفاق البيئة والتنمية