هل أصبح الدّم ماءً ... وخرج الظفر من اللّحم ؟؟

12/07/2019

كتبت: أسماء سلامة

الدّم ما بيصير ميّ ، وعمر الظفر ما بطلع من اللّحم، هاتان المقولتان كانتا للتعبيرعن مدى قوّة أواصر العلاقات بين الأقارب ، وصلة الدّم ، وأنه مهما حصل بين الأخوة والأقارب فإن صلة الدّم ستمنع لا محالة تفشي العداوة وقطع العلاقات بينهم ، ولكن هل هذا فعلاً صحيح وحقيقي ؟؟ هل فعلاً لا يمكن أن يخرج الظفر من اللحم والدم عمره ما بيصير مي ؟

حضرت في السنة الماضية ، العديد من المناسبات ( أعراس ، حفلات تخرج ، بيوت عزاء ) ، ولاحظت غياب العديد من الأقارب ( الدرجة الأولى تحديداً ) عن المشاركة في مناسبات أقاربهم ، فرحاً كان أم حزناً ، الأمر الذي بدا لي غريباً وغير مبرر ، فمهما كانت الخلافات بين الأقارب فإن المناسبات تعتبر فرصة لتصفية النفوس ، والمشاركة فيها هو بادرة لحسن النوايا ودليلاً على الرغبة في إنهاء الخصومة . أما أن تصل الأمور إلى حد عدم دعوة طرف لآخر ، أو عدم تلبية الدعوة من الطرف الآخر هو أكبر دليل على الإصرار على البغضاء والكره ، فما الذي طرأ على مجتمعاتنا لنصل إلى هذا الحد من قساوة القلوب ؟ أن لا أشارك أقاربي في فرحتهم ، ولا أشاطرهم أحزانهم ، بل وأتباهى وأتفاخر بذلك أمام الجميع .

تلفت هذه الظاهرة انتباهي منذ مدة ليست قصيرة ، وبدأت أتابع ما يتناقله البعض على وسائل التواصل الاجتماعي من منشورات فيها مشاعر الكراهية تجاه الأقارب واضحة جداً ، تحديداً منشورات ( #مقصودة ) التي أعتبرها قمة في السطحية وعدم المسؤولية ، إن كان لك تحفظ على موقف لقريب، أو تخالفه الرأي أو تعارضه بشدة ، ليكن الحوار بينكما هو الطريق للتفاهم ، أما مسألة ( الردح ونشر الغسيل ) على وسائل التواصل هذه أمور لا ترتقي لتصرفات الناس العقلاء أبداً ، ولا تحقق أي نتيجة إلا زيادة صب البنزين على النار وتأجيج الخلافات ،  البعض يتصيد للآخر بمراقبة منشوراته ، وباتت قصة  ( screen shot ) من أهم الأدلة التي (يمسكها) البعض ضد الآخرين ،  وحجة قوية لإثبات الحق .

هذا واقع بالفعل وواضح للجميع ، ولكن لو بحثنا عن بعض أسباب هذه الحروب العائلية ، والتي تصل نتائجها إلى حد قطع الأرحام ، والقتل أيضاً ،  نجد أن بعضها يعود لمسائل مالية ( ميراث ، شراكة فاشلة ، ديون غير مسددة ) أو أمور النسب التي فشلت وانتهت بالطلاق بين المتزوجين وبين عائلاتهم ،أو كون الأقارب جيران في السكن ويحدث مشاحنات بين الأبناء مثلاً ،  وهناك أسباب غير مفهومة ولا واضحة ولا منطقية أيضاً ، فإن حاولت الفهم ستتوه وما أن تمسك طرف الخيط حتى تفلته من جديد ، تقتصر هذه الخلافات على تناقل الكلام وفي كثير من الأحيان على لسان الآخرين ( بيقولوا ... قالوا ) يعني لم يتم الكلام في مجلس واحد ( واحد يحكي والثاني يسمع ) ، كم هي مؤلمة هذه الحالة ، أن تخسر أخاك أو أختك أو ابن عمك لأنك سلّمت أذنك لألسنة الناس ، هل تبيع آخرتك لمجرد تناقل لأحاديث لا تعرف فعلاً مدى صحتها ؟؟

أين  الترابط العائلي الذي كان قديماً يجمّل مجتمعنا الفلسطيني ،  كان العرس يؤجل لأشهر لحضور الغائبين من السفر ،  لأنه ( ما بصير البنت تطلع بدون عمها أو خالها  ) ، وكانت الأعراس تؤجل لسنة أحياناً بسبب وفاة شخص ( ما بصير نعمل عرس الناس فاقدة ) ، وأنت اليوم تذهب لبيت عزاء وتخرج منه لتدخل في البيت المجاور لتبارك في عرس ،  كانت العروس تخرج من بيت أهلها بعزوة  (أب و أخوة وأعمام وأخوال وأبناء عمومة ) من تشد بهم ظهرها ، والعريس يزف بين أهله وأقاربه وجيرانه ، واليوم قد لا يحضر طرف كامل من أهل أحد العرسان لخلاف بين الأب وبيت حماه أو لغياب أب عن تحمل مسؤولياته تجاه ابنه أو ابنته لأنه فقط ( طلّق والدته/ ها ) .
تفكك رهيب يغزو مجتمعاتنا ، وهو آخذ في الازدياد بشكل ملحوظ ، في المدن والقرى على حد سواء ، وعلى اختلاف المستويات الثقافية والاقتصادية والتعليمية . أصبحت العلاقات القوية بين أفراد العائلة الواحدة تعتبر أمراً غريباً ، وتسمع بعض جمل الاستغراب من البعض  ( نيالهم كلهم قلب واحد وإيد وحدة ) ، كانت العائلات المفككة هي الغريبة ، وباتت المتماسكة الآن !! أصبح من الطبيعي أن يلتقي الأخوة صدفة في مناسبة تخص طرفاً آخر ، أو أن يلتقوا في مطعم أو مكان عام ، فيتفاجأ كل منهم بالآخر ، وكأن  أشهراً مرت على آخر لقاء جمعهم . أو أن يعرف الأخ أخبار أخيه من المعارف والأصدقاء المشتركين .

كانت جدّتي رحمها الله تردد أكثر من مثل بهذا الخصوص : ( إنت وأخوك على ابن عمّك ، وإنت وابن عمك على الغريب ) ، ( اللي مالو كبير بيشتري كبير ) ، ( الدم  ما بيصير مي ) ، ( الظفر ما بطلع من اللحم ). يبدو أن الدم قد أصبح ماء يا جدتي ، وخرج الظفر من اللحم ، وصبر البعض على ألمه الرهيب ، ويبدو أننا أصبحنا مع الغرباء أكثر ألفة منا مع أقاربنا ، وأن الكل أصبح كبيراً ، تأخذه الكرامة والعزة بالنفس والحميّة لتصل إلى درجة تغييب العقل وتعتيم البصيرة ، وحلّت العصبية مكان الحلم في معالجة المشاكل وحل الخلافات مع أقرب الناس له . بات من الطبيعي أن لا نصل رحمنا حتى في الأعياد ، ولا نعطي حق الله لبناتنا في الميراث ، باتت بيوتنا لا تتسع لمسنّينا ونتثاقل من خدمتهم . بات حضورنا ( إن حضرنا ) مناسبات أقاربنا مجرد رفع عتب ، نراقب ما يجري لنتصيد الأخطاء والهفوات ونجعلها مادة للحديث في مجالسنا لاحقاً لمجرد الشماتة أو التسلية . أصبحنا لا نعود مرضانا ولا نشارك في فرحة  تخرج أبناء أقاربنا ونكتفي بكتابة منشور تهنئة على وسائل التواصل الاجتماعي . وباتت الاجتماعات العائلية في مختلف المناسبات هي كالهمّ عند البعض أو كالعقاب ، يحسبون الزمن بالدقائق ليمضي الوقت ويتم الإفراج عنهم .

هذا بالإضافة لمسألة ( القرضة والدين ) ، نعامل أبناء عائلاتنا بمبدأ وحدة بوحدة ، من زارني زرته ، ومن بارك لي باركت له ، ومن دعاني دعوته ،  ومن قدم لي واجب العزاء قدمت له ، لم يعد لدينا دافع للمبادرة بالمشاركة أو العطاء ، فانطفأت زهوة الأفراح ، وانتقصت كراسي الحضور في الصف الأول . علّها تعود لتمتلئ من جديد .

لو تركنا الأمور المادية ، وركزنا على فهم عمق العلاقات والروابط بيننا كأقارب ، لاستطعنا أن نترك الخلافات جانباً أو على الأقل أن نقتصد في الخصومة فلا تصل حدّ القطيعة والجفاء ، فلتبقى شعرة معاوية موجودة ، أن نبادر في المصالحة فالعفو من شيم الكرام ، أن لا نعتبر أن التغاضي عن الخطأ هو انتقاص من قيمتنا وكرامتنا ، أن لا نعطي آذاناً صاغية للمغرضين ومرضى النفوس ، أن لا نكون من يُقال فينا :

" وظلم ذوي القربى أشد مضاضة    على المرء من وقع الحسام المهند

أن نبقي الظفر في اللحم وأن يبقى الدم دماً ، فالأقارب ليسوا عقارباً ، وأخوة يوسف ليسوا مثال العلاقة بين الأخوة ، بل من كان السند لموسى وطلبه من ربه ليشدد به أزره .